رحمة عبدالمنعم يكتب:.. للحقيقة لسان..«سوهندا عبدالوهاب»..خبز الحياة

رحمة عبدالمنعم يكتب:.. للحقيقة لسان..«سوهندا عبدالوهاب»..خبز الحياة
في وطنٍ يئنّ من جراحه المفتوحة، وفي زمنٍ صار الخبز فيه أثمن من الذهب، والكسرة أغنية تُنشد في البيوت المهدّمة، ولقمة العيش معركة يومية، برزت سوهندا عبد الوهاب مثل قنديلٍ يتحدّى العتمة، ومثل نخلةٍ سامقة رفضت أن تنحني لرياح الخراب.
الحرب التي أرادت أن تسرق من السودانيين رغيفهم وطمأنينتهم، لم تستطع أن تسرق من قلوبهم نزعة العطاء، وسط هذا الخراب، أطلقت سوهندا مبادرتها التي صارت “تكية” للروح قبل أن تكون تكية للطعام، كانت تدرك أن الجوع لا يُقاس فقط بفراغ المعدة، بل أيضاً بفراغ العاطفة حين لا يجد المرء من يواسيه، أو من يمد له يداً كريمة في زمن القسوة.
من أم درمان إلى بحري، ومن الدلنج إلى الفاشر، ظلت هذه المرأة السودانية الأصيلة تحرس معنى “الخبز المشترك”، وزّعت آلاف الوجبات كمن يوزّع الأمل، وقدّمت آلاف الأرغفة كمن يزرع الحقول في أمعاء خاوية،لم تكتفِ بما تمنحه التكايا من طعام، بل أعادت صياغة الفكرة كلها، فجعلت من البازارات ملتقى للأرامل والمحتاجين، مساحة يتبادلون فيها الدعم بكرامة، لا شفقة.
لقد فهمت سوهندا أن الكرامة في زمن الحرب تُصان قبل المعدة، لذلك، كانت بازاراتها تحمل مفهوماً مختلفاً: ليست أسواقاً للفقراء، بل جسوراً للتكافل، حيث تعود النساء إلى بيوتهن بشيء من الرزق، وشيء أكبر من الشعور بالانتماء.
تكية سوهندا لم تكن قدراً من الطعام بقدر ما كانت إعلاناً عن أن السودانيين، مهما ضاقت بهم الأزمات، قادرون على أن يتقاسموا الألم والخبز معاً،كانت تؤمن أن كل وعاءٍ يُطهى في مطبخها هو قدرٌ آخر للبلاد، وأن كل رغيفٍ يُوزَّع هو شهادة ميلاد جديدة لوطنٍ يحاول أن يقوم من كبوته.
ولأن الحرب لا ترحم الأطفال ولا الأرامل، لم تنسَ سوهندا أن ترفق بالطعام كسوةً للعيد، وابتسامةً تُرسم على وجوه الصغار، وأضاحي تصل إلى الأيتام وخلاوي القرآن الكريم، فعلت كل ذلك ليس بوصفه ترفاً خيرياً، بل باعتباره واجباً إنسانياً ودينياً، تحمله على كتفيها كما يحمل المرابطون البنادق على الجبهات.
في زمنٍ يكتب فيه البعض عن الحرب بلغة الدم والسلاح، كتبت سوهندا عن السودان بلغة الملاعق والقدور والرغيف، في زمنٍ صار فيه الجوع سلاحاً، جعلت من الخبز مقاومة،وفي وقتٍ انهارت فيه الأسواق، فتحت هي أسواق الرحمة، حيث يمكن للفقراء أن يقفوا مرفوعي الرأس، يختارون حاجاتهم بلا انكسار.
هكذا، صارت سوهندا أكثر من محامية، صارت محامية عن روح السودان، عن نسائه وأطفاله، عن الجوعى والنازحين، في كل وجبة تُطهى على يدها وأيادي رفاقها من الشباب والشابات، كانت تكتب وصية إلى الغد: أن هذا الوطن، مهما تكسّر، لن يتخلى عن أبنائه.
ليست التكايا مجرد مطابخ جماعية، إنها مدارس للكرامة، وسوهندا كانت وما زالت معلمة في هذه المدرسة الكبرى التي أسسها الشعب السوداني منذ قرون، في زمن الحرب، حين صار الموت خبراً يومياً، نجحت هذه المرأة أن تطبخ الحياة.
إنها سوهندا عبد الوهاب، واحدة من نساء السودان اللواتي يثبتن أن الأوطان لا تُبنى بالخطابات، بل بالقدور التي تغلي بالحب، وبالأيادي التي تمد رغيفاً لوجهٍ جائع، في سيرتها درسٌ لنا جميعاً: أن الوطن ليس أرضاً فقط، بل مائدة تُفرش للجميع، حتى في أحلك الأيام.