د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..تقرير الطبيب الشرعي عن وطنٍ حيّ

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..تقرير الطبيب الشرعي عن وطنٍ حيّ
دخل الوطن إلى العيادة ماشيًا على قدميه، يلوّح بيده، ويؤكد للجميع أنه بخير. لا نزيف ظاهر، لا كسور، ولا آثار معركة حديثة. فقط كان يتحدث كثيرًا… أكثر مما ينبغي لمريضٍ يقول إنه معافى.
سأله الطبيب:
– ما الذي يؤلمك؟
أجاب الوطن بثقة:
– لا شيء… لكن الناس لا يفهمونني.
فتح الطبيب الملف القديم، فوجد تقريرًا مؤرَّخًا بعام 1951، كتبه أطباء أجانب. التشخيص كان مختصرًا:
“المريض قادر على الحركة منفردًا، لكنه ينهار كلما حاول المشي مع غيره. يعاني من حساسية مفرطة تجاه نجاح الآخرين، وارتفاع مزمن في ضغط الغيرة، وانخفاض حاد في منسوب الثقة.”
ابتسم الوطن ساخرًا وقال:
– هذا تقرير استعماري متحيّز.
رد الطبيب:
– صحيح… لكن الأعراض ما زالت نفسها.
في الفحص السريري، تبيّن أن قلب الوطن كبير، لكنه يعمل بنبض فردي لا جماعي. كل خلية فيه تعلن استقلالها عن الأخرى، وكل عضو يتهم العضو المجاور بمحاولة سرقة الدم. الكبد لا يثق في الرئة، واليد اليمنى تراقب اليسرى خوفًا من أن تصفق قبلها.
وعندما طُلب من الوطن أن يشكّل فريقًا، ظهرت الأعراض الخطيرة. يتفقون في البداية على الهدف، ثم يختلفون على الصورة، ثم يتصارعون على الإطار، ثم يكسرون اللوحة كلها، ويخرج كل واحد مقتنعًا أن المشكلة كانت في الآخرين.
سأل الطبيب:
– هل تشعر بالحسد؟
قال الوطن غاضبًا:
– لا… أنا فقط لا أحب أن ينجح أحد قبلي.
دوّن الطبيب الملاحظة تحت بند “إنكار متقدم”.
وفي جناح الملاحظة، وُضعت لافتة كتب عليها:
“يُمنع منعًا باتًا نجاح أي مبادرة دون إذن جماعي غير قابل للاجتماع”.
كل من حاول الإصلاح اتُّهم بالطموح، وكل من تميز وُصم بالاستعلاء، وكل من صبر طُلب منه الصبر أكثر حتى يملّ.
وحين سأل الطبيب:
– لماذا لا تدعمون بعضكم؟
أجاب الوطن ببراءة طفلٍ عجوز:
– نخشى إن دعمنـاه أن يصبح أفضل منّا.
في لحظات الخطر فقط، تختفي الأعراض. عند الحريق، يتعاون الجميع لإطفائه، ثم يعود كل واحد ليشك فيمن حمل الدلو أفضل. في الثورة، يتوحد الصوت، ثم يختلف على من صاح أولًا. في الشدائد، يصبح الوطن جسدًا واحدًا، وفي الرخاء يعود إلى أعضائه المتناحرة.
قبل الخروج، كتب الطبيب الوصفة الأخيرة:
“العلاج لا يكون بتغيير الأطباء، ولا بلعن التقرير القديم، بل بتعلّم المشي مع الآخرين دون التفكير في من يصل أولًا. الحسد ليس مرضًا وراثيًا، بل عادة سيئة. والثقة ليست شعارًا وطنيًا، بل ممارسة يومية.”
وقّع الطبيب وخرج.
بقي الوطن ينظر في المرآة طويلًا، ثم قال مبتسمًا بسخرية:
– المشكلة ليست في التشخيص…
المشكلة أنني أحب مرضي،
وأخشى الشفاء،
لأنه يتطلب أن أصدق غيري.
انتهى التقرير… والمريض ما زال حيًّا.





