
رحمة عبدالمنعم يكتب: .. للحقيقة لسان..آمنة التوم ..ثقل التركة وإرادة التغيير
يشبه قرار إعفاء محافظ بنك السودان المركزي برعي الصديق من منصبه، وتعيين الأستاذة آمنة ميرغني حسن التوم خلفاً له، لحظةَ انتقالٍ من زمنٍ مضطربٍ إلى مرحلةٍ يُرجى أن تكون أكثر وعياً وفاعلية، ففي خضمّ الانكماش المالي وتراجع الجنيه في السوق الموازي إلى ما يتجاوز (3,600 جنيه للدولار)، برزت الحاجة إلى مراجعة شاملة لسياسات البنك المركزي، تلك المؤسسة التي تُعدّ قلب الاقتصاد النابض ومحور الثقة النقدية في البلاد.
في عهد المحافظ السابق برعي الصديق، اتسعت الفجوة بين الواقع النقدي والخطاب الرسمي؛ فبينما كانت الأسواق تشتعل بالأسعار وتتهاوى قيمة الجنيه، ظلّ الخطاب المعلن يتحدث عن “تراجع ظرفي ومحدود” وعن “توازن مرتقب” للعملة الوطنية، غير أن الاقتصاد لا يُدار بالتمنيات، بل بالسياسات والإجراءات الفعّالة،ومع مرور الوقت، غابت عن المشهد أدوات البنك المركزي في إدارة النقد، وتراجعت المبادرات، حتى تحوّل البنك إلى مراقبٍ للمؤشرات بدلاً من أن يكون صانعها.
الاقتصاد في زمن الحرب لا يحتمل التردد، فحين تضعف الثقة في العملة، تنهار منظومة الأسعار، ويصبح التدخل النقدي مسؤولية وجود لا أداء،لهذا فإن قرار الإعفاء لم يكن مجرد تغيير إداري، بل تصحيح مسار طال انتظاره.
اليوم، تدخل الأستاذة آمنة ميرغني التوم مبنى البنك المركزي محمّلةً بإرثٍ ثقيلٍ من الأرقام والملفات،لكنها تدخل أيضاً بخبرةٍ تراكمت على مدى نحو أربعة عقود داخل المؤسسة نفسها؛ من إدارة الأسواق المالية، إلى مطابع العملة، وصولًا إلى مصرف الساحل والصحراء.
تاريخها العملي ليس طارئًا ولا شكلياً، بل هو تجربة متصلة مع عقل البنك المركزي، تعرف تفاصيله ومفاصله وأخطاؤه.
تعيين آمنة لا يُعدّ خطوةً إصلاحية فحسب، بل انتصاراً للمرأة السودانية في مجال طالما احتكره الرجال،إنها المرة الأولى التي تعتلي فيها سيدة هذا الموقع الحساس، في ظرفٍ اقتصادي هو الأصعب منذ عقود، وهو ما يضع أمامها تحدياً مزدوجاً: النجاح المهني، وإثبات قدرة المرأة على إدارة عقل الدولة المالي.
المرحلة المقبلة لا تحتاج إلى شعارات، بل إلى سياسات نقدية واضحة، وإلى شجاعة في اتخاذ القرار، خاصة في ملف صادر الذهب، الذي ظل مثار جدل واسع وأحد منابع النزيف الاقتصادي خلال الفترة الماضية،وقد أصدر البنك مؤخرًاً منشوراً جديداً بشأن تنظيم عمليات شراء وتصدير الذهب الحر وذهب شركات مخلفات التعدين، وهو ملف يحتاج من المحافظ الجديدة مراجعة دقيقة لضمان أن ينعكس العائد الذهبي على الخزينة العامة لا على الأسواق الموازية.
آمنة التوم مطالَبة اليوم بإعادة تعريف دور البنك المركزي بوصفه عقل الدولة الاقتصادي، لا مجرد مؤسسة فنية،فاستقرار سعر الصرف لا يتحقق بإصدار المنشورات فقط، بل بإعادة الثقة إلى النظام المصرفي، وتفعيل أدوات السياسة النقدية، وربطها بسياسات مالية منسقة مع الحكومة.
إنها بداية جديدة لمؤسسةٍ تحتاج إلى فكرٍ جديد، وإدارةٍ جريئة، ورؤيةٍ تتجاوز إدارة الأزمة إلى بناء نظام نقدي مستدام،ولعلّ دخول آمنة إلى هذا الميدان الصعب يكون بادرة لإعادة الانضباط والشفافية إلى السوق، وعودة الثقة إلى الجنيه، واستعادة البنك المركزي لهيبته التي غابت.
في النهاية، يمكن القول إن إعفاء برعي الصديق وتعيين آمنة التوم لم يكن مجرد تبديل في الأسماء، بل انتقال في المفهوم — من إدارة الأزمة إلى بناء الثقة، ومن التبرير إلى الفعل،فإذا نجحت آمنة التوم في إعادة الثقة إلى الجنيه، فستكون قد أعادت معه الأمل في أن الاقتصاد السوداني لا يزال قابلاً للإنقاذ.