رحمة عبدالمنعم يكتب بمناسبة عيد الجيش :مئوية القوات المسلحة… (نحن في الشدة بأس يتجلى)

رحمة عبدالمنعم يكتب بمناسبة عيد الجيش :مئوية القوات المسلحة… (نحن في الشدة بأس يتجلى)
هناك أيام في حياة الأمم ليست مجرد تواريخ على الورق، بل شواهد على مسيرة طويلة من البأس والعزيمة،الرابع عشر من أغسطس واحد من هذه الأيام في وجدان السودان، يومٌ يختلط فيه الحاضر بالماضي، والدمع بالفخر، والذكرى بالوعد، إنه عيد الجيش السوداني الحادي والسبعون، العيد الذي يجيء هذا العام تحت شعارٍ هو خلاصة التجربة ومفتاح السر: «نحن في الشدة بأس يتجلى».
جيش السودان لم يولد في معسكراته الحديثة، بل في عمق التاريخ، في أيام ممالك كوش النوبية حين كان القتال شرفاً قبل أن يكون وظيفة، وحين كان الجندي حاملاً سيفه بيمينه، وراية بلاده بشماله، من هناك، مرّ عبر القرون، حتى وصل إلى بدايات القرن العشرين، يوم تأسست “قوة دفاع السودان” تحت الحكم الثنائي، جيش من أبناء هذا التراب يقاتل في صفوف جيش غريب، لكن قلبه يخفق لوطنه.
وفي 1954، وقبل عامين من الاستقلال، صار للبلاد جيشها الوطني الذي لم يعد تابعاً لأحد، ومنذ تلك اللحظة، كانت الراية التي رفعها الجندي السوداني تتجاوز حدود الميدان العسكري، لتصبح رمز السيادة وبطاقة هوية وطنية،حمل السلاح في حرب فلسطين عام 1948، وفي أكتوبر 1973 قاتل على ضفاف القناة إلى جانب الجيوش العربية،دافع عن كسلا ضد الإيطاليين، ووقف في الكفرة والعلمين لصدّ جحافل رومل، وجاب الصحراء الكبرى دفاعاً عن حرية الآخرين قبل أن يستعيد حرية أرضه.
لكن هذا التاريخ الطويل، بكل ما فيه من بطولات ومآثر، كان تمهيداً للامتحان الأعظم الذي جاء في أبريل 2023. يومها لم يواجه الجيش قوة غازية من وراء الحدود، بل واجه تمرداً خرج من قلب الوطن، تمرد مليشيا الدعم السريع، الذي أراد أن يمزق الخرطوم، ويعزل الولايات، ويفرض منطق الفوضى على بلدٍ كان جرحه ما يزال ينزف.
كانت الأيام الأولى للحرب كعاصفة مفاجئة، لكن في قلب الجيش، كان اليقين أهدأ من الريح: «نحن في الشدة بأس يتجلى». لم يكن الشعار شعراً أو خطابة، بل خطة حياة، بدأ القتال من أزقة الخرطوم حتى طرق سنار، ومن جسور الجزيرة حتى مداخل القضارف، مدينة بعد مدينة، وولاية بعد ولاية، يعود علم السودان ليُرفع فوق المباني التي لطالما انتظرت هذا اليوم.
في سنار، استعاد الجيش مجرى النيل الأزرق وكأنما استعاد مجرى الحياة، في الجزيرة، أزال غبار الحرب عن الحقول، فأشرقت الشمس على القطن والذرة والقمح،وفي الخرطوم، أعاد التذكير بأن العاصمة لا تُسلّم إلا لأهلها، لم تكن معارك تحرير المدن مجرد نجاح عسكري، بل عودة الروح إلى الوطن.
لقد دفع الجيش في هذه الحرب ثمناً باهظاً: شهداء تساقطوا كالنجوم على درب النصر، وجراحى تركوا على أجسادهم خرائط التضحية، لكن كل ذلك كان تحت عين شعبه، الذي لم يقف متفرجاً، بل كان السند والعون، يفتح الأبواب للمقاتلين، ويقدم لهم الماء والطعام، ويرفع أصوات الدعاء بالنصر، في هذه الحرب، تجلت العلاقة الأبدية بين الجيش وشعبه، علاقة ليست من نسج بيانات رسمية، بل من عرق الجنود ودم الشهداء.
القيادة الحالية للقوات المسلحة، بقيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان وهيئة الأركان، واجهت الحرب وهي محاطة بحلقات من الضغط الخارجي والتشويه الإعلامي والمؤامرات السياسية، لكنها لم تتنازل عن جوهر المعركة: أن السودان لا يتجزأ، وأن العاصمة لا تُسلَّم، وأن السلاح لن يوضع حتى يُسترد آخر شبر. كان موقفها موقف القائد الذي يعرف أن الانحناء للعاصفة ليس حلاً، بل الثبات حتى تمر.
سبعة عقود من عمر الجيش، فيها كل شيء: معارك النصر، مواكب الشهداء، فترات السلام، وأزمنة الحرب،لكن المشترك فيها جميعاً أن الجندي السوداني ظل يرى في نفسه حارساً لمال الشعب ودمه، وسوراً بينه وبين المجهول، الجيش ليس في معسكراته فقط، بل في ذاكرة كل بيت، وفي صور الشهداء التي تعلق على الجدران، وفي قصص البطولة التي تروى للأطفال قبل النوم.
في العيد الحادي والسبعين، نقول إن الجيش السوداني لا يحتفل بتاريخ مضى، بل بتاريخ ما يزال يُكتب، وأن الشعار الذي رُفع هذا العام «نحن في الشدة بأس يتجلى» ليس خاتمة، بل وعد بالمزيد من الثبات، فالمعركة لم تنتهِ، لكن روحها واضحة: أن الوطن لا يُؤخذ من أهله ما دام بينهم رجال يحملون السلاح، وشعب يقف خلفهم، وذكرى تذكّرهم بأن واحد وسبعين عاماً من البأس لا يمكن أن تنتهي بانكسار، بل تُستكمل في الطريق نحو اعواماً قادمة من المجد.




