الأخبار

رحمة عبدالمنعم يكتب:.. للحقيقة لسان..الصِّحافة الإلكترونية… فوضى واستسهال!

رحمة عبدالمنعم يكتب:.. للحقيقة لسان..الصِّحافة الإلكترونية… فوضى واستسهال!

 

 

حينما أُجبرت الصحافة الورقية في السودان على التوقف تحت وطأة الحرب، لم يكن أمام القارئ إلا أن يلجأ إلى الصحافة الإلكترونية، بوصفها الملاذ الوحيد للحصول على المعلومة، لكن الانتقال من الورق إلى الشاشة لم يكن

مجرد تحوّل طبيعي تمليه الظروف، بل جاء أشبه بزلزالٍ ضرب المهنة في عمقها، فخلط الغث بالسمين، وجعل الصحافة تُفتح على مصراعيها لمن لا صلة لهم بها، حتى باتت الساحة الإعلامية تعجّ بالغريب والمريب.

في كل صباح، يولد موقع إخباري جديد، لا هوية له ولا تاريخ، بأسماء أقرب إلى لافتات المتاجر الشعبية منها إلى الصحف الجادة،من (هبشة نيوز) إلى (جبراكة نت) إلى (الإخوان برس) وغيرها من العناوين التي تثير الاستغراب

أكثر مما توحي بالمصداقية، أما المحتوى، فحدّث ولا حرج: أخبار بلا مصادر، عناوين فضفاضة بلا مضمون، وأخطاء لغوية تجعل القارئ في حيرة، بين أن يضحك من الرداءة أو يبكي على ما آل إليه حال الصحافة.

ورغم هذه الفوضى، لا يمكن إنكار أن هناك مواقع إلكترونية التزمت المهنية، وحاولت أن تملأ الفراغ الذي خلّفه غياب الصحافة الورقية، نجحت بعض الصحف الإلكترونية في تقديم محتوى رصين، يحترم عقل القارئ، ويتحرى الدقة، ويحافظ على أخلاقيات المهنة، غير أن هذه الحالات تظل استثناءً في بحرٍ من المواقع التي لا تحمل من الصحافة إلا الاسم، ومن الإعلام إلا الادعاء.

لقد وقعت العديد من الصحف الإلكترونية، في ظل الحرب، في فخّ النشر الضار، سواء بقصد أو عن جهل، أصبح التسرع في نشر الأخبار دون تحقق أمراً مألوفاً، وصارت الإثارة هدفاً مقدماً على الحقيقة، في هذا المناخ الفوضوي، لم يعد مستغرباً أن نجد من يتصدر المشهد الصحفي وهو لا يفقه شيئاً في أصول المهنة، فدخل إلى الساحة الإعلامية من المتردية والنطيحة، ومن لا يفرق بين الخبر والرأي، ولا بين السبق والتضليل، ولا بين حرية الصحافة والفوضى المطلقة.

كان يُفترض أن تحافظ الصحافة، حتى في أحلك الظروف، على قيمها المهنية، لكن ما جرى هو العكس تماماً، فالذين امتهنوا الصحافة في هذه المرحلة ليسوا بالضرورة من الصحفيين، بل دخلاء اقتحموا المجال بجرأة الجاهل، فخلطوا الحقائق بالأكاذيب، وزاحموا أهل المهنة بسلعةٍ فاسدة، لا تمت إلى الصحافة بصلة.

والمفارقة أن هذا كله يحدث في ظل غياب أي رقابة جادة، وكأن الصحافة أصبحت مهنةً بلا حارس، وساحةً بلا ضوابط. فلا جهة مسؤولة تتحرك لضبط الأمور، ولا معايير تحكم ما يُنشر، ولا مساءلة للمسيئين، والأخطر من ذلك أن بعض الجهات التي يُفترض أن تكون معنية بحماية الصحافة، إما غائبة أو متواطئة، وكأن الأمر لا يعنيها.

إذا كانت وزارة الإعلام، وعلى رأسها الوزير خالد الأعيسر، جادّة في وقف هذا الانحدار، فإن المسؤولية تقتضي تدخلاً عاجلاً لوضع حدّ لهذا العبث، فليس مقبولاً أن تتحول الصحافة إلى ميدانٍ يُتاح لمن لا مهنة لهم، ولا معقول أن تُترك السلطة الرابعة نهباً للفوضى والتزييف،فالصحافة ليست مجرد عناوين تُنشر، بل مسؤولية وطنية، ومهنة تحتاج إلى أهلها، لا إلى الطارئين عليها.

المسألة إذن، ليست مجرد “تحوّل رقمي”، بل أزمة مهنية وأخلاقية تهدد جوهر الصحافة نفسها،وإذا استمر هذا التراجع، فلن نكون أمام إعلام يُنقل فيه الخبر، بل أمام سوق تُباع فيه الأوهام، وتُفرغ فيه المهنة من معناها، فهل نرى وقفة تعيد للصحافة هيبتها، أم أننا سنظل نشهد هذا السقوط الحرّ بلا قاع؟

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى