سنهوري عيسى يكتب: الموازنة العامة للدولة .. فقه الواقع
سنهوري عيسى يكتب: الموازنة العامة للدولة .. فقه الواقع
لأول مرة في تاريخ السودان منذ الاستقلال تتأخر إجازة الموازنة العامة للدولة ، وتبدأ السنة المالية بدون موازنة وبدون حكومة، وبدون أمل ، بل خيبة أمل بعد أن تم تطبيق زيادة خيالية في أسعارر الكهرباء في أول يوم من بداية العام 2022م، الي جانب ارتفاع الدولار ، وتعطل حركة الإنتاج وتقلص أيام العمل في الاسبوع.
ولعل تأخر إجازة الموازنة رغم البدء في إعدادها منذ سبتمبر من العام الماضي، يرجع إلى اسباب عديدة في مقدمتها تأخير تشكيل حكومة كفاءات وطنية، ليتم تكليف وكلاء والوزارات بتسيير مهام الوزارات لتتم إجازة الموازنة بعد ذلك علي مستوي اللجان القطاعية والفنية بمجلس الوزراء ، ومجلس الوزراء المكلف والاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء .
هذه الظروف والأسباب التي أدت إلى تأخير إجازة الموازنة العامة للدولة للعام 2022م تتطلب منا معرفة من صاغ واعد الموازنة حتى اجيزت بهذه الطريقة وعلي ماذا بنيت الموازنة في ظل تعليق المانحين الدوليين والبنك الدولي لمساعداتهم للسودان .. وهل ستصمد … أم ستنهار … وما مستقبل برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأت الحكومة تنفيذه منذ عامين …؟ وغيرها من الأسئلة الحائرة التى تبحث عن إجابة.
لقد تم إعداد الموازنة العامة للدولة للعام 2022م بواسطة فريق متكامل وفي ظروف بالغة التعقيد، ليتم إعداد (موازنة واقعية) تستجيب للواقع وتلبي بعض الطموحات وتتحسب للمستقبل، وتقوم علي سيناريوهات متعددة، حيث اجيزت بسيناريو ينص علي عجز في الموازنة يبلغ ( 1,3%)، وبنيت علي سيناريو خال من عجز، وتتحوط بسيناريو ثلاث قابل لاستيعاب عودة الدعم
الدولي والذي توقف بدون مبرر ، ودون أدنى التزام أخلاقي بالعهود والمواثيق، فقد التزمت الحكومة والشعب السوداني ببرنامج إصلاح اقتصادي قاسي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمانحين ، وكان النكوص بالعهود وتعليق المساعدات علي قلتها فهي أقل من (3) مليارات دولار علي ثلاث سنوات بأقل من مليار دولار في العام .. ليستخدم إيقاف
الدعم الدولي كأداة للضغط والابتزار السياسي، تحت ستار دعم التحول الديموقراطي واكمال مهام الفترة الانتقالية.
ويبقى السؤال كيف نجح هذا الفريق المتكامل في إعداد موازنة خالية من الدعم الدولي .. وهل (فقه الواقع) الذي تم إعداد الموازنة بموجبه باعتماد على الموارد الذاتية سيمنع حدوث انهيار اقتصادي ويجعل الموازنة تصمد ….؟
لعل الإجابة علي هذه الأسئلة تحتاج إلى عقل مفتوح ونظرة موضوعية وواقعية الي طبيعة تعقيدات المشهد السياسي الراهن، وتأثيراته علي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية بالبلاد، والنظر إلى النصف الملئ من الكوب، والخروج من عباءة الحزب الضيقة الي فضاء الوطن الرحيب، ومن الاعتماد على الخارج الي الاعتماد على الذات، من الاتكال علي الغير الي التوكل على الله رب العالمين واليقين بأنه رؤوف رحيم بعباده .
