د. الشاذلي عبداللطيف يكتب:.. ترانيم الظلم..حين يُروى الوطن… لا تُكذّب الحكاية

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب:.. ترانيم الظلم..حين يُروى الوطن… لا تُكذّب الحكاية
قبل أن يسألوني عن السودان… شعرت أنني أحمل وطنًا على كتفي.
ليس لأن السؤال صعب، بل لأن الإجابة ليست جملة تُقال، بل حياةٌ تُروى.
وحين التفت إليّ أولئك الأوروبيون يسألون: “ما السودان؟ ومن هم السودانيون؟”
أدركت أنني لا أتحدّث عن بلد… بل عن سيرة شعبٍ إذا وصفته بالكبرياء ظلمته، وإذا وصفته بالطيبة قصّرت بحقه.
في أحد المؤتمرات الدولية، وبينما كنا نلتقط أنفاسنا خلال استراحة قصيرة، التفت إليّ بعض الزملاء الأوروبيين وسألوني عن السودان. لم يكن السؤال جغرافيًا ولا سياسيًا، بل كان سؤالًا إنسانيًا خالصًا: من أنتم؟ وكيف يبدو شعبٌ يسمعون عنه كثيرًا ولا يعرفونه كما يجب؟
فقلت لهم بابتسامة هادئة:
“السودان لا يُشرح… السودان يُروى.”
وأخبرتهم أن الإنسان السوداني ليس صفحةً في تقرير، ولا رقمًا في إحصاء، بل هو تجربة حياة. يولد بروحٍ تميل إلى البساطة، وقلبٍ يعرف الكرم قبل أن يعرف الحساب، وطباعٍ ترى في التواضع شرفًا وفي الكِبر عيبًا لا يليق بالرجل.
قلت لهم إن السوداني يشبه النيل… لا يرفع صوته، لكنه يهب الحياة لمن يمشي معه.
ويشبه الطمي… هادئًا، صامتًا، لكنه يصنع الخصب من غير ضجيج.
ويشبه السيّالة… تلك الشجرة التي تنبت في قسوة بلادنا؛ قليلة الأوراق، حادّة الشوك، لكنها عميقة الجذور، صلبة لا تنكسر، تعيش بلا إسراف في الماء ولا في التكلّف.
أما السوداني، فهو رجلٌ يعطي بلا طلب، ويقف بلا ضجيج، ويصبر بلا أن يجعل صبره مَعْرِضًا للتفاخر.
يجوع ولا يمتهن كرامته، يتعب ولا يشتكي، يسقط أحيانًا لكن نهضته تكون أهدأ من سقوطه.
وإن ضاقت عليه الأيام، قال ببساطة: “نحمد الله”… لا تزلفًا ولا تكلّفًا، بل لأن قلبه تربّى على الرضا.
ورويت لهم كيف أن السودان ليس جغرافيا فحسب، بل حكاية وطن صُنع من الطيبة والصبر.
حكاية بلدٍ إذا دخلته مرة، حملته في قلبك حتى آخر العمر.
بلدٍ لا يودّع أحدًا… بل يسكنه الجميع.
وأضفت:
“السودانيون لا يعرفون التصنّع؛ صدقهم يجلس أمامك قبل أن يجلسوا، وبساطتهم تُعرّفك بهم قبل أن يعرّفوا أنفسهم. وإن أحبّوك، فتحوا لك نصف قلوبهم… وإن وثقوا بك، فتحوا لك قلوبهم كلها.”
وحين انتهيت من حديثي، قال أحدهم بدهشة صادقة:
“لم نسمع بلدًا يرويه أحد بهذه الدفء من قبل.”
فابتسمت…
لأن الحكاية لم تكن مجاملة، بل كانت الحقيقة التي نحملها في دمنا:
أن السودان ليس وطنًا فقط… بل روح.
وأن السوداني ليس مجرد إنسان… بل سيرة جمالٍ تمشي على قدمين.





