د. عبدالفتاح سليمان يكتب : محاورات الكتب
د. عبدالفتاح سليمان يكتب : محاورات الكتب
عندما أرسل داروين كتابه الشهير ( أصل الأنواع ) نصحه الناشر بأن يكتب بدلاً عنه كتابا عن الحمام فلم يكترث بنصيحة الناشر فطبع الفا ومئتين وخمسين نسخة من الكتاب نفدت في اليوم الأول من نشره ، ومنذ ذلك الحين لم يغب الكتاب عن أرفف المكتبات ولا عن دوران
المطابع. ذلك أن الكتاب يكسب القوة والمعرفة والمتعة فهناك من يقرأ ليتعلم وهناك من يقرأ ليطلع على العالم وهناك من يقرأ ليغيب عن العالم ؛ ومن هنا جاءت كراهية المرأة للكتاب على قول بسام بركة ( أعني المرأة الزوجة وليست المرأة القارئة والكاتبة ). فالفيلسوف الدمشقي
المبشر بن فاتك كان أميرا مثقفا بلغ شغفه بالقراءة أن ألقت زوجته بكتبه في بركة من باحة قصره لانشغاله عنها بالكتب.
يقول ابوالحسن الماوردي : العلم عوض عن كل لذة ومغن عن كل شهرة ، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة .( أدب الدين والدنيا ص 192). ومن أجل ذلك كانوا يصنعون الزبيب الأحمر لتقوية الذاكرة ويغسلون وجوههم بماء زمزم للحفظ وثبت أن شيئا من الجوع يوهن الجسد
وينعش الروح ويقوي الذاكرة .أمضى الجاحظ خمسة وتسعين عاما في القراءة والكتابة والتأليف إذا سلخنا منها سنى طفولته ، وفي ذلك تروى حكايات كثيرة عن شغفه بالعلم والاطلاع يقول أبوهفان : لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ فإنه لم
يقع بيده كتاب إلا استوفى قراءته كائنا ما كان ، وكان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر ( أى للقراءة ) . وقد بلغ به الاستغراق في القراءة أن نسى كنيته ( روى أنه قال نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم بما أكنى ؟ قالوا : بأبي عثمان ! .
رجل كهذا حرى به أن يموت بين كتبه وقد كان ، وقريب من هذه الطرفة نقل أن الشيخ الكتاني كان يكتب إهداء على أحد كتبه لواحد من تلاميذه ثم وقف طويلا يتذكر فسألوه ماذا يحدث قال نسيت اسمي فلقنوه اسمه ( أحمد بن الصديق القماري – جونة العطار . الكتاني – 82- 83 ).
ولاغرو فإن الجاحظ عاش النصف الأخير من القرن الثاني والأول من القرن الثالث وهو عصر هارون الرشيد وابنه المأمون ، العصر الذي ظهر فيه أئمة الفقه الأربعة مالك وابوحنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل ، وقد أحصى ياقوت الحموي مائة وثمانية وعشرين مصنفا من مؤلفات
الجاحظ أشهرها البيان والتبيين والبخلاء والتاج وأخلاق الملوك والعثمانية ) وله كتاب طريف العنوان اسماه ( البرصان والعرجان والعميان والحولان ) . الجاحظ كاتب رهيف الحس خصب الخيال شفاف النفس بارع في
تصوير الأحداث ووقائعها وهو ما اكسبه الانصاف حتى من خصومه يقول أبوالحسن المسعودي في مروج الذهب (4/195 ) والجاحظ مع انحرافه المشهور كان إذا تخوف ملل القارئ خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة ، فهو يعيره بالانحراف كون الجاحظ معتزليا
في حين كان المسعودي شيعيا . وقد عرض الجاحظ في البيان والتبيين لقضايا اللغة فتحدث عن مخارج الحروف وأثر اكتمال الاسنان أو نقصها في النطق . وذكر الحروف التي تدخلها اللثغة وأى اللثغة أشنع وأيها أظرف وأشار إلى طريف من لغة الأطفال فقال : الميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال كقولهم ماما وبابا – البيان والتبيين ص 62).
كثير من الرؤساء الأمريكان اشتهروا باهتمامهم بالقراءة يأتي على رأسهم الرئيس جيفرسون وابراهام لنكولن وجون آدمز وجون كينيدي وبيل كلنتون وباراك أوباما . يقول لنكولن : إن الله يحب الناس لذلك يخلق منهم الكثير فهم يبنون المساجد ويعمرون الأسواق وينجبون
العباقرة ، أما محترفوا القراءة فهم جمهور الخطباء والوعاظ فهم زهرة الدنيا وفاكهتها أما القراء فهم المجتمع هم ملحه كما في الانجيل ، في الانجيل يتساءل الناس إذا فسد الملح ماذا نصنع ؟.
