الأخبارالثقافية

دعوة لصيام الماكينات عن إنتاج القتل والتلوث وزيادة الاستهلاك.. العقاد في رمضان بين القرآن والإنسان

دعوة لصيام الماكينات عن إنتاج القتل والتلوث وزيادة الاستهلاك.. العقاد في رمضان بين القرآن والإنسان

في أكثر من 25 كتابا هي جملة ما كتبه الأديب العربي عباس محمود العقاد ( 1898-1964) حول الإسلام، دفاعا عن أبطاله وانتصارا لمبادئه، أرسى المؤلف بناءً متكامل الأساس، ثابت الأركان يشرح فيه رسالة “الإسلام في القرن العشرين” ثم يشرح “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه” وأوضح ما في القرآن من حقوق المرأة والإنسان.

وكتب العقاد عن أهمية الدين في المجتمع، وأنه لا يوجد مجتمع بغير دين، وأهمية الدين مقترنة في الواقع بوجود المجتمع نفسه، وإيمان بعض أصحاب المذاهب إنما هو من ألوان الشعور الديني، ولولا حماسة هذا الشعور لما ثبتوا عليه ولما تحملوا التضحية في سبيل نشره.

عصر الإيمان

وكان للصيام نصيب كبير في كتابات العقاد، فلم يكتب للصائمين المسلمين فحسب، ولم يكتب وهو يلبس مسوح الواعظين، بل وجه كتابته لغير المسلمين ولمن لا يدينون بدين، وبمنطق سلس وحجة قوية يعرض لشريعة الصيام من باب المنطق العلماني الذي يمارس الصيام لصحة وجمال جسده، أو للتعبير عن احتجاجه، وكتب عن أنواع الصيام في عصرنا، ليدلل في النهاية على أننا نعيش عصر الإيمان، وليس عصر الإلحاد.

في عدد رمضان، الموافق مايو/أيار 1955 من مجلة “الهلال” كتب العقاد مقالا يصف فيه الصيام بالفريضة الاجتماعية، ووصفه بأنه “أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، وليست الإرادة بالشيء اليسير في الدين، والخلق في الدين، وما الخلق إلا تبعات وتكاليف، ومن ملك الإرادة فإن زمام الخلق جميعا بين يديه”.

وفي رمضان، موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهمية للنظام، وتغيير العادات شهرا كل سنة، تتلاقى فيه على سنن واحدة في الطعام واليقظة والرقاد.

أنواع الصيام

وعن عصرنا الحديث، كتب في مجلة “منبر الإسلام” في فبراير/شباط 1962 “من الإشاعات التي راجت زمناً عن القرن العشرين، أنه عصر الحس والمادة المحسوسة”.

وأضاف “إنها إشاعات، فالواقع في القرن العشرين أن المادة كلها قد انتقلت من البحث عن حقيقتها، من عالم الحس إلى عالم النظر أو عالم الغيب، وفي القرن العشرين قد ثبت للعبادات الروحية من الفضائل ما لم يثبت لها قبل القرن العشرين بغير فضيلة الطاعة الواجبة لأوامر الدين، أو بغير الأسباب التي ينفرد الدينيون بتفسيرها، وإقامة الأدلة على لزومها، فلا تدخل في نطاق البحوث التي يتصدى لها علماء الماديات أو علماء المحسوسات”.

والصيام في مقدمة هذه الأوامر الدينية التي أعيد فيها النظر على أيدي أبناء القرن العشرين، فظهرت لها مزاياها الكثيرة إلى جانب مزايا العبادة والإيمان بحقوق الغيب مع حقوق الشهادة والعيان، بحسب العقاد.

وأردف “أصبح أبناء القرن العشرين جميعا يزاولون نوعا من أنواع الصيام في وقت من الأوقات، لصلاح البنية أو صلاح الخلق أو صلاح الذوق والجمال”.

وتابع “من الصيام ما يتقرر اليوم لتربية الأخلاق الفدائية في الجنود، ومن الصيام الذي ثبت لزومه في هذا العصر صيام الرياضيين وهم يملكون بإرادتهم زمام وظائفهم الجسدية، ومن الصيام العصري صيام التجميل، وأن يلتزم الحمية في شرب الماء وغيره من الغذاء المستطاب، ومن الصيام الشائع في العصر الحديث صيام الاحتجاج على الظلم”.

وخلص إلى أنه كل هذه الأنواع الصومية تستدعي الكف عن الطعام وشهوات الجسد، تارة بالامتناع عن الطعام كله بعض الوقت، وتارة بالامتناع عن بعضه في جميع الأوقات، وشريطته العامة التي تلاحظ في جميع أنواعه هي تحكيم الإرادة في شهوات النفس والجسد، أو تربية العزيمة على قيادة الإنسان لنفسه حيث يريد.

صيام الأنبياء

ويشير العقاد إلى أن معظم الأمم القديمة والحديثة عرفت الصيام ومارسته بصور مختلفة، ويقول “قبل ميