أفريقياالأخبارالشرق الأوسطمتابعات

سيد قطب.. ملامح خطة التحرّر الثوري الإسلامي التي تثير الجدل إلى اليوم

سيد قطب.. ملامح خطة التحرّر الثوري الإسلامي التي تثير الجدل إلى اليوم

“إن المبادئ والأفكار في ذاتها -بلا عقيدة دامغة- مجرد كلمات خاوية، أو على الأكثر معان ميتة، والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المُشِعَّة من قلب إنسان. لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مُشِع. لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان ولم تصبح كائنا حيا دبَّ على وجه الأرض في صورة بشر، كذلك لا وجود لشخص لا تُعمِّر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص. كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، أما الأفكار التي لم تتطعَّم هذا الغذاء المقدس فقد وُلِدَت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الأمام”.

(سيد قطب)

يستمر الجدل بشأن أفكار وكتابات المفكر المصري “سيد قطب” من حيث قوة وعمق تأثير كتاباته على البيئة السياسية والفكرية، وتعدِّيها مرحلة التنظير إلى مرحلة الممارسة مع ظهور تنظيمات ادّعت تبنِّي ما أسمته “منهج” قطب الحركي، بما في ذلك بعض التنظيمات السياسية وحتى الجهادية التي أثّرت تأثيرا واضحا في النظام الدولي. هذا ولا تزال كتابات قطب وأفكاره تثير جدلا إلى اليوم، بين مدافعين عنها بوصفها كتابات ثورية لا تدعو إلى تكفير المجتمعات بل إلى تحريرها من الاستبداد والتسلّط وتجبُّر الحكام وفق المنهاج الإسلامي، وبين من يرون بأنها وضعت الأسس الفكرية للحركات التي تستخدم العنف وسيلة للتغيير وتُكفِّر مخالفيها، وامتدّ ذلك إلى ما نسبوه إلى سيد قطب من مسؤولية عن أحداث كبرى حدثت بعد موته بعقود.

وقد لوحظ مؤخرا استدعاء نصوص سيد قطب مجددا وإثارة الجدل بشأنها في إطار الحملة التي تستهدف وصم جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب منذ عام 2013، بالإضافة إلى الاستدعاء الدرامي لشخصية سيد قطب بعد مرور أكثر من نصف قرن على إعدامه في الكثير من المناسبات. يأتي ذلك كله سعيا لمواجهة كتابات تقف على الطرف النقيض، داعية لإحياء فكر قطب وإعادة قراءة نصوصه، وإعادة الاعتبار لها بوصفها “مانفيستو” للتحرّر الثوري الإسلامي من الاستبداد السياسي؛ ما فاقم من حالة اللغط بشأن كتابات قطب ونصوصه وأفكاره التي سنحاول الوقوف على أهمها وذكر محطاتها وخلفياتها التاريخية.

سيد قطب (مواقع التواصل الاجتماعي)

يحاول هذا التقرير الإجابة عن سؤال رئيسي: هل يمكن اعتبار كتابات/ تنظيرات سيد قطب منهاجا تحرريا من الاستبداد السياسي، أم أنها مجرد نصوص غاضبة على الاستبداد؟ وهو ما يمكن تقسيمه إلى عدة أسئلة فرعية، أهمها: ما أبرز كتابات سيد قطب؟ وما المحطات التاريخية والفكرية التي مرَّ بها؟ وكيف حكمه السياق التاريخي؟ وما مفهومه عن الدين والدولة والأمة؟ وغير ذلك من الأسئلة.

البدايات الأولى

وُلد سيد قطب في أكتوبر/تشرين الأول عام 1906 بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، لأسرة محافظة متدينة، وارتحل بعد ذلك ليستكمل دراسته في “دار العلوم” بمحافظة القاهرة. وقد بدأ حياته أديبا روائيا مال إلى تبني المناهج الاشتراكية، ومنها ما كتبه في مراحله الأولى مثل “كُتب وشخصيات”، ولمع نجمه في الأدب بعد كتاباته الأدبية والشعرية المتنوعة ومنها “الشاطئ المجهول” عام 1935.

بعد ذلك، ارتحل “قطب” إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1948 من أجل بعثة لدراسة المناهج الأميركية. وقد مثّل تلقيه لنبأ مقتل “حسن البنا” -مؤسس جماعة الإخوان المسلمين- في فبراير/شباط 1949 نقطة تحوُّل مهمة في تحرُّكاته، فعاد بعدها إلى مصر وبدأ التفاعل مع شباب الإخوان فكريا وأدبيا وتنظيميا، حتى انضم إليهم ورأس تحرير جريدتهم الأولى بعد حركة الضباط في يوليو/تموز 1952. وفي الوقت نفسه، تمتَّع قطب بعلاقة ربيعية وثيقة مع تنظيم “الضباط الأحرار” قبل حركتهم، لكن هذا الربيع سرعان ما انقلب خريفا بعد اتهام “عبد الناصر” للإخوان بمحاولة اغتياله عام 1954، ليقضي قطب على إثر ذلك سنوات في المعتقل، حتى توسَّط للإفراج عنه الرئيس العراقي “عبد السلام عارف” عام 1964 بعفو صحي.

انتهج قطب بعدئذ تحولا آخر نحو الكتابات الثورية التي نظَّرت للتحرُّر من الاستبداد وتأسيس “العصبة المؤمنة” المبنية على “العزلة الشعورية” لتغيير “المجتمع الجاهلي”. ففي كتابه الأشهر والأكثر إثارة للجدل “معالم في الطريق”، وتفسيره للقرآن “في ظلال القرآن” الذي استكمله قبل إعدامه، بدأ قطب مرحلة جديدة وأخيرة من حياته انتهت باعتقاله مرة أخرى عام 1965 بزعم محاولة قلب نظام الحكم، ليحاكم على إثر ذلك في محاكمة استثنائية انتهت بالحكم عليه بالإعدام وكتابته لنصوص كتاب “لماذا أعدموني؟” التي ردَّ فيها على أسئلة المحققين بشأن أفكاره، حتى أُعدم بعد اعتقاله بعام في 29 أغسطس/آب عام 1966.

امتد تأثير سيد قطب في الأوساط الإسلامية الثورية، وتجاذبته أطراف عدَّة تبنَّى بعضها منهجا ثوريا جهاديا ساعيا لإسقاط الحكم “الجاهلي” وإقامة ما يسمى بـ”الحكم الإسلامي” ومُسترشدا بمقولات قطب الأبرز: “إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكتبت لها الحياة”، وكان أبرزها تنظيم “الفنية العسكرية” الذي حاول الانقلاب على الرئيس الراحل أنور السادات عام 1974، فضلا عن جماعات إسلامية إصلاحية أبرزها جماعة الإخوان المسلمين التي حاولت تبرئة قطب من تهم الدعوة إلى تكفير المجتمعات واستخدام العنف وسيلة للتغيير.

(مواقع التواصل الاجتماعي)

الرحلة إلى أميركا ونقد الحداثة الغربية

لعلَّ من أبرز ما يمكن التوقف عنده في منهج قطب التحرري هو رؤيته للحداثة الغربية وجوهرها، وذلك في كتاباته عن “أميركا”، ومراسلاته لأصدقائه الأدباء التي نشرتها آنذاك مجلة “الرسالة”، وأعاد كتابتها في كتابه “أمريكا التي رأيت”. ويتضح أن تأثر قطب بالحضارة الغربية كان سلبيا، فلم ينبهر بها كأقران عصره، مثل “طه حسين”، بل اعتقد حتمية انهيار هذه الحضارة. ويمكن القول إنه بدأ في بلورة فكرته الأصولية ومنهجه الإسلامي عبر انتقاده للحداثة الغربية، ففي رسالته إلى الأديب “توفيق الحكيم”، كتب قطب: “تزخر أمريكا بكل شيء، إلا أنه هناك شيء واحد ينقص هؤلاء الأمريكان، هو الروح، وهو شيء لا قيمة له عندهم”، ويقول في موضع آخر: “ما أحوجني هنا إلى من أبادله حديثا بحديث، في موضوع غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات. حديثا في شؤون الإنسان والفكر والروح”.

يجادل قطب بأن استمرارية الحضارة الإنسانية تكمن في مقدار ما تقدِّمه من قيم إنسانية، ورأى أن الولايات المتحدة بكل ما أنتجته من منتجات مادية، لم تضف شيئا في ميزان القيم الإنسانية، وهو يُنبِّه على خشيته من غياب التناسب بين عظمة الحضارة المادية التي أنتجها الغرب -ورآها في أميركا- وبين عظمة الإنسان الذي هو مُنشئ هذه الحضارة. وخشي قطب أن يمر الزمن على الحضارة الغربية دون أن تصل إلى مرحلة تضيف فيها رصيدا إلى القيم الإنسانية، أو القيم التي تُفرِّق بين الإنسان والحيوان والشيء. وأعاد قطب التأكيد على فكرة أن “الحضارات تعيش بقدر ما تقدِّم للبشرية”، وذلك في كتابه الهادئ “نحو مجتمع إسلامي”، وفي تقديمه لكتابه الأبرز “معالم في الطريق” كتب قطب: “إن قيادة العالم الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال، لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية، ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم يعد يملك رصيدا من القيم يسمح له بالقيادة”.

لا يبدو أن قطب نحت هذه الفكرة تحديدا بمبرد إسلامي خالص، فقد جادل “أستاذ علم الاجتماع السياسي سعود المولى” بأن قطب تأثر في فكرته عن أميركا بالمفكرين الغربيين أمثال “أرنولد توينبي” و”برتراند راسل” و”أوزالد شبنغلر”، الذين تنبَّؤوا بنهاية عصر “الرجل الأبيض”، وأرجعوا السبب في ذلك إلى أنه لم يعد يملك ما يقدمه للبشرية. هذا ورأى قطب أن الاعتماد على مبادئ الثورة الفرنسية هو ما جعل الحضارة الأميركية قائمة إلى وقته.

من نقد الشيوعية إلى الحضارة الإسلامية

انطلاقا من جدلية قطب بأن استمرار الحضارات يرتبط بقدرتها على العطاء في مجال القيم الإنسانية، فإنه انتقد الشيوعية قائلا إنها ستؤول إلى “النهاية الطبيعية لحضارة خالية من الروح، خاوية من المُثل، ومتجرِّدة من الأحلام”. وتنبأ قطب كذلك بانهيار الشيوعية في العالم الشرقي، مشيرا إلى أنها ستقع في ورطة، ولن تستطيع سدَّ جوع الإنسان إلى هدف إنساني أكبر، وإلى علاقة أشمل وأعم بالكون. وقد استند تنبؤ قطب بأفول الشيوعية على مفهومه عن “القيم الإنسانية”، ومن هنا شرع قطب بالبحث عن الحضارة الجديدة التي تحمل القيم والقادرة على قيادة البشرية، وجادل بأن الإسلام هو الدين الذي يستطيع أن يكوِّن حضارة وارثة للقيم الإنسانية، لكن هذه الحضارة التي قادت العالم لقرون سقطت بسبب تسليمها القيادة لغيرها، وتخليها عن تحكيم هذه القيم، واتباعها مناهج دخيلة عليها؛ ما أسقطها في فخ التبعية.

استطرد قطب طويلا في شرح تفرُّد الإسلام بامتلاكه القيم الإنسانية، وقال إن الإسلام لو لم يكن موجودا، لبَحثت عنه الإنسانية وتحوَّلت إليه. وهنا قال “سعود المولى” إن هذا هو المعنى الذي استدعاه الإسلاميون على هيئة شعار “الإسلام هو الحل” وبدأ في الظهور مع الصحوة الإسلامية في نهايات القرن الماضي، وانهار مع فشل الموجة الأولى من الربيع العربي. وقد رأى قطب أن عودة الإسلام تبدأ بالعودة إلى التراث، واتضح ذلك جليا في رسالته إلى صديقه الأديب “توفيق الحكيم”: “استوح ميراثك تُبدع”.

(مواقع التواصل الاجتماعي)

بيد أن قطب لم يكن يوجِّه نقده أو رفضه للأوضاع القائمة شرقا وغربا مُهملا انتقاد ما يحدث في موطنه، إذ برزت في كتاباته مبكرا نزعة غاضبة من سيطرة طبقة “الباشوات” على الثروة ومصادر الدخل واحتكارها المال، وأن الإنسان “الشرقي” أجدر بالقيادة من الرجل الأبيض إذا تم التمكين له في دائرة التعلُّم. وقال قطب في رسالته إلى الأديب “عباس خضر”: “تصلح أمريكا أن تكون ورشة العالم فتؤدي وظيفتها على خير ما يكون، أما أن يكون العالم كله كأمريكا فتلك هي كارثة الإنسانية بكل تأكيد”. لم يبخس قطب إذن التقدم المادي للحضارة الغربية، بل رأى أنه يكفل لها الاستمرارية في قيادة البشرية. وقد قدَّم قطب صورة سوسيولوجية عن المجتمع الأميركي في كتاباته التي انتقد فيها الرأسمالية والحداثة، مثل “الإسلام ومشكلات الحضارة”، و”نحو مجتمع إسلامي”، و”معركة الإسلام والرأسمالية”، و”المستقبل لهذا الدين”، و”الإسلام والسلام العالمي”.

