“زاتوبيك”.. سيرة العدّاء الأسطورة الذي خذله النظام الشمولي
“زاتوبيك”.. سيرة العدّاء الأسطورة الذي خذله النظام الشمولي
قيس قاسم
يسرد الفيلم الروائي التشيكي السلوفاكي المشترك الذي يحمل اسم بطله “زاتوبيك”؛ جوانب من سيرة حياة عدّاء المسافات الطويلة التشيكي الذي حقق أرقاما قياسية وضعته بين أهم الرياضيين في العالم، وكان ظهوره في زمن شهد نهاية الحرب العالمية الثانية، ودخول المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي بعدها في حرب باردة انسحبت صراعاتها على حياته، وكان “القاطرة التشيكية” -كما يلقب- من بين ضحاياها.
ومع أن “زاتوبيك” لم يكن مهتما بالسياسة قدر اهتمامه بالرياضة، فإن الأنظمة الشمولية لا ترضى لأحد تحت سلطتها إلا أن يتماشى معها ويخدم أغراضها الفكرية، لهذا تمايلت مسارات حياته، وتحمّل الأعباء والتبعات.
يكتب المخرج “ديفيد أوندرجيتشيك” جوانب منها بأسلوب سينمائي أخّاذ مُتدفق يخفف ثقل التراجيدي منها، ويبقي على الإنساني النابع من دواخل بطل ظل بسيطا طيبا لا يعرف الأحقاد، لكنه مستقيم لا يرضى بالظلم.
“رون كلارك”.. لقاء مع الأيقونة يفتح ممرا إلى الماضي
افتتح فيلم “زاتوبيك” الدورة الأخيرة لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي، وحاز على جائزة جمهوره، واستقبل بحفاوة نقدية، لكثرة ما فيه من جمال وبهاء صنعة نقلت باشتغال سينمائي باهر مناخات أربعينيات القرن الماضي، وحقبة الستينيات التي شهدت “ربيع براغ”، وهو الاسم الذي أطلق على الحركة الإصلاحية التي قادها الزعيم الشيوعي “ألكسندر دوبتشيك”، ولم يرض بها السوفيات، فتدخلوا عسكريا لقمعها.
تتداخل المرحلتان سرديا من خلال نص يتأسس بناؤه على حكاية تبدأ في الستينيات، وذلك من خلال زيارة العدّاء الأسترالي “رون كلارك” (الممثل جيمس فريشفيل) له في شقته المتواضعة، وقد بات معزولا وحيدا، لكنه ظل مُفعما بالأمل والصدق.
العدّاء الأسترالي “رون كلارك” الذي جاء إلى قدوته في الجري “إميل زاتوبيك” لمعرفة سر نجاحاته بعد الكثير من الفشل
جاء “رون كلارك” إليه بعد عدة إخفاقات وفشل في تحقيق أرقام قياسية مهمة، مما دفعه للتقرب أكثر من تجربة قدوته في الجري “إميل زاتوبيك”، ولمعرفة سر نجاحاته، والاستماع أيضا إلى وجهات نظره حول ما يمر به من إحباط، وكيف يمكن تجاوزه.
من خلال وجودهما في مكان واحد يفتح صانع الفيلم ممرا (فلاش باك) للعودة إلى ماضي العداء التشيكي، وسرد جانب من سيرته الشخصية، مُركزا على فترة الأربعينيات والخمسينيات التي شهدت صعوده بطلا محطما للأرقام القياسية في الجري، وتتويجه بثلاث ميداليات ذهبية دُفعة واحدة خلال مشاركته في الألعاب الأولمبية الصيفية عام 1952 في هلسنكي لسباقات (5 آلاف و10 آلاف متر، والماراثون أيضا).
مسابقة مصنع الأحذية.. بداية اكتشاف الموهبة
جاء العامل “زاتوبيك” إلى الرياضة من مصنع “باتا” للأحذية، لا من مدارس وأكاديميات رياضية، وبالصدفة وأثناء مشاركته في مسابقات الجري التي ينظمها المصنع لعماله دوريا؛ جاء في المركز الثاني من بين 100 مشارك.
تنبه إليه مدرب ألعاب أولمبية وضمّه إلى نادٍ محلي بعد أن لاحظ سرعته والطريقة الخاصة التي يجري بها، هكذا دخل في مطلع شبابه إلى عالم الرياضة، وحقق فيها أرقاما محلية جيدة، لكنه لم يستمر بها لتزامن صعوده واكتشاف موهبته مع صعود النازية واحتلالها لبلده، وتعطيلها لكل نشاط رياضي فيها.
مصنع “باتا” للأحذية الذي حصل فيه “زاتوبيك”على المركز الثاني من بين 100 مشارك في مسابقة الجري السنوية التي ينظمها المصنع
مع ذلك فقد ظل يتدرب ويُحسّن من أدائه الذي بدا للمحترفين بأنه غير مجدٍ بسبب طريقة جريه الخاصة غير المتناسقة والمتعبة، وبرأيهم لن تساعده أبدا على المنافسة.
صفوف الحزب الشيوعي.. رؤية تاريخية تتسرب بين ثنايا النص
يحمل التمهيد السردي لحكاية البطل في متنه روحا وثائقية حافظ صانعه عليها، وجعل منها مصدرا لمصداقية جعلته قادرا على التنويع، وإضفاء الفانتازيا عليها أحيانا، وذلك ما دام نصه رصينا متماسكا لا يريد به إسقاط رؤيته التاريخية الخاصة بفجاجة على حياة بطله، بقدر ما يذهب إلى عرض المشهد الشمولي الذي عاشته البلاد خلال حقبة الحرب الباردة، وهيمنة الحزب الواحد على مقاليد السلطة.
لم يكن الشاب “زاتوبيك” معارضا، بل على العكس، فقد انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، وآمن بنظريته بعد حرب ظالمة شنتها النازية، وبفضل نضالات وطنية دحرت واستسلمت.
“زاتوبيك” هاجسه الأكبر الرياضة ولا يهتم كثير بالسياسية رغم انتسابه للجيش التشيكوسلوفاكي
لم يتورط البطل رغم انتسابه للجيش التشيكوسلوفاكي بممارسات تؤذي الآخرين، فقد ظل نزيها مُحبا للغير، لا يهتم كثيرا بالسياسة، بل كان هاجسه الأكبر الرياضة إلى جانب حُبه الأول، وزوجته فيما بعد الرياضية “دانا زاتوبيك” (الممثلة مارتا إيسوفا).
علاقة الود الطاغي على الفيلم.. عهد في ليلة الزفاف
سلاسة تجسيد العلاقة العاطفية بين بطل الفيلم وبين بطلة رمي الرمح تطغى على مساحة كبيرة من الفيلم، وتحيله إلى مرتع بصري باذخ في رومانسيته وحبوره، فحلاوة الإحساس بالحب والتفاهم أوصلهما إلى عش الزوجية، لكنهما تعهدا ليلة الزفاف أن لا يسجن أحدهما الآخر إذا ما شعر أحدهم بضرورة الانعتاق من أسر الزوجية نحو حريته الشخصية.
المشاهد الأخيرة من الفيلم تعلن عن صدق ذلك الاتفاق الإنساني، فـ”دانا” رغم انفصالها عنه ما زالت تربطها به علاقة ود واحترام، فما شهداه في حياتهما لا يمكن أن يُمحى بسهولة.
العلاقة العاطفية التي جمعت العدّاء التشيكي “أميل زاتوك” وبطلة رمي الرمح “دانا زاتوبيك”، والتي انتهت بانفصال يسوده احترام مُتبادل
لقد ترافقت قصة حبهما مع صعوده، وكانت طيلة مشواره تشجعه وتقف إلى جانبه، لم تخفه نظرة السلطة المشككة بها، ارتباطا بهروب أقارب لها خارج البلد، اعتراضا على انعدام الحريات. ومثل كل علاقة تتخللها لحظات فرح وحزن وسخط لممارسة ما لا ترضي طرفا كان دوما المحب المبادر للمصالحة والعفو، لم يعرف البطل الكراهية، ذلك الجانب حماه من التنكيل الكلي، ووسّع من شعبيته رغم كراهية البعض له، واتهامه بأنه شيوعي يخدم النظام ويواليه.
