مقالات

د. عبدالفتاح سليمان يكتب: شايل في قلبو هواهو

د. عبدالفتاح سليمان يكتب : شايل في قلبو هواهو

 

عادة ماترتبط فكرة الاعتزال بمجتمع الرياضيين والفنانين بعد بلوغ النجومية للاحتفاظ بامجاده وتاريخه وجمهوره فتبقى العزلة آخر الخيارات كمتنفس للمبدع، وكذا الكاتب الذي امضى جل وقته ممارسا لغواية الكتابة، والذين يقرأون للكاتب أو يتابعونه ينظرون إلى توقفه كأنما هو تخلٍ عن الواجب متناسين ذات الكاتب وظروفه؛ وبالمقابل فإن قرار الرجوع عن الاعتزال كأنما هو رجوعٌ عن التوبة بالنسبة لكاتبه.

مادفعني إلى ذلك هو انزعاجي من رسالة بعثها صديقي الدفعة وليد بشير طه إلى قراءه ومتابعيه وأنا منهم يعلن فيها نيته اعتزال الكتابة بعد مسيرة كنت أحد شهودها.
عوامل كثيرة دفعت الوجيه وليد لهذا القرار الصعب منها فقده لوالده وهو بعيد وجراح الحب وآلامه جاء في رسالته ( خسرت الحب وكل الأشياء وها أنذا وحيدا غريبا أدفع ثمن حماقاتي لا بنت ولا أبناء ولا ذرية آثرت أن انسحب بعد 13 عاما حسوما، مبديا تشاؤمه من الرقم 13 الذي يعود إلى السريان، وهم ياوليد قوم سكنوا مايعرف بسوريا الكبرى حتى الاناضول كانوا يعتنقون المسيحية فيجعلون من الاحد راحة وعطلة يصاب الفرد فيه بالشؤم والحزن إن عمل في ذلك اليوم.

في التراث العربي والاسلامي يبدو أن هجرة الأدب والتوقف عن الكتابة يعود لأسباب دينية، وبعضها خاص ولعل أشهر المعتزلين هو لبيد بن ربيعة فقد كان اعتزاله مقنعا عندما أرسل الفاروق عمر بن الخطاب عامله على الكوفه في طلب لبيب مستوضحا : سل لبيب والاغلب العجلي ما احدثا من الشعر، وكان عمر يستطيب سماع الشعر فرد لبيب أن الله أبدلني بالشعر سورة البقرة وآل عمران فزاد عمر في عطائه. وقد حكى حماد الراوية عن اعتزال كثير عزة الشعر لما رأى من ورع عمر بن عبدالعزيز وتقواه.

وقد ورد في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور قصة مطولة عن عزم عمر بن أبي ربيعة ترك الشعر فاعترضه شابٌ سائلا الشفاعة له بين يدى والد محبوبته رغبة في الزواج منها فعاد إلى البيت وقد جاش الشعر بصدره فتوسلت اليه جاريته مذكرة إياه بقسمه الذي نذره على نفسه لكل بيت يقوله من الشعر ( بدنة ) ؛ وهى الناقة العظيمة السمنة تسمن للهدى في الحج فلما أكثرت عليه انشد يقول :-
تقول وليدتي لمٓا رأتني طربت وكنت قد اقصرتُ حينا
أراك اليٓومٓ قد احدثت شوقا وهاج لك البكاء داءً دفينا
بربك هل رأيت لها رسولا فشاقك أم رأيت لها خدينا

وقد تغلٓبَ الحاح الشعر على عزم كثير عزة فكان متى أنشد بيتاً أعتق رقبة ثم قال استغفر الله وأتوب إليه ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) .
نجيب محفوظ توقف عن الكتابة سبع سنين بين 1952 — 1959 بعد ان انجز ثلاثيته المشهورة ثم عاد وأخرج للناس روايتيه ( ثرثرة على النيل ) و( أولاد حارتنا ) ، والأخيرة هى التي أهلته لنيل جائزة نوبل في الآداب عام 1988. وكان الروائي العالمي الطيب صالح قد توقف عن الكتابة حينا ثم عاد وسئل عن السبب فقال :- إن الأديب لا يعتزل الكتابة لكنّه ربما يتوقف بعد حين وآخر حتى يقدم جديدا وأنا اكتب حسب مزاجي فالكاتب ليس مصنعا ينتج دون توقف ! .

شعراء وكتاب انقذتهم الكتابة من براثن السجن وآنست وحدتهم وعزلتهم فقد أمضى المناضل انطونيو غراميشي احد عشر عاما في سجون الفاشية في ايطاليا فكيف تغلب على حياة السجن القاسية ؟ كان ببساطة يكتب حتى انجز 32 دفترا شكلت مشروعه الفكري معتمدا على ذاكرته في بيئة لم يتوفر له فيها غير الدواة والحبر. وكان قلم الرصاص هو سلاح الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت في محبسه بسجن ( بورصة ) فلّخص تجربته في الزنزانة من خلال ماكتبه بقلم الرصاص كتب يقول : ( كان معي قلم رصاص ظل يكتب يكتب إلى أن افنى خلال أسبوع، فإذا سألتموه قال لكم إنها حياة كاملة وإذا سألتموني أجيبكم إنه إسبوع.
وبتحولك عن الكتابة يا وليد فإنك تكون قد تخليت عن

السلاح الذي كان يحميك وعن المكان الذي يؤويك وعن الزاد الذي يقويك وعن الصديق الذي كان يؤنسك ولا يؤذيك وبتخليك عنها فإنك تتخلى عن السكون الذي أودعك الحكمة وجملٓك بالعقل وعن التأمل الذي منحك الراحة واهداك السكينة، وأنت ياصديقي بتخليك عن كل ذلك تفقد الأمن الذي كان يحوطك . اكتب فإنك ستجد سلوى الفقد كما وجدها الجابري عند الصادق الياس بعد فقده لأمه.
حكايتي مع الملام طالت

دايما اعيده واتأسف فقد محبوب على مكتوب
اقش في دمعي واتجفف
ياريت اللوم يرجعني ويرجع حالي لى حالو
تهل البهجة فوقي تطل
واكون نوال جزى صبري
ولا تغرنّكَ حياة يعيشها كثيرون فربما تعيشها يوما وتحياها؛ وتمٓسك بحكمة برناردشو حين قال : عندما تكون عازبا فكل ماتراه هم الازواج السعداء وعندما تكون متزوجا فكل ماتراه هم العزاب السعداء، وبالكتابة ستجد الحب؛ ففي مجموعته القصصية ( في قلب قلب البلد ) كتب الروائي الامريكي ( وليام جاس ) على لسان أحد شخوصه ( أنا متقاعد في الحب ). ورغم ذلك ظل جاس يكتب حتى الثامنة والثمانين من عمره.

شايل في قلبو هواهو
دي عيونو فاضحاهو
كاتم المحبة سنين
بى ريدو كاويني
اصلو الغرام غلآب
ما بخته في الاحباب
حبيبي قلبو ضنين
كاتم الغرام مني.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى