د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..من وحي الحكمة القديمة

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..من وحي الحكمة القديمة
الحياة رحلة قصيرة، لا تعطي وعودًا بالبقاء، ولا تمنح أحدًا فرصة لإعادة ما فات. كل يوم ينقضي هو صفحة من كتاب العمر، تُطوى فلا تُعاد، وتُسجَّل بما فيها من عمل صالح أو زلة عابرة. هذه الحقيقة البسيطة التي يتهرب منها الناس، هي جوهر الحكمة التي نحتاج إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
في زمننا الراهن، يلهث الكثيرون خلف الدنيا كأنها دار خلود. نكدّس الأموال ونشيد المباني ونزاحم على المناصب، ثم نكتشف فجأة أن كل ذلك مجرد متاع عابر، سرعان ما يُقتسم بعد رحيلنا، وتبقى لنا في النهاية أعمالنا فقط. فما قيمة قصر ينهار بعد سنوات؟ وما جدوى جاه يزول مع أول عاصفة سياسية؟
المشكلة ليست في الدنيا بحد ذاتها، بل في علاقتنا بها. نحن نتصرف وكأننا مخلدون، بينما الزمان يذكرنا في كل لحظة أنه أستاذ قاسٍ، يؤدبنا بالتجارب والخسارات، ويُسقط من يتكبر ويغتر. الحكمة تقتضي أن نتعامل مع الدنيا بوعي: نستفيد منها، لكن لا نستعبد لها.
وعلى المستوى الإنساني، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في علاقاتنا. فليس كل صديق صادقًا، ولا كل من ابتسم في وجوهنا يريد لنا الخير. المجتمعات تتآكل بالنفاق والتملق، وتنهض بالصدق والعدل. وحين يتساهل الناس مع الكذب والرياء، ينهار نسيج الثقة بينهم، فلا يبقى إلا الشك والخيانة.
ثم يأتي اللسان، ذلك العضو الصغير الذي يصنع أعظم النجاحات وأخطر الكوارث. بكلمة قد تُبنى دولة، وبكلمة قد تشتعل حرب. لذلك فالحذر من القول غير المسؤول هو أعظم فضيلة يحتاجها الناس في زمن ضجيج الإعلام ومواقع التواصل.
أما الرزق، فهو قصة أخرى. لا يطغى على حياة الإنسان شيء كما يطغى الحرص والطمع. ومع ذلك، فإن التجربة تثبت أن الرزق ليس بالحيلة وحدها، بل هو بقدر الله. رأينا من لا يملك إلا القليل يعيش راضيًا مطمئنًا، ورأينا من يملك الكثير ولا يعرف للراحة طعمًا. القناعة هنا ليست استسلامًا، بل وعيًا بأن ما كتب لك سيأتيك، وما فاتك لم يكن لك.
وأمام كل هذه الحقائق، يبقى العدل هو القيمة العليا. فالظلم لا يسقط بالتقادم، والمظلوم لا يحتاج إلى سلاح كي ينتصر، يكفيه أن يرفع يديه إلى السماء، فدعاؤه نافذ لا يحجبه حاجب.
إن خلاصة الحكمة القديمة تقول لنا: لا تنخدع بزينة الدنيا، ولا تثق بكل مبتسم، ولا تطلق لسانك على عواهنه، ولا تطمع فيما ليس لك، وكن دائمًا في صف العدل والتقوى. فهذه القيم وحدها هي التي تمنح الإنسان هيبة حقيقية، وتمنحه حياة تستحق أن تُعاش.