الاتجاه نحو المنهج الإسلامي

بعد ذلك، تحوَّل سيد قطب من نقده للحداثة والحضارة الغربية إلى الأصولية الإسلامية، أو العودة إلى التراث الإسلامي. ويجدر بنا التوقف عند السياق الذي بدأ فيه قطب الحديث عن المنهج الإسلامي ومعالمه، ألا وهو الحرب العالمية الثانية، التي أحالت العالم إلى دمارٍ كبير، تحدث عنه قطب ووصفه بموت القيم الإنسانية وهلاك الروح البشرية. وبعد عودته من الولايات المتحدة إلى مصر عام 1950، وعزمه الانضمام إلى جماعة الإخوان، كتب قطب رسالته إلى صديقه الأديب “أنور المعداوي” قائلا: “إنني سأعود ببرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين”، ثم نشر كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” الذي تلقّاه الإخوان المسلمون في مصر بحفاوة بالغة وظنوا أنه توجه به إليهم إثر كتابته في الإهداء: “إلى الفتية الذين كنت ألمحهم بعين الخيال قادمين؛ فوجدتهم في واقع الحياة قائمين.. يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، مؤمنين في قرارة نفوسهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين”.

ورغم أنه لم يقصد الإخوان المسلمين بوصفها جماعة، إلا أننا نستطيع القول إن قطب اقترب منهم بعد عودته من الغرب، كما اقترب أيضا من الضباط الأحرار. وخلاصة القول إن منهج قطب الإسلامي تبلور في بداية العقد الخامس من القرن الماضي، وإن اقترابه من الإخوان بعد مقتل البنا عمَّق وضع “الحركة” في منهجه. وقد أشار قطب إلى هذا الأمر بوضوح في كلماته الأخير “لماذا أعدموني”، فقال إن تقرُّبه من الإخوان حدث نتيجة رؤية الغرب لهم بوصفهم القوة المتوقَّع منها أن تقود الإسلام. ودعا قطب إلى استئناف الحياة الإسلامية -أي العودة إلى التراث الإسلامي والاعتماد على النص القرآني- قائلا: “نحن ندعو إلى استئناف حياة إسلامية في مجتمع إسلامي، تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي”.

ما الذي يريده الإسلام؟

يرى قطب أن مهمة الإسلام هي إنشاء “الأمة” التي تقود البشرية، وتحقق منهج الله في الأرض، وأن على هذه الأمة أن تؤمن بحاكمية المنهج الإسلامي، وأن تكون مهمتها إنقاذ البشرية من الضلالة التي عليها. وقد أنشأ الإسلام هذه الأمة ليكون الدين منهاجا يؤهلها لقيادة البشرية ويُعلي من قيمة الإنسان فوق المادة، وينقذها من الجاهلية بواسطة جيل تتحقق فيه صفات القيادة، الذي أسماه قطب بـ”جيل قرآني فريد”، ويقتبس قطب ضمنيا القول المشهور للصحابي “ربعي بن عامر”: “لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.

لذلك، قسَّم قطب تاريخ الأمة الإسلامية إلى 6 مراحل، أولها أن الله بعث الأمة الإسلامية، ومن ثم مرَّت بمرحلة التيه والركام (الدعوة المكية) لمدة 13 عاما، ثم التزمت منهاج الله في إعلاء شأن الإنسان وقادت البشرية، ثم تركت موقع القيادة بعد أن تخلَّت عن النهج الحاكمي (الإسلامي)، واتَّبعت أمما أخرى فتسرَّبت إليها عقيدة التيه. وأتت المرحلة الأخيرة التي حاول قطب التأسيس لها مجددا، وهي عودة “قيادة البشرية إلى الأمة المسلمة”. ورأى قطب أن ما مرَّ به العالم آنذاك أعاد مهمة الإسلام من جديد، وتتضح هنا رؤية قطب لحركة التاريخ بالمفهوم الخلدوني، الذي يشهد صعودا وهبوطا للأمم. وقد وضع قطب منهجه لإعادة بناء الأمة والتحرر من الاستبداد في 5 نقاط.

  • أولا: تأسيس “الجيل القرآني الفريد”

تبدأ الأمة عند قطب ببعث/إنشاء جيل جديد يؤسس لهذه الأمة، وهو يوازي ما بدأ في النشأة الأولى للإسلام، حيث قاد تأسيسَ الدولة الإسلامية جيلٌ من الصحابة التزموا بتعاليم الدين الإسلامي، وخصائص هذا الجيل أنه ينشأ على القرآن، ويستقي منه تعاليمه، وينظر فيه بعمق، ومن ثم يستطيع تكوين الأمة “الإسلامية”. وهذه الأمة بمفهوم قطب غير موجودة الآن، وانقطعت منذ سنين، لكن من الممكن أن تعود مرة أخرى بعد تكوُّن هذا الجيل. والأمة ليست أرضا بعينها أو قوما مختارين (وهنا يعبر قطب فوق القومية)، بل جماعة من البشر تنبثق حياتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وموازينهم من المنهج الإسلامي. إذن ما يكوِّن الأمة عند قطب هو المنهج الإسلامي، الذي تتكوَّن معالمه من جيل ينشأ على القرآن، ومن ثم يُنشئ دولة “إسلامية”، ويقول قطب إن هذه الأمة تُبعث حينما تلتزم بهذا المنهج، مسترشدا بتفسيره لقول الله في القرآن الكريم: “كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”، وتكون مهمتها إخراج الناس بالقوة إلى عبادة الله، ففي هذا تكون الحرية والتحرُّر من عبادة العباد (أي الاستبداد). وقد لاقى هذا التوجه لدى قطب انتقاد الكثيرين، ومنهم الشيخ “يوسف القرضاوي” الذي أنكر أن يُخرج الناس إلى عبادة الله ومنهاج الإسلام القويم بالقوة إن أرادوا هم عكس ذلك.

  • ثانيا: معالم المنهج الإسلامي

“إننا نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداءً، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا”، هكذا دعا قطب ببساطة إلى الأخذ مباشرة من القرآن الكريم بوصفه نصا دينيا مقدسا يحتوي على كل مقومات الحياة، وإن إمعان النظر فيه يعتبر الرجوع إلى الأصل الذي سادت به الحضارة الإسلامية البشرية في السابق. ورغم عبارات قطب الأدبية، فإنه لم يُحدِّد أدوات تفسير القرآن وإدراكه، بل ترك هذه الأدوات لخيال المتلقِّي حينما جعل الحلّ في الرجوع إلى “النشأة الأولى”، وخطَّها في عبارة أخرى جعل فيها علاقة خاصة بين القرآن والمريد استخلاص منهاج منه “إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يُقبل عليه بهذه الروح: روح المعرفة المنشئة للعمل، إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ -وإن كان هذا كله من محتوياته- إنما جاء ليكون منهاج حياة، منهاجا إلهيا خالصا”. بهذا يمكن القول إن معالم المنهج بعد تكوين الجيل، هي أن تصوراته قائمة على النظر في القرآن الكريم، والعودة إليه دوما.

  • ثالثا: المجتمع الإسلامي، وخصائصه

بهذا المنهج القائم على النظر في القرآن بدأ قطب صياغة أسس المجتمع الإسلامي، الذي رآه مجتمعا أخرجه الله وأوجده وأعاد بعثه من جديد في الناس، فالمجتمع الإسلامي في منهج قطب صنيعة إلهية لا بشرية، ومجتمع يتَّبع الشرع الإسلامي، أي أن تصوراته ربانية، وتربط بين أفراده العقيدة الدينية “الإسلامية” التي تقوم على التوحيد وإفراد الخالق بالألوهية والربوبية، ويتعامل أفرادُه بلا تفرقة بين الناس فيه على أساس اللون أو الجنس أو القبيلة، فيجمعهم مبدأ التوحيد -وهو حجر أساس في فكر قطب- ومبدأ الحاكمية، التي يُفسِّرها بأنها تطبيق لشريعة الله في أرضه، وأن يقوم الحكم خالصا لله وقوانينه التي جاءت في الشريعة الإسلامية، وليس في القوانين الوضعية التي أقرَّها البشر خلافا للقوانين الربانية.

  • رابعا: الدولة هي الوطن في الإسلام

انطلاقا من المجتمع، أسَّس منهج قطب تصوراته عن “الوطن/الدولة”، والوطن بمفهوم قطب ليس الوطن/الدولة بالمفهوم الويستفالي المؤسَّس على الحدود المدوَّنة في المواثيق الدولية، والسلطة المعترف بها، بل هو أوسع من ذلك، فالوطن في المفهوم الإسلامي لا حدود تظله، وما دام أن المجتمع المؤسَّس على رابطة العقيدة الإسلامية حاضر، فـ”كل أرض يُظلّها الإسلام هي وطن الجميع”. إذن فدعوة قطب تُختصر في: دولة واحدة، بعقيدة واحدة، لها جنسية واحدة اسمها العقيدة الإسلامية.

يرى قطب أن اللحظة التي يعيشها العالم لحظة جاهلية بسبب غياب “حاكمية” الإسلام، وأن تصوره عن الأمة التي هي أمة إسلامية بالطبع، يستوجب عليها أولا أن ترفض كل ما هو جاهلي. (مواقع التواصل الاجتماعي)

الأكثر جدلا في تصور قطب عن الوطن/الدولة، هو تقسيم العالم بين دارين: دار الإسلام ودار الحرب. فدار الإسلام تهيمن عليها حاكمية الإسلام بمنهاجه، وتنتهي حدودها عندما لا يكون هناك حكم إسلامي، ومن ثم تبدأ من بعدها دار الحرب التي يوصِّف قطب العلاقة معها بعلاقة القتال أو عهد أمان لا يوجب قتالا، بيد أنه أكَّد على أنه لا ولاء بين أهلها وبين المسلمين. وبنظرة قطب إلى “الدولة” نجده يؤطرها بدولة تحكمها شرعة الإسلام، وليس دولة دينية ثيوقراطية، فلم يجعل سلطة لرجال الدين على المسلمين. ولكن لم يتضح عند قطب أي نمط للدولة، بل ولم يُفرِّق بين الدولة في شكلها الحديث القُطري والدولة القديمة غير المحدودة.

  • خامسا: الجاهلية ومفهوم الأمة 

يرى قطب أن اللحظة التي يعيشها العالم لحظة جاهلية بسبب غياب “حاكمية” الإسلام، وأن تصوره عن الأمة التي هي أمة إسلامية بالطبع، يستوجب عليها أولا أن ترفض كل ما هو جاهلي، والجاهلي عند قطب هو ما ليس إسلاميا وينزع إلى الاحتكام إلى شرائع بشرية، أي شرائع من صنع البشر وليست شرائع إلهية. ورأى قطب أن الأمة التي تُبعث لا بد أن يمارس أفرادها “عزلة شعورية” عن المجتمع الجاهلي، ولعل مفهوم العزلة الشعورية هو ما لقي عدة تفسيرات، منها أن تكون العزلة مادية وجسدية عن المجتمع، فتلقّفته بعض الحركات الإسلامية وابتعدت عن المجتمعات ومارست بحقها التكفير، وظنَّت في نفسها الجيل المرسل الذي لا بد أن يمارس عزلته لكي يخرج على الجاهلية ويعلن حكم الإسلام، مثلما فعلت جماعة “التكفير والهجرة” بقيادة “شكري مصطفى”، وجماعات تكفيرية أخرى ظهرت في نهايات القرن الماضي.

جادل قطب بأن العصر الحالي هو عصر قيام الأمة الإسلامية، وأنه موعدها من جديد لاستلام قيادة البشرية. وحدَّد 3 مبادئ تقوم عليها هذه الأمة: أولها، أن تستسلم لحاكمية الله، أي لا تتصالح مع المناهج الأخرى التي وصفها بالجاهلية، وإن كان لا بد من إحداث قطيعة مع المجتمعات الغربية فإن هذه القطيعة تكون في الجانب القيمي والروحي والعقائدي وليس في التطور المادي، لأنه فرض على الأمة الإسلامية أن تمتلك وسائل التطور المادي والتكنولوجي نفسها التي تملكها “العبقرية الأوروبية”. وثانيها، أن تُفرِّق الأمة بين الشريعة والفقه، حيث رأى قطب أن على الأمة التفرقة بين شريعة الإسلام الثابتة (ومركزها الأخلاق الإنسانية كما وصفها “وائل حلاق”) والفقه الإسلامي ذي المذاهب المتعددة، الذي عادة ما شهد اختلافات في فروع الدين.

