د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..فيلسوف الرماد في زمن اللهب

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..فيلسوف الرماد في زمن اللهب
في بلادٍ تشتعل فيها المدن كما تشتعل الذاكرة، ويتنفس الناس رماد أحلامهم، يطلّ عبد الواحد محمد نور من شرفته البعيدة بثباتٍ بارد، كأنه لم يسمع صرخة الفاشر وهي تحترق. يقف متأمّلًا النيران كمن يشاهد فيلماً قديماً عن وطنٍ لا يعنيه، ثم يُلقي جملته المعتادة: “الطرفان مخطئان!”، ويُطفئ سيجارته ببطءٍ يشبه موت الضمير.
لقد وجد عبد الواحد ضالته أخيرًا: أن يصبح فيلسوف الرماد. لا يُريد أن يتورّط في الدخان ولا في الماء، لا يُقاتل ولا يُصالح، لا يُدين ولا يُبرّئ. يكتب عن الحياد كما لو كان أستاذًا للفلسفة في جامعةٍ سويسرية، لا زعيمًا لحركةٍ خرجت ذات يوم من رماد دارفور لتقاتل من أجل الكرامة.
يا عبد الواحد، حين يشتعل الوطن لا يُنتظر من القائد أن يُلقي محاضرةً في الأخلاق، بل أن يُمسك الجرح بيده. فالسودان اليوم لا يحتاج إلى “شاعر الرماد” الذي يتغنّى بالسلام من وراء الحدود، بل إلى من يُطفئ النار لا من يتأملها بإعجابٍ ميتافيزيقيّ.
الحياد الذي تتغنّى به ليس فضيلة، بل خيانة مغسولة بالماء الفاتر. لأن الحياد في زمن الجريمة لا يُنقذ أحدًا، بل يُشجّع القاتل على المزيد من القتل. وأنت، يا “فيلسوف الرماد”، تعرف تمامًا أن الصمت حين يصرخ الدم هو مشاركة في الجريمة بالتوقيع الصامت.
لقد كنتَ يومًا رمزًا للمقاومة، فصرتَ اليوم تمثالًا في متحف العجز. تتحدث عن “العدالة الشاملة” بينما يُدفن الأطفال تحت الركام، وتبحث عن “سلامٍ نقيٍّ” بينما تختلط رائحة الموت في كل بيت. كأنك تنتظر أن يتوقف التاريخ حتى ينضج مثالك الأخلاقي، لتدخل بعد فوات الأوان بخطابك العظيم وتقول: “كنتُ على حقٍّ منذ البداية.”
لكن التاريخ لا ينتظر الفلاسفة الباردين، بل يلتقط أسماء الذين احترقوا ليضيئوا الطريق. أما الذين اختاروا الرماد، فيُكتبون على الهامش بجملةٍ واحدةٍ:
“مرّوا من هنا، ولم يتركوا أثرًا.”
يا عبد الواحد، لقد أحببتَ الرمادي أكثر مما أحببتَ الفاشر، واختبأتَ خلف الحكمة حين كان الوطن يحتاج إلى الجرأة. والآن تجلس على كومةٍ من الرماد، تتحدث عن العدالة في بلدٍ لم يعد يجد حتى رغيفًا أو دواء.
فكن كما تشاء — فيلسوفًا، ناقدًا، أو شاعر رماد — لكن تذكّر أن النار لا تخلّد المتفرجين، بل أولئك الذين اقتربوا منها حتى احترقت ملامحهم وهم يحرسون الوطن من الرماد.