معارضة هوى النظام الحاكم.. مواقف “زاتوبيك” الشجاعة
اعتنى النص السينمائي كثيرا بالجانب الشخصي المنير فيه، فمنذ أول زيارة له لبريطانيا للمشاركة في منافسات أقيمت هناك؛ لم يرتض لنفسه أن يكون جاسوسا على رياضيين آخرين مثله، أو على بلدان لا تتفق أنظمتها السياسية مع نظام بلده، كان عفويا يقترب من الآخر المختلف دون خوف.
وكان نقاء دواخله ومواقفه الشجاعة سببا فيما وصل إليه من عزل وتهميش، حيث يأخذ منها كاتب النص السينمائي الرائع تجربته مع زميل له متهم بالمعارضة أرادت السلطات -المتمثلة بإداريين يتولون الإشراف على الجوانب الرياضية- منعه في المشاركة في أولمبياد هلسنكي، فقد رفض صعود الطائرة والذهاب إلى هناك من دونه.
لم ينسَ الحزبيون الانتهازيون وقفته التضامنية مع “خصم” لهم، وحين حانت اللحظة في عام 1968 أثناء “ربيع براغ” واشتراكه فيها؛ قرروا تجميد عضويته في الحزب، ومنعه من المشاركة في أي نشاط رياضي لاحقا. فقد عطّلوا بذلك شغفه، لكنه تماسك وقرّر أن يعيش حياته وحيدا مع كلبه في تحد سلمي للسلطة، مُستندا على نقاء سريرته وبساطة عيشه التي تحرره من الحاجة والخضوع لإغراءات السلطة المتحكمة.
في المشاهد الجامعة بينه وبين ضيفه الأسترالي تتجلى مآلات حياته وتعرجاتها الحادة، ومع ذلك فقد كان يمنح زائره ويُسرّب إليه طاقة إيجابية يتوجها بمنحة لحظة مغادرته مطار براغ إحدى ميدالياته الذهبية، وكأنه بهذا يحثه على المضي فيما يحب من الأشياء، دون أن يتوقف طويلا عند لحظات إحباط أو يأس.
مهارة المخرج.. سلاسة تجر المشاهد إلى عوالم البطل
رغم تماس الفيلم مع قضايا سياسية وفكرية كثيرة، فإنه يميل إلى تبريز بطله كما هو، ككائن عادي تجرّه الظروف والأقدار إلى مواضع كان عليه التأقلم معها أو رفضها، مُنطلقا من إحساس عالٍ بالعدالة. مواقفه وحتى المَشاهد التي تعكس تذمرا منه لم يقابلها بتجهم وشراسة، فقد كان متفهما لها، في حين لم يتفهم النظام الشمولي طبيعته، فقد عامله كرقم مجرد، وكموهبة رياضية يُراد بها تحقيق أغراض سياسية، وهذا ما لا يتوافق مع تربية وسلوك كائن جُبل على البساطة والطيب.
العدّاء “زاتوبيك” الذي أظهره مُخرج الفيلم ككائن عادي تجرّه الظروف والأقدار إلى مواضع كان عليه التأقلم معها أو رفضها، مُنطلقا من إحساس عالٍ بالعدالة
من هنا يأتي غضب المتلقي، وذلك من تعارض النُبل مع القسوة وانعدام الرحمة، ومن ذلك التنافر بين الجانبين، يأتي الموقف النقدي لمرحلة تاريخية خطيرة من حياة الشعبين التشيكي والسلوفاكي، تناولها الفيلم بمهارة سينمائية لا يمكن تجاهلها.
يجمع “زاتوبيك” بتوازن أيضا بين المَشاهد الرياضية المُعاد تجسيدها فيلميا، وبين الجوانب الشخصية لبطله، من دون تحيّز لأي طرف منها، وبهذا سهّل على نفسه السير بسلاسة نادرة تشدّ المُشاهد إلى ذات العوالم التي تجري فيها الأحداث، والتي صوّرت ببراعة وعين شديدة الحساسية (التصوير لـ”شتيبان كوتشيرا”)، لا تنافسها إلا براعة أداء دور البطولة الذي لعبه الممثل “فاسلاف نيوجيل”، واستطاع باقتدار التلاؤم مع اختلاف المراحل العمرية التي مر بها، ولم يختل أداؤه فيها، فزاد مستوى الفيلم قوة ومصداقية وضعته بين أفضل أفلام السيرة الذاتية المعروضة هذا العام.
المصدر : الجزيرة