رحمة عبدالمنعم يكتب: .. للحقيقة لسان..أصوات الناس وامتحان الصحة

رحمة عبدالمنعم يكتب: .. للحقيقة لسان..أصوات الناس وامتحان الصحة
تلقيت خلال يومي الخميس والجمعة الماضيين ردود فعل كثيرة من مواطنين في بحري والخرطوم وأم درمان وجبل أولياء، ومن مناطق أخرى متفرقة، تعليقاً على مقالي السابق «حالُ الصحة» الذي تناولت فيه الوضع الصحي في البلاد، كل هذه الردود دارت حول قضية واحدة: الوضع الصحي وتفشي الأوبئة: حمى الضنك، الكوليرا، الملاريا، الحصبة… أسماء أصبحت حاضرة في كل حديث يومي، بينما ظلّ السؤال الأكثر قسوة يتكرر: أين الدواء؟
في كثير من الشهادات التي وصلتني، ورد ذكر دواء واحد كرمز للأزمة: “درب البندول”، ليس لأنه العلاج الوحيد لحمى الضنك، بل لأنه أصبح مفقوداً من متناول الناس، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى أدوية الملاريا والكوليرا، والأسوأ أن غالبية المستشفيات والمراكز التي لم تُغلق أبوابها تماماً لا تملك بروتوكولات علاجية واضحة لمرضى الضنك، وهو ما يجعل رحلة البحث عن علاج أشبه بمتاهة في سوق مفتوحة على الفوضى.
لكن جوهر المشكلة لا يقف عند نقص الدواء،فهذه الأوبئة في أصلها هي ابن الحرب التي اندلعت وخلفت وراءها كل هذا الخراب، البعوض تكاثر بفعل البرك الراكدة، والجثث التي كانت ملقاة في الطرقات، وتراكم الأوساخ في غياب الخدمات، وعندما عاد الناس إلى بيوتهم في الأحياء والمدن بعد أن هدأت المعارك، وجدوا أن المرض في انتظارهم. ورغم جهود المكافحة عبر طائرات الرش، إلا أنها لم تُفلح فعلياً في الحدّ من انتشار الأوبئة، والدليل ما رواه لي بعض مواطني أحياء أم درمان بأن البعوضة أصبحت تتواجد حتى في وضح النهار.
هذه الأصوات التي سمعتها ليست مجرد شكاوى عابرة، بل تعبير عن عجز المنظومة الصحية عن القيام بدورها، ومع ذلك، يعلّق الناس آمالهم على وزير الصحة الاتحادي، الدكتور هيثم محمد إبراهيم، ويتطلعون أن يتحرك بكل ما يملك من إمكانات وخبرة لحشد الدعم والطاقات لمجابهة هذا الخطر الداهم، لكن من الواضح أن الأمل في شخص واحد لا يكفي، فالمسؤولية تتطلب أيضاً انخراط كل أطراف الدولة والمجتمع.
المطالب التي ترددت على ألسنة الناس كانت واضحة: توجيه نداء عاجل للمنظمات الأجنبية، ولرجال المال والأعمال، وللشركات الحكومية الكبرى، لدعم قطاع الصحة قبل أن تتحول الأزمة إلى كارثة مفتوحة، فالأوبئة لا تعرف الجغرافيا السياسية ولا الحسابات العسكرية، بل تفتك بالجميع بلا استثناء،وفي الجزيرة، كسلا، وشمال دارفور،النيل الأزرق، المشهد ليس أفضل حالًا، والأرقام الرسمية لا تعكس سوى القليل من الواقع.
ومع ذلك، يظل الأمل قائماً: الأمل في أن يثبت الوزير هيثم محمد إبراهيم أنه ليس مجرد موظف يتابع التقارير، بل قائد قطاع حيوي في لحظة وطنية فارقة، الأمل في أن يتحرك رجال الأعمال والشركات الكبرى باعتبارهم شركاء في مصير الناس لا أصحاب ثروات فحسب، الأمل في أن تستعيد الصحة مكانتها كأولوية وطنية لا كملف ثانوي يُفتح فقط في الأزمات.
إن المعركة ضد الأوبئة ليست معركة طبية فحسب، بل هي معركة سياسية واجتماعية واقتصادية، معركة بين منطق الدولة التي تحمي صحة مواطنيها، ومنطق السوق الذي يترك الفقراء للمرض والتجار، والناس اليوم لا يطلبون المعجزات، بل يطلبون فقط الحد الأدنى: ألا يموتوا بمرض يمكن علاجه، وأن يجدوا دواءً بسيطاً مثل “البندول”، وألا تُترك حياتهم رهينة لسوق سوداء لا ترحم.
ولا يزال الناس يراهنون على الوزير هيثم محمد إبراهيم في أن ينهض بمسؤولياته، ويقود حملة وطنية عاجلة لحشد الدعم والطاقات لمجابهة هذه الأوبئة، لكن هذا الرهان ليس بلا سقف؛ فأصعب ما يواجهه الوزير اليوم أن استمرار المعاناة من دون خطوات ملموسة يهدد بفقدان ثقة المواطنين، وهو خطر موازٍ لآثار الحرب نفسها، لأن الحرب خلّفت الدمار، بينما غياب الثقة يعطّل أي محاولة للنهوض من هذا الدمار.





