د. محمد يوسف قباني يكتب: مآلات الواقع والتحديات الراهنة ومستقبل الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية في السودان بعد حرب أبريل 2023م – من بُعد علمي وأكاديمي..

د. محمد يوسف قباني يكتب: مآلات الواقع والتحديات الراهنة ومستقبل الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية في السودان بعد حرب أبريل 2023م – من بُعد علمي وأكاديمي..
أحدثت حرب أبريل 2023م تحولات جذرية في البنية السياسية والأمنية والاجتماعية بالسودان. انعكست هذه التحولات على جميع مؤسسات الدولة، بما فيها الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية، التي تمثل مركزاً مهماً لإعداد القيادات وصناع القرار. وفي ظل هذا الواقع الجديد، تبرز تحديات كبرى وفرص لإعادة صياغة الدور المستقبلي للأكاديمية بما يتناسب مع احتياجات السودان الراهن والمستقبل.
لقد شكلت الحرب التي اندلعت في السودان في أبريل 2023م نقطة تحول عميقة في مسار الدولة السودانية بمختلف مؤسساتها ومرافقها الوطنية، وكان من بين أبرز المتأثرين بتداعيات هذا النزاع الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية، باعتبارها إحدى المؤسسات
السيادية التعليمية التي كانت تضطلع بأدوار محورية في إعداد الكوادر القيادية وصياغة الرؤى الاستراتيجية للدولة في مجالات الأمن القومي، الحكم الرشيد، وبناء السلام.
إن واقع ما بعد الحرب أفرز جملة من التحولات البنيوية العميقة، سواء على مستوى الجغرافيا السياسية أو البنية المؤسسية للدولة، وأعاد صياغة أولوياتها بشكل جذري،
مما فرض على مؤسسات التفكير الاستراتيجي والأمني أن تعيد النظر في أُطرها النظرية وأدوات عملها، بما يتناسب مع متطلبات مرحلة انتقالية معقدة يسودها التشظي السياسي، الانهيار الاقتصادي، والنزاعات الاجتماعية. ومن هنا، بات الحديث عن مآلات الأكاديمية العليا ومستقبلها الوظيفي والأكاديمي ضرورة علمية ملحة لفهم طبيعة التحولات الجارية، واستشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة.
تواجه الأكاديمية اليوم تحديات كبرى تتوزع بين التحديات البنيوية المتعلقة بإعادة تأهيل بنيتها التحتية التي تضررت بفعل الحرب، والتحديات الوظيفية المتصلة بإعادة تعريف رسالتها وأهدافها الاستراتيجية بما يتلاءم مع البيئة الأمنية والسياسية الجديدة. كما برزت تحديات إضافية تتعلق بضرورة تحديث مناهجها وبرامجها لتواكب المفاهيم الحديثة للأمن الإنساني، والأمن
المجتمعي، وإدارة الأزمات، وصناعة القرار الاستراتيجي في الدول الخارجة من النزاعات.
ولا يمكن تجاهل أن الأكاديمية، بحكم طبيعتها كحاضنة للخبرات الوطنية في قضايا الدفاع والأمن والأمن الوطني وعلوم الاستخبارات والسياسات العامة، مطالبة اليوم بلعب دور أكثر حيوية في عمليات بناء السلام،
وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتمكين الفاعلين المدنيين والعسكريين من أدوات التحليل الاستراتيجي، والتفكير النقدي، وإدارة التعقيد. ويضاف إلى ذلك أن التحديات المستقبلية تشمل قدرة الأكاديمية على استقطاب الكفاءات الوطنية، وترميم الثقة بين مؤسسات التعليم الاستراتيجي والمجتمع السوداني الذي تضرر بشكل بالغ من آثار الحرب.
أما فيما يتعلق بآفاق المستقبل، فإن الأكاديمية العليا أمام مسارين رئيسيين: إما أن تعيد صياغة ذاتها كمؤسسة فكرية مرنة، قادرة على التكيف مع التحولات العميقة التي يشهدها السودان، فتصبح فاعلاً محورياً في عمليات بناء الدولة والسلام المستدام؛ أو أن تفقد أهميتها الاستراتيجية إذا لم تستطع التكيف مع بيئة ما بعد الحرب، بما يضعها على هامش المشهد الوطني.
إن استشراف مستقبل الأكاديمية يتطلب قراءة نقدية دقيقة للواقع الجديد، واستلهام الدروس المستفادة من تجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة، مع الالتفات إلى أهمية تبني نماذج حديثة في التعليم الاستراتيجي، تقوم على الدمج بين التحليل الأكاديمي الرصين والتواصل البنيوى الفاعل بقضايا المجتمع والواقع السياسي المتغير.
بهذا الفهم، تسعى هذه المقالة إلى تقديم تحليل شامل لمآلات الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية بعد حرب أبريل 2023م، مستعرضة أبرز التحديات الكبرى التي تواجهها، ومقترحة مسارات عملية لاستعادة دورها الوطني الحيوي في بناء السلام، وتعزيز الاستقرار، وإعادة تأسيس منظومة التفكير الاستراتيجي في السودان.
