رحمة عبدالمنعم يكتب: .. للحقيقة لسان..«رحلة إلى الموت»

رحمة عبدالمنعم يكتب: .. للحقيقة لسان..«رحلة إلى الموت»
لم يعد خبر غرق قارب يحمل مهاجرين غير نظاميين قادمين من السودان مروراً بليبيا خبراً طارئاً أو استثنائياً، بل تحوّل إلى مشهد مأساوي يتكرر على نحو يكاد يفقدنا الإحساس بالدهشة، ويضاعف منسوب الحزن واليأس،الأمس فقط، وصلني نبأ وفاة أحد أبناء قريتنا (القلقالة)، شاب في مقتبل العمر، غرقاً في عرض البحر مع مجموعة من رفاقه، كانوا جميعاً على متن قارب أقلّهم في رحلة محفوفة بالموت إلى أوروبا،كانت تلك الخطوة الأخيرة في حياتهم، خطوة دفعهم إليها واقع قاسٍ وظروف خانقة، لكنها لم توصلهم إلى برّ الأمان، بل إلى أعماق البحر.
في مشهد يتجاوز الخاص إلى العام، أعلنت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة أنّ أثر 61 مهاجراً، غالبيتهم من السودان، قد فُقد قبل أيام، بعد انقلاب قارب كان يقلّهم قبالة الساحل الشرقي لليبيا، القارب كان يحمل 74 شخصاً، لم ينجُ منهم سوى 13، فيما ابتلع البحر الآخرون. وقبل هذا الحادث المروّع بأيام قليلة، لقي 50 سودانياً مصرعهم، بينما تمكّن من النجاة 24 مهاجراً آخرين إثر غرق قارب آخر قبالة طبرق، وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة.
تضعنا هذه الأرقام الصادمة أمام الحقيقة العارية: نحن أمام ظاهرة مأساوية تتغذّى على أوضاع داخلية مأزومة، وحلم خارجي كاذب، الشباب السوداني، وقد سُدّت أمامه أبواب الحياة الكريمة داخل وطنه، يجد نفسه مدفوعاً إلى ركوب البحر، عارفاً بالمخاطر، مسلّماً بأنه قد لا يصل أبداً، إنها رحلة إلى المجهول، لكنها أيضاً رحلة تنطوي على ما يشبه التمرّد الصامت على حاضر معطوب، وعلى غياب أي أفق وطني يضمن له الحد الأدنى من الأمان والعيش.
الهجرة غير الشرعية ليست مجرد أرقام تُسجّلها المنظمات الدولية، ولا مجرد حوادث مأساوية تتصدر نشرات الأخبار لبضع ساعات ثم تطوى،إنها تعبير عن مأزق وجودي عميق، وعن أزمة ثقة بين الشباب والدولة والمجتمع، وعن انهيار العقد الاجتماعي الذي من المفترض أن يوفّر الحماية والأمل، إن الموت في البحر، بكل رعبه، صار عند كثيرين خياراً أقل فداحة من حياة بلا أفق، وبلا كرامة، وبلا فرص.
لكن النقد لا بد أن يكون صريحاً، لا يمكن أن نكتفي بتحميل الأوضاع الداخلية كل المسؤولية، ثمة خلل في الوعي أيضاً، خلل في إدراك الشباب أنّ البحر ليس جسراً إلى الجنة الأوروبية، بل فخاً واسعاً يُطبق على أرواحهم، ثمة مافيات منظمة، تعمل على المتاجرة بأحلامهم وتبيعهم أوهام النجاة، بينما تحصد الأموال وتتركهم للغرق، ثمة مسؤولية أسرية أيضاً، إذ يدفع بعض الأهالي أبناءهم إلى هذه الرحلات، مدفوعين بالأمل أو مضلَّلين بالوهم.
إن مأساة المهاجرين السودانيين اليوم يجب أن توقظ نقاشاً وطنياً واسعاً، لا يقتصر على التنديد بالمهربين ولا على تعداد الضحايا، بل يمتد ليطرح سؤال المستقبل: ما الذي يجعل شبابنا يرون في قارب مهترئ خياراً أفضل من البقاء في أرضهم؟ وكيف يمكن أن نعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، بحيث لا يتحوّل البحر إلى قبلة جماعية، والموت إلى بديل عن حياة فقدت معناها؟
الرحلات إلى المجهول لن تتوقف طالما ظلّت أسبابها قائمة،وأخطر ما في هذه الظاهرة أنها تُحوّل الفرد إلى رقم مجهول في قوائم الغرقى، وتُحوّل الوطن إلى حاضنة للفقد الجماعي،وما لم نواجه هذه الحقيقة بشجاعة، فإن أخبار الغرق ستبقى تتوالى، وسيبقى البحر يبتلع أبناءنا واحداً تلو الآخر، دون أن نجرؤ على القول: إننا جميعاً مسؤولون، أفراداً ومجتمعاً ودولة، عن دفعهم إلى هناك.





