رقمنة الثقافة في عالم ما بعد الجائحة.. لماذا يحتاج القطاع الإبداعي للاستفادة من التكنولوجيا والابتكار؟
وجهت أزمة كورونا ضربة هائلة للقطاعات الثقافية والإبداعية حول العالم ولا يزال التأثير واسعا وعميقا خاصة مع تفاقم تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا والمخاوف العالمية من ركود اقتصادي طويل الأجل.
في عام 2020، تم إغلاق المتاحف حول العالم لفترة طويلة، وفي عام 2021، اضطرت متاحف عديدة إلى إغلاق أبوابها مرة أخرى، مما أدى إلى انخفاض الحضور بنسبة كبيرة، وفي العام الجاري تسبب تداعيات الحرب ومخاوف الركود في تأثير سلبي مشابه، ووجد مئات الآلاف من العاملين في هذه المجالات أنفسهم وهم إما أنهم عاطلون عن العمل أو يترقبون مستقبلهم بقلق نتيجة التضحية بالقطاع الثقافي.
وشهدت صناعة السينما، التي تعتمد بشكل كبير على إيرادات شباك التذاكر إلغاء أو تأخير معظم الإصدارات المسرحية، وهزت الأزمات صناعة نشر الكتب، وعرضت دور النشر الأصغر للخطر وأخرت إطلاق العديد من الكتب الجديدة والأعمال الأدبية.
وفي مقاله بموقع “ذا كونفرسيشن” (The Conversation) كتب ريكارد جيل الأكاديمي بكلية سميث للأعمال بجامعة كوينز أونتاريو معتبرا أنه لطالما كانت الصناعات الإبداعية أحد المحركات الرائدة للابتكار والنمو الاقتصادي حول العالم، وفي كندا حيث تشكل ما يقرب من 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعد القطاع الثقافي مساهما رئيسيا في الرفاهية أيضا وكذلك في تعزيز الإدماج ورأس المال الاجتماعي.
الكفاح للاستمرار
وكشفت الجائحة عن الهشاشة الهيكلية للشركات والأفراد الأساسيين في مجال دعم القطاعات الثقافية والإبداعية، فهناك العديد ممن لا يزالون يكافحون للبقاء بما في ذلك الشركات الصغيرة والمنظمات غير الربحية مثل المراكز الفنية والمعارض والمهرجانات والمتاحف أو المسارح والفنانين المستقلين والمهنيين المبدعين مثل الكتاب والرسامين أو الموسيقيين.
وأزالت الجائحة مصادر دخلهم الرئيسية وهناك مخاوف من أنهم قد لا يتعافون أبدا، وهذا من شأنه أن يخلق تأثيرا طويل الأمد في إنتاج المحتوى الثقافي، خاصة أن الدعم الحكومي للقطاع الثقافي يفشل في حساب تأثير التحول الرقمي على كيفية إنتاج واستهلاك المنتجات والتجارب الثقافية، وفق الكاتب.
وبالنسبة للعديد من المؤسسات الفنية والمهنيين المبدعين، سيتوقف إمكانية البقاء على قيد الحياة على مدى قدرتهم على الانتقال من التعامل الشخصي إلى الرقمي، وسيؤدي القيام بذلك إلى بناء قدرتهم على الصمود لمواجهة الصدمات المستقبلية وتوفير مسار عمل اقتصادي للوصول إلى جماهير أكبر.
العرض والطلب
وفي المستقبل القريب، تتمتع التقنيات الناشئة مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز بالقدرة على تغذية أنواع جديدة من التجارب الثقافية التي يمكن تسويقها، ليس فقط لجماهير كبيرة ولكن أيضا لجماهير جديدة لم تكن تستهلك المحتوى الثقافي من قبل.
ومن الناحية الاقتصادية، أثرت الرقمنة على كل من الطلب والعرض للمحتوى الثقافي. وبفضل التكنولوجيا المتطورة بشكل متزايد واعتماد الأجهزة الرقمية لتجربة الأشياء عن بعد بسبب الوباء، طور المستهلكون طرق جديدة “للقيام بجولة” في المتاحف و”حضور” المسرح والمشاركة في قراءات الكتب.
وبالنسبة لمنتجي الثقافة، فقد أجبرهم ذلك على إعادة تصور كيف ينشئون أساليب أعمالهم وقنوات التوزيع والإعلان والتمويل.
وأثرت الرقمنة على المنافسة أيضا بطرق شاملة، ولقد خفضت تكلفة بدء مشاريع ثقافية جديدة، الأمر الذي ينبغي أن يحفز المنافسة، لكنه أدى أيضا إلى تركيز أكبر للمشاريع بين أولئك القادرين على التكيف مع العالم الرقمي، مما أضاف إلى الاتجاه المستمر منذ عقد من الزمان المتمثل في زيادة تركيز سوق القطاع الثقافي في دور السينما والإذاعة والتلفزيون والصحافة.
وعادة ما يؤدي التركيز الأكبر لدى تلك المراكز إلى ارتفاع الأسعار وضعف الجودة، مع عواقب وخيمة طويلة الأجل للوصول إلى المحتوى وتنوعه، وهذا هو الأكثر إثارة للقلق، إذ يعد حق الوصول إلى الثقافة وضمان احترام ثقافة الفرد من الحقوق المعترف بها صراحة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تروج لها الأمم المتحدة واليونسكو.
وفي وقت سابق قالت أودري أزولاي المديرة العامة لليونسكو إن الوباء كان مدمرا للثقافة والفنون. وفي الغالبية العظمى من دول العالم أغلقت المؤسسات الثقافية كليا أو جزئيا، ولا يزال العديد منها مغلقا حتى يومنا هذا، وقد لا تفتح بعضها أبوابها مرة أخرى.
والقضية الأكثر إلحاحا هي أن عددا لا يحصى من الفنانين في جميع أنحاء العالم تركوا من دون أي دخل. حُرم ملايين الأشخاص من عائدات السياحة التي تعتمد بشكل كبير على الأماكن والمنتجات الثقافية، ولقد كشفت الأزمة عن مدى ضعف وهشاشة نظمنا البيئية الثقافية، وفق مديرة اليونسكو.
وتابعت أزولاي “يجب أن يتحد العالم لحماية تراثنا الثقافي، لكن الأزمة أظهرت لنا أيضا مدى أهمية الثقافة في حياتنا وهوياتنا. وتساعد الثقافة على ترسيخنا في الحاضر وتسمح لنا بتخيل المستقبل. وأظهرت الأزمة أيضا الفرص المذهلة التي توفرها التقنيات الرقمية لربط الثقافة بالجماهير في جميع أنحاء العالم، والتي ستستمر بلا شك كاتجاه رئيسي في المضي قدما”.
تدخلات السياسة
ونظرا لأهمية الوصول إلى الثقافة، يجب أن تهدف تدخلات السياسة العامة إلى دعم رقمنة الخبرات الثقافية كطريقة واحدة للمساعدة في مواجهة حالة عدم اليقين في المستقبل.
ويمكن أن يختلف شكل التدابير والمساعدات المقدمة ولكن يجب إعطاء الأولوية لهدفين، أولا، يجب أن تساعد المساعدة في ضمان بقاء الشركات والمنظمات والموظفين والفنانين الذين يجعلون الوصول إلى الثقافة ممكنا. وسيحتاج المنتجون الثقافيون -وخاصة الصغار والمستقلون- إلى المساعدة لبناء مهاراتهم الرقمية.
وثانيا، بالنظر إلى المستقبل، يجب أن تكون المساعدة محايدة أمام المتنافسين -لا يجب تفضيل الشركات والمؤسسات على الآخرين- لضمان الابتكار والإبداع من قبل الوافدين الجدد، وإذا لزم الأمر، ينبغي تطبيق قانون مكافحة المنافسة لتجنب الممارسات التعسفية التي تحد من الوصول إلى الثقافة.