الواقع الجديد بعد الحرب
تفكك مؤسسات الدولة، فلقد أثرت الحرب على المؤسسات النظامية بما فيها القوات النظامية والأجهزة الأمنية، وتزامن مع ذلك ظهور تحولات في خريطة السلطة، فهناك صعود قوى جديدة وتراجع أخرى مع بروز الحاجة لترتيبات أمنية وسياسية جديدة. وكذلك انتشار النزاعات المحلية واتساع نطاق الصراعات الأهلية
والنزوح، مما جعل بيئة الأمن الوطني أكثر تعقيداً. وهناك تغير أولويات الأمن القومي بحيث أصبح الأمن الإنساني (الغذاء، الصحة، التعليم) جزءاً رئيسياً من منظومة الأمن بجانب الأمن التقليدي. واعقب ذلك تزايد التأثيرات الإقليمية والدولية واشتداد التدخلات الأجنبية في الشأن السوداني مما يتطلب خبرات أعلى في إدارة الملفات الاستراتيجية.
التحديات الكبرى التي تواجه الأكاديمية
السعي لإعادة البناء المؤسسي، فهناك الحاجة الملحة لترميم بنيتها الإدارية والأكاديمية بعد الأضرار المحتملة التي أصابتها أثناء الحرب.
العمل الحثيث لتحديث المناهج تطويرها لتواكب التحولات الأمنية والسياسية والاجتماعية الجديدة.
تعزيز التمويل والاستقلالية، فضعف الموارد المالية والحاجة إلى استقلالية إدارية وأكاديمية لتحافظ على حيادها ومهنيتها.
مواكبة التهديدات المعقدة والتعامل مع تهديدات معقدة مثل: الإرهاب، الجريمة المنظمة، والأمن السيبراني، الحروب السيبرانية والهجمات الإلكترونية بين الدول، التطرف العنيف والأيديولوجيات الراديكالية، تهريب الأسلحة والمخدرات/ الإتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، الجرائم المالية وغسيل الأموال، الأوبئة البيولوجية والتهديدات الصحية العابرة للحدود،
التجسس الصناعي وسرقة التكنولوجيا، الجرائم البيئية (مثل الإتجار غير المشروع بالحياة البرية وتدمير الموارد الطبيعية)، التهديدات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي (مثل الأنظمة ذاتية التشغيل خارج السيطرة)، الأنشطة التخريبية ضد البنية التحتية الحيوية (كشبكات الكهرباء، المياه، المواصلات)، والصراعات والنزاعات المسلحة الهجينة (التي تجمع بين الحرب التقليدية والحرب السيبرانية والإعلامية).
مستقبل الأكاديمية – فرص وإستراتيجيات
إعادة تعريف الدور – وأن تتحول الأكاديمية إلى مركز فكري واستراتيجي يسهم في بناء السلام المستدام وإعادة الإعمار الوطني.
توسعة مجالات البحث لتشمل قضايا الأمن الإنساني، المصالحة الوطنية، بناء الدولة.
تطوير برامج نوعية عبر إطلاق برامج ماجستير ودكتوراه غير تقليدية للأكاديمية العليا للدراسات الإستراتيجية والأمنية في ما بعد حرب أبريل 2023 في السودان، ومستجدات أعوام 2020 – 2030م، مثل:
1. ماجستير دراسات السلام وإعادة الإعمار
2. ماجستير الأمن السيبراني والاستراتيجية الرقمية
3. ماجستير الذكاء الاصطناعي وتحليل المخاطر الأمنية
4. دكتوراه القيادة الاستراتيجية وإدارة الأزمات
5. ماجستير اقتصاديات الأمن والتنمية المستدامة
6. ماجستير الدراسات الاستراتيجية الإفريقية
7. دكتوراه الحوكمة الأمنية وإصلاح القطاع الأمني
8. ماجستير الإعلام الاستراتيجي والدبلوماسية العامة
9. ماجستير الأمن الإنساني وإدارة الكوارث
10. دكتوراه التحولات المجتمعية وصناعة السياسات الأمنية
إدخال برامج تدريبية قصيرة لضباط الأجهزة النظامية، العاملين في العمل الإنساني، القادة الشباب.
تعزيز التعليم الإلكتروني، إنشاء منصات ذكية للتدريب عن بعد لمواجهة تحديات النزوح والاضطرابات.
إقامة شراكات مع مراكز دراسات استراتيجية وأمنية عالمية للاستفادة من أفضل الممارسات للانفتاح الإقليمي والدولي.
الإسهام في الحوار الوطني وأن تكون الأكاديمية منصة لاحتضان مؤتمرات الحوار الوطني وصياغة الرؤى الاستراتيجية للسودان.
الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية أمام منعطف مصيري: إما أن تظل حبيسة للواقع القديم المتداعي، أو تنهض بدور محوري في صياغة مستقبل السودان. وإعادة بنائها برؤية استراتيجية متكاملة سيجعلها ركيزة أساسية في تأسيس الدولة السودانية الجديدة.
بتحقيق هذا التحول، ستصبح الأكاديمية العليا ركيزة أساسية في بناء السودان الحديث: دولة تقوم على المعرفة، والابتكار، والحوكمة وحسن إدارة الموارد، وصناعة السياسات الذكية، بما يمكنها من مواجهة تحديات الأمن والتنمية والسيادة الوطنية بثقة وكفاءة.