(الجزيرة)

أما ثالثها، فضرورة وجود تجمُّع عضوي حركي. لا تقوم الأمة الإسلامية عند قطب إلا من خلال تجمُّع “عصبة مؤمنة” يقرُّ بالمنهج الإسلامي وبحاكميته، ويقوم مقام الطليعة التي تقود المجتمع نحو الدولة ثم الأمة الإسلامية التي تقود البشرية. وليست الدعوة إلى تكوين تجمُّع “عضوي” من ابتداع قطب، فهي تماثل التنظيمات الشيوعية التي كوَّنت طلائعها الخاصة، بيد أن قطب لم يوضِّح جليا في كتاباته التي غلب عليها الأسلوب الأدبي ماهية هذا التجمُّع، وهل هو حزب أم جماعة كجماعة الإخوان التي أُعجب بها وأهدى لها كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام وأسماها “الفتية الذين يجاهدون باسم الله، في سبيل الله..”، أم أنها نخبة مؤمنة فحسب؟

بهذا يمكن القول إن قطب لم يكتب نصوصا ثورية غاضبة فقط، بل حاول وفق سياقه أن يؤسس لمنهاج يحوي تصوُّرا للمجتمع والدولة والأمة ويُدشَّن منهجه من نقد الحداثة الغربية، ومن ثمَّ يتفاعل مع السياق العالمي الحاكم آنذاك، فيواجه الشيوعية والرأسمالية وينتقد الأحوال الكائنة في بلاد المسلمين. وقد أسَّس قطب لهذا المنهج، وخاض معه رحلة أخرى في ميدان السياسة جلبت عليه المصاعب التي لاحقته حتى بعد موته وألقت عليه تهما بالإرهاب والتأصيل للعنف، بيد أن الكثير من هذه التهم لم تشهد حوارا جادا حتى في أوساط الحركات الإسلامية نفسها، التي تلقّى بعضها كتابات قطب بحفاوة بالغة وصلت حد التقديس، وأمعنت النظر فيما كتب وكأنها كتابات أكاديمية منهجية دون النظر فيها وتمحيص دلالاتها. وعلى الجهة الأخرى، ثمَّة فِرق إسلامية أهملت/تجنّبت ما كتبه قطب حتى لا تجلب إلى نفسها الاتهامات بالتطرُّف والإرهاب، ناهيك بالفرق التي رسخت الكثير من جهدها لنقد “المنهج القطبي”. ولكن أيا كان موقع سيد قطب ضمن منظومة الأفكار المحركة للتيارات الإسلامية اليوم، من المؤكد أن الرجل كان أكبر بكثير من أن يُختزَل بوصفه منظّرا لمنهج غاضب عنيف، وأنه كان يمتلك رؤية خاصة لا تزال تستحق المزيد من البحث النقدي الجاد إلى اليوم.

____________________________________

المصادر

  1. خالد الحروب، سيد قطب متخفيا في كتاب “استحالة الدولة الإسلامية”، قنطرة، ١٩/٤/٢٠١٨، شوهد في ٥/١٢/٢٠٢٠.
  2. سعود المولى، الإخوان وسيد قطب، دار المشرق، ٢٠١٧.
  3. سيد قطب، أفراح الروح، دار ابن حزم، [١٩٥٠] ص ٢٠١٢.
  4. سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الشروق، ١٩٥٤، ط ١٩٩٥.
  5. سيد قطب، أمريكا التي رأيت، دار المدائن للنشر والتوزيع، [١٩٥٠] ١٩٩٨.
  6. سيد قطب، كُتب وشخصيات، دار الشروق، ط٤، ١٩٤٨.
  7. سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، ط٧، ١٩٧٩.
  8. سيد قطب، نحو مجتمع إسلامي، دار الشروق، ط٣، ١٩٧٨
  9. وائل حلَّاق، الدولة المستحيلة، ترجمة: عمرو عثمان، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٤.
  10.  يوسف القرضاوي، أولويات الحركة الإسلامية
المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى