رحمة عبدالمنعم يكتب: .. للحقيقة لسان..الهروب الكبير.. (الجنجويد عردو)

رحمة عبدالمنعم يكتب: .. للحقيقة لسان..الهروب الكبير.. (الجنجويد عردو)
في مشاهد كان ينبغي أن تكون ختامية، لكنها تصلح أيضاً أن تكون افتتاحية لمآسي الطغاة عبر التاريخ، وثّق ناشطون على مواقع التواصل الإجتماعي هروباً جماعياً لمقاتلي مليشيا الدعم السريع من شرق وجنوب الخرطوم، كأنها إعادة لمشاهد هروب المرتزقة من معركة خاسرة،
لكن هذه المرة ليس في غابات الكونغو أو صحراء ليبيا، بل في قلب السودان الذي كانوا يظنون أنهم ابتلعوه.
لأشهر طويلة، ظلّ مرتزقة الجنجويد يعيثون فساداً في الخرطوم، يسرقون ويقتلون، ويوزّعون مقاطع فيديو لاستعراض جبروتهم، لكن حينما بدأ الجيش إطباق الحصار عليهم، لم يعودوا يجدون وقتاً لالتقاط الفيديوهات، بل بالكاد يجدون مخرجاً للفرار، المشهد لم
يكن مجرد انسحاب تكتيكي كما يحبون تسميته، بل كان فراراً مذعوراً تحت وقع ضربات الجيش، الذي أطبق عليهم من كل الجهات، وضيّق عليهم الخناق حتى باتت الخرطوم أشبه بسجن كبير لمن تبقى من فلولهم.
كان حميدتي، القائد المختفي منذ شهور، قد وعد أنصاره بدخولهم إلى القصر الجمهوري على ظهور الجياد، فإذا بهم اليوم يبحثون عن مهرب، ولو على ظهور الحمير، أما شقيقه عبد الرحيم، الذي طالما تباهى بأن الدعم السريع
أقوى من الجيش، فقد أدرك متأخراً أن العصابات لا تصمد أمام الجيوش، وأن الزعيق في تسجيلات” الواتساب” لا يصنع انتصاراً ،لم يعد هناك وقت لإرسال رسائل التهديد، فالمعركة اقتربت من نهايتها، والمرتزقة الذين جُمعوا من تشاد والنيجر ومالي بدأوا يدركون أن الخرطوم لم تكن أرض الأحلام، بل كانت فخاً مُحكماً.
أما من موّل هذا المشروع ودعمه، فلا شك أنه الآن ينظر في حساباته ليرى أن ملياراته ذهبت أدراج الرياح، كان محمد بن زايد يحلم بأن يكون له جيشٌ خاص يحكم السودان من الباطن، فجاءه الرد من قلب الخرطوم بأن من يعبث بأوطان الآخرين، سيجد نفسه ذات يوم يخسر
أوراقه جميعاً ،كانت خطته أن يجعل من حميدتي رجل الإمارات في السودان، وأن يحكم السودان عن بُعد عبر وكلاء محليين، لكن يبدو أنه لم يقرأ جيداً تاريخ الجيوش التي لا تُهزم، ولا أدرك أن الخرطوم قد تسقط لكنها لا تستسلم، وأن السودان ليس من تلك الدول التي تُباع بالشيكات المفتوحة.
المليشيا التي أرهبت الآمنين وأحرقت المدن وشرّدت الملايين، كانت تظن أنها تحكم قبضتها على العاصمة إلى الأبد، لكنها وجدت نفسها فجأة أمام جيش صامد، يقاتل بلا كلل، ويستعيد الخرطوم حياً تلو الآخر،كان مرتزقة الدعم السريع يسألون قادتهم عن الإمدادات التي وُعدوا
بها، فإذا بهم يواجهون الحقيقة المرة: لم يعد هناك إمدادات، ولا خطوط إمداد، ولا حتى قادة يمكنهم أن يطمئنوهم، لم يتبق لهم سوى الاختباء أو الفرار، وفي أحسن الأحوال، أن يجدوا ملاذاً عند أحد القادة الهاربين في عواصم الفنادق الفاخرة.
حين بدأت الحرب، ظن المجرم حميدتي أنه في طريقه ليصبح رئيس السودان القادم، وإذا به ينتهي كقائد عصابة مطاردة لا يعرف أحد أين يختبئ، كان يتحدث عن مستقبل السودان، فإذا به يصبح مجرد ذكرى سيئة في تاريخه ،كان شقيقه عبد الرحيم يهدد الجميع، فإذا به اليوم يتحسس رأسه، ويتساءل في سره: أين ذهب كل ذلك الغرور؟ وأين اختفت كل تلك الأحلام الإمبراطورية التي بناها على الرمال؟
الخرطوم اليوم تقترب من التحرير، والجنجويد يفرّون كما تفرّ الفئران عند غرق السفينة، الجيش يكتب النهاية، والمليشيا تكتب اعترافها بالفشل، ومحمد بن زايد يراجع استثماراته في المرتزقة، ويكتشف متأخراً أن من يزرع الفوضى، يحصد الخيبة.