يعد الرئيس توماس جيفرسون ثالث الرؤساء الأمريكان من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الامريكية ( 1743- 1826 ) حيث برزت في عهده خلافات سياسية عميقة كان من نتائجها بروز الحزبين الجمهوري والديمقراطي وهو يعد من أهم مثقفي أمريكا وأكثر رؤسائها تأثيرا في البناء الثقافي لهذه الدولة ، فقد شكلت
مكتبته الشخصية قوام مكتبة الكونغرس المشهورة فقد باعها للحكومة الامريكية بعد إحراق البريطانيين لمكتبة الكونغرس في عام 1812 فكان في أيام عمله بباريس يجوب المكتبات بعد الدوام من أجل جمع الكتب رغم ما كان يعانيه من قلق وافلاس ووحدة بعد وفاة زوجته
الشابة مارثا ويلز . كان جيفرسون ملما بالعديد من المعارف والعلوم والثقافات لدرجة أنه كان يتقن خمس لغات حية وقد لعب دورا كبيرا في تأسيس جامعة فرجينيا كما كان عضوا في الجمعية الامريكية للفنون والعلوم وأكاديمية النقوش والرسائل الجميلة . سئل
جينجرش قائد ثورة سيطرة الجمهوريين على الكونغرس عام 1994 أنه رغم خلافات عديدة له مع بيل كلينتون فهل من شيئ يجمعها؟ أجاب : نعم هو قارئ نهم وكذلك أنا واجد نفسي لو تحدثت معه خارج قضايا الخلاف.
ومن عجائب الأمريكان أن الكتب التي يقرأها الرؤساء ترتفع أسهمها في سوق المبيعات .
هناك فلاسفة ومفكرون وأعلام وكتاب كانت لهم طرائق لطيفة مع القراءة والكتابة ف نابليون كان يقرأ الكتب على جبهة القتال وعندما ينتهي ينزع الصفحة ليسلمها للجنود من خلفه وماو تسي تونج كان لايرفع نظره عن الكتاب إلا لتناول قطعتين من حلوى الارز . أما تولستوى
فكتب رائعته الحرب والسلام 1865 بمزاج رائق ، فقد كان يتوقف عن الكتابة أحيانا ليطارد صيد الأرانب ، أما الكاتب اللبناني سليم سركيس فكان لا يكتب إلا وفي جيبه قطع من النقود يتحسسها فإن لم تكن معه استعارها ليواصل الكتابة ، وفي قصة تعرفه على زوجته الفرنسية
يحكي مالك بن نبي أنه كان كلما طلب كتابا من المكتبة وجده مستعارا عند فتاة بالاسم فطلب من أمين المكتبة التعرف عليها فكان الكتاب سببا في زواجه من الفرنسية كرستين بول التي اسلمت بعد زواجها منه واسماها خديجة . روجيه جارودي هضم الشيوعية حتى فلسفها
لأهلها ثم لجأ للكاثولوكية فأعاد لها حيويتها ثم أسلم فلفت أنظار العالم لرسالة الاسلام الخالدة . جارودي كان يقرأ أثناء رئاسته لجلسة البرلمان الفرنسي ، ذكر مرة أنه طلب إلى سكرتيره أن يحضر له كتابا لهيجل بينما كانت
الجلسة منعقدة ! . ولأصدقاء الكتاب مغارز محكية كان المازني من أوائل الذين كتبوا مقالاتهم على الآلة الكاتبة فعلق صديقه زكي مبارك بأن المازني أصبح يكتب بلغة طق طق .
جون ماكسويل كويتزي روائي جنوب افريقي حصل على جائزة نوبل عام 2003 وكان حصل قبلها على جائزة البوكر الانجليزية مرتين فهو نشأ في بيت يتحدث الانجليزية رغم أنه من أصول هولندية . كان كويتزي يغيب عن المدرسة مرة كل ثلاثة أيام من أجل القراءة
ومع ذلك كان يحرز المرتبة الاولى في فصله كان يقرأ بسرعة واستيعاب تام عكس والده الذي كان لا يطيق القراءة ، وبطرافة بالغة يصف والده بأنه ( كان يقرأ الصحيفة بسرعة وبعصبية كما لو كان يبحث عن شيئ
غير موجود .كان يلفظ التعابير الاصطلاحية الأكثر غباء ويتلذذ بها كما لو كان يحاول أن يرسخها في ذاكرته كانت الصحيفة تدخل إلى نفسه الملل يصدر قعقعة ويصفع الصفحات وهو يقلبها وعندما ينهي قراءته يطوي الصحيفة ويبدأ في حل الكلمات المتقاطعة ! ( جون كويتزي – أيام الصبا ص- 123) .
هناك كتاب يجعل القارئ منفعلا أو صاخبا أو عاشقا أو متذوقا منتشيا . يقال أن فيليب الثالث ملك فرنسا لاحظ من على شرفة قصره على ضفة نهر مانزاناريس في مدريد طالبا يقرأ ثم يقطع قراءته بين حين وآخر ليلطم جبينه لطمات عنيفة تصحبها حركات من النشوة والطرب فقال إن الطالب إما أن يكون مجنونا أو أنه يقرأ دون
كيخوته ، ودون كيخوته هو كتاب اللغة الاسبانية الأول للكاتب ثيربانتس الذي وقع في الأسر ل خمس سنوات في الجزائر وهى البلد التي جرت فيها بعض أحداث هذه الرواية وهو يعد أهم كتب المتع والأخبار والهزل في تاريخ اسبانيا ، ومما قاله في الكتاب : أن المرأة والدجاجة تضيعان إذا سرحتا .