د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: دور الإدارات الأهلية في معركة الكرامة ورسالة امتنان لرِجالٍ حملوا الوطن في صوتهم وضميرهم

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: دور الإدارات الأهلية في معركة الكرامة ورسالة امتنان لرِجالٍ حملوا الوطن في صوتهم وضميرهم
حين تُختبر الأوطان في لحظات الصراع الكبرى، يظهر معدن الشعوب الحقيقي، وتنهض من باطن التاريخ قوى ليست مدججة بالسلاح، بل مزوّدة بالحكمة والإرث، والقدرة على جمع المتفرق، وردّ الناس إلى جادة الوطن. وفي معركة الكرامة، التي شكّلت واحدة من أعقد اللحظات في تاريخ السودان الحديث، دخلت الإدارات الأهلية إلى الساحة ليس بصفتها رمزًا تقليديًا أو مؤسسة اجتماعية، بل بصفتها صمام أمان الوطن، ودعامة أصيلة لنسيجه، ومرجعية أخلاقية لا تسقط حين تتهاوى الأصوات وتضطرب الموازين.
لقد أدركت الإدارات الأهلية منذ اللحظة الأولى أن التمرد لم يكن يستهدف العاصمة والمدن فحسب، بل كان يسعى إلى تفكيك المجتمع من الداخل، زرع الشقاق بين القبائل، ودفع الناس إلى مواقع العداوة والصراع. لكن الإدارات الأهلية كانت أذكى من مخططات الفوضى؛ فجمعت ما أراد الأعداء تفريقه، وثبّتت وعي القواعد الاجتماعية، وحوّلت القبائل من أهداف يسعى التمرد لاختراقها إلى قلاع راسخة تقف خلف الجيش الوطني وترفض الانزلاق إلى هاوية الفتنة.
وفي زمن اختلط فيه الحق بالباطل، كان صوت الإدارات الأهلية هو البوصلة التي أعادت الاتجاه إلى الشمال الوطني. فالحرب التي أرادها المتمردون حربًا قبلية، واجهتها الإدارات الأهلية بالوعي لا بالبندقية، وبالحكمة لا بالصراخ، وبالرجولة لا بالتحريض. كانت تعرف أن السودان، بتاريخه الطويل مع التعايش والسلام، ليس ساحة لتصفية حسابات، بل أرضًا تتسع للجميع ما داموا أوفياء لترابها.
وقد أظهرت الإدارات الأهلية قدرة مذهلة على التعامل مع الواقع الأمني والاجتماعي المعقد؛ فحافظت على السلم الأهلي في مناطق عديدة، ومنعت الانفلات، وأسهمت في حماية المدنيين من حملات التخويف والنهب، ووفرت الغطاء المجتمعي للقوات المسلحة، بحيث شعر الجندي في الخطوط الأمامية أن وراءه قبائل لا تُباع ولا تُشترى، ورجالاً يعرفون أن الكرامة لا تُصان بالكلمات بل بالمواقف.
وفي مواجهة المتمردين الذين حاولوا تجنيد بعض الشباب عبر الوعود الكاذبة والدعاية السوداء، كانت الإدارات الأهلية ثابتة كالنخلة، لا تميل مع الريح ولا تتبدل مواقفها، فأصدرت البيانات الجامعة، وخاطبت أبناءها بلغتهم وقيمهم، وحذرتهم من الانجرار وراء مشاريع الخراب. لقد كانت صوت الوالد قبل أن تكون صوت الزعيم، وصوت الحكيم قبل أن تكون صوت السلطة، وصوت الوطن قبل كل شيء.
ولم يقتصر دورها على التوعية وحفظ السلم الاجتماعي؛ بل لعبت دورًا مهمًا في دعم الجيش معنويًا ولوجستيًا، إذ كانت تزور المقاتلين، وتشجعهم، وتؤكد لهم أن الشعب كله معهم. كما شاركت في تنظيم النزوح الآمن، وتقديم الدعم الإنساني، والتنسيق بين المناطق، مما جعلها جزءًا من شبكة الحماية التي صانت المجتمع من الانهيار الكامل.
إن الإدارات الأهلية، بهذا الدور المتقدم، لم تدافع عن مكون قبلي أو جهة محددة، بل دافعت عن فكرة السودان نفسه: الدولة الجامعة، الأرض الواحدة، اللحمة التي لا تنقطع مهما اشتدت العواصف. وقد أثبتت في معركة الكرامة أنها ليست إرثًا تاريخيًا جامدًا، بل مؤسسة فاعلة قادرة على حماية الدولة حين يتهددها الخطر.
ومن هنا، تأتي رسالتنا لكل ناظر وعمدة وشيخ وحكيم حمل همّ الوطن على كتفيه، ووقف في وجه الفوضى، وأعاد للأرض صوتها:
شكرًا لكم…
شكرًا لأنكم كنتم الدرع الذي لم يُثقب، والكلمة التي لم تُشتر، والموقف الذي لم يهتز.
شكرًا لأنكم صُنّاع الطمأنينة حين خاف الناس، وصنّاع الوعي حين اختلطت الطرق، وحراس السلم الاجتماعي حين حاول التمرد أن يجعله رمادًا.
شكرًا لأنكم أثبتم أن الإدارات الأهلية ليست بيوتًا من القش، بل حصونًا من قيم، وأوتادًا تضرب عميقًا في تربة السودان.
لقد خلدتم أسماءكم في سجل الكرامة، وسيسجل التاريخ أن الإدارات الأهلية كانت — ولا تزال — إحدى أهم قلاع الدفاع عن السودان، وصوت الحكمة الذي يعلو فوق ضجيج البنادق، والرفيق الوطني الذي لا يتخلى عن شعبه في ساعة العسر.
لكم التحية…
وللسودان منكم القوة…
وللمستقبل منكم درسٌ خالد:
أن الأصالة ليست ذكرى… بل موقفٌ حين يتعرض الوطن للاختبار.