ومن بعد هذه النظرة الشاملة للمشهد السوداني وتعقيداته يمكن القول إن ( فقه الواقع) والاعتماد على الذات والموارد الذاتية سيمنع حدوث انهيار اقتصادي وسيجعل الموازنة تصمد .. ولكن هناك من يسأل ويقول كيف تصمد الموازنة وهي تواجه تحديات عديدة في مقدمتها اعتمادها على الموارد الذاتية ، واستنباط ضرائب ورسوم جديدة ، والاستمرار في برنامج الإصلاح
الاقتصادي بدون دعم من المانحين، وتعليق البنك الدولي لبرنامج القطري للتعاون مع السودان والذي اعتمد مبلغ (2,6 ) مليارات دولار لدعم برنامج الإصلاح الاقتصادي ، بجانب اعلان صندوق النقد الدولي عن تحوله إلى موقف المراقب بعد قرارات الخامس والعشرين أكتوبر.
في تقديري أن الموازنة بنيت علي إيرادات ذاتية واضحة يمكن تحصيلها رغم العجز الكبير و الذي سيشكل تداعيات اقتصادية عديدة، ولكن يمكن سد العجز من موارد حقيقية اذا إصدرت وزارة المالية بالتعاون مع بنك السودان المركزي وشراكة مع القطاع الخاص قرارات مهمة لتشجيع المنتجين والمصدرين علي زيادة الإنتاج للصادر ومنح حوافز تشجيعية الي المغتربين لانسياب تحاويل المغتربين عبر الجهاز المصرفي وزيادة مساهمتها في سد عجز ميزان المدفوعات ، والالتزام الصارم بتنفيذ الميزانية لمنع حدوث أي انحراف في التنفيذ.
ولعل اصدر وزارة المالية بالتعاون مع وزارة التجارة وبنك السودان المركزي لقرار تنظيم صادرات الذهب ، كان اول تلك القرارات المطلوبة لضمان صمود الموازنة الجديدة، وظهرت نتائجه بوضوح في انخفاض سعر صرف الدولار أمام الجنيه السوداني بالسوق الموازي، ونأمل تشجيع المغتربين، كما تم تشجيع المصدرين والدهابة.
لعل (فقه الواقع الاقتصادي) الذي بنيت عليه الموازنة العامة للدولة ، يجعلنا ندعو الي (فقه واقع سياسي) بالتوجه شرقا إلى الصين وروسيا لضمان تفادي الضغوط السياسية الغربية والأمريكية والاستفادة من تجربة التعاون مع الصين التي أدت الي استخراج النفط السوداني وساهمت في إنفاذ مشاريع التنمية، الي جانب ضرورة التعاون مع روسيا للحد من الضغوط
السياسية الدولية واستخدام المؤسسات الدولية أداة ضغط على السودان وحرمانه من الاستفادة من حقوقه في الدعم الدولي، فضلا عن استغلال التعاطف والدعم العربي للسودان ليكون البديل لفقدان الدعم الدولي، وجذب الاستثمارات العربية لاستغلال الموارد المتاحة، فضلا عن حسن الظن بالله والتوكل عليه، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
يبدو أن (فقه الواقع) جعل موازنة العام 2022م، تصمد وهي تدخل شهرها الأخير ، وعلي الأقل نجحت الموازنة في الوفاء بصرف المرتبات للعاملين والتى تبلغ نحو ترليون جنيه تعادل ( ثلث إيرادات الموازنة) الي جانب الاستجابة لزيادة مرتبات أساتذة الجامعات والمعلمين الي جانب الصرف علي استحقاقات سلام جوبا، ونأمل أن يكون (فقه الواقع السياسي) مدخلا لإجازة
وعبور موازنة العام الجديد (2023م) حتى تتجاوز آلام المخاض ويعيش( المولود الجديد) في بيئة صالحة للنمو وتتوفر بها مقومات الحياة.. ونطوي كسودانيين خلافاتنا وندخل مرحلة جديدة من بناء السودان الأمن المستقر أن الموازنة شاء الله، وصدقت النوايا وتوفرت الإرادة الوطنية.
اللهم هل بلغت فاشهد