مقالات

رحمة عبدالمنعم يكتب:..للحقيقة لسان..«جمعة السودان».. ثلاث رِماحٍ في الخاصرة

رحمة عبدالمنعم يكتب:..للحقيقة لسان..«جمعة السودان».. ثلاث رِماحٍ في الخاصرة

 

 

لم يكن يومُ أمسِ الجمعة يوماً عاديّاً في رُوزنامة الحربِ السودانية، ففي غضونِ ثماني ساعاتٍ فقط، تتابعت ثلاثُ قراراتٍ دولية كبرى، صدرت من ثلاثِ جهاتٍ مختلفة، لكنها جميعاً بدت وكأنها نُسجت بخيطٍ واحد، يلتفّ حول الدولة السودانية ويُحاصرها بالرّسائل والضغوط.

بدأت الحكاية مع بيانِ «الرباعية الدولية» الذي خرج بلغةٍ دبلوماسية محسوبة، لكنه حمل في طيّاته انحيازاً واضحاً ضد الجيش، البيان دعا إلى هدنةٍ إنسانية تمتد ثلاثة أشهر، تتلوها مرحلة انتقالٍ سياسي خلال تسعة أشهر، هذا الطرح، في ظاهره، يستند إلى خطاب الرحمة والإنقاذ الإنساني، لكنه في جوهره بدا محاولة متعمّدة لوقف الإيقاع العسكري للجيش، بعدما أحرز تقدّماً في محاور كردفان،لقد أعاد البيانُ صياغة الميدان على الورق، ووضع المليشيا على قدم المساواة مع الجيش، وكأنما أراد أن يفرض على السودان معادلةً جديدة لا يملكها إلا من يسيطر على أرضه بقوة السلاح الشرعي.

وما إن انتهت أصداءُ البيان، حتى أضاف مجلسُ الأمن الدولي وزناً جديداً على كاهل السودان، القرارُ الذي صدر بالإجماع وجدد العقوبات لعامٍ آخر، ولاسيّما تلك المتعلقة بتجميد الأصول وحظر السفر وحظر الأسلحة، لم يكن في مضمونه جديداً؛ فالعقوبات موجودة منذ سنوات، لكن دلالة التوقيت جعلته يبدو رسالةً سياسية أكثر منه إجراءً قانونياً، ففي لحظة يحاول فيها الجيش إعادة لملمة الدولة وبناء الثقة في الداخل، تأتي العقوبات لتذكّره أنه لا يزال تحت المراقبة، وأن المجتمع الدولي يسعى إلى تكثيف الضغوط عليه في هذه المرحلة الحرجة.

أمّا الضربةُ الثالثة فجاءت من واشنطن عبر وزارة الخزانة الأميركية، ففي قائمة العقوبات الأخيرة، أُضيف اسمُ وزير المالية جبريل إبراهيم إلى جانب فيلق «البراء بن مالك» المساند للجيش، لم يكن ذلك مجردَ إجراء إداري، بل استهدافاً مباشراً لبنية الدولة الرسمية، ولأحد رموز الحكومة الشرعية، في توقيتٍ يواجه فيه السودان أزمةً اقتصادية خانقة، هنا بدت الرسالة أشدَّ وضوحاً: لن يُستثنى أحد من الضغوط، حتى من يُمثّلون السلطة التنفيذية القائمة.

هكذا، في يومٍ واحد، تضافرت الدبلوماسية والشرعية الدولية والاقتصاد المالي لتصنع حلقةَ ضغطٍ متكاملة على السودان، قد يقول البعض إنها صُدفة، لكن في قراءةٍ أعمق يتضح أن القاسمَ المشترك بين الخطوات الثلاث هو محاولة إبطاء تقدّم الجيش على الأرض، ودفع الحكومة إلى الرضوخ لمعادلة هدنة طويلة تمهّد لمفاوضاتٍ لا تعكس حقيقةَ موازين القوة في الميدان.

إن ما جرى يومَ الجمعة ليس مجردَ أحداثٍ متفرقة، بل لوحة متكاملة: بيانٌ يطالب بوقف النار، قرارٌ يُذكّر بالعقوبات، وقائمةٌ مالية تطال قلب الحكومة، كلها خيوط متشابكة في اتجاهٍ واحد: الضغط على الدولة لكي تتوقف وتجلس إلى الطاولة بشروطٍ لم تصنعها بنفسها.

لكن التجربة السودانية تقول إن هذا البلد لا يرضخ بسهولة، فالسودان خاض حروباً أطول وأشد، وواجه عزلاتٍ دولية وحصاراتٍ اقتصادية، ومع ذلك ظل قادراً على البقاء، مدفوعاً بقوة شعبه وجيشه، وبإحساسٍ عميق أن هذه الحرب ليست حرب خيارات، بل حرب وجود.

وهكذا بدا يومُ الجمعة وكأنه مسرحٌ متعدّد الفصول، في المشهد الأول بيان يتحدّث بلغة الرحمة، وفي الثاني قرار يلوّح بسلطة القانون الدولي، وفي الثالث عقوبات اقتصادية تمسّ قلب الحكومة، ثلاث ستائر أُسدلت في ثماني ساعات، والغاية واحدة: أن يتوقف الجيش عن التقدّم، وأن تدخل الدولة السودانية بيت الطاعة الدولي.

لكن ما يغيب عن واضعي هذه النصوص والقرارات أن الحروب لا تُحسم بالبيانات، وأن الشعوب لا تُدار بقرارات الخزانة ولا بتجديد العقوبات، فالسودان اليوم يشبه سفينةً تواجه عواصف متلاحقة: الرياح قد تعصف بالأشرعة، لكن البحر لا يُغيّر وجهته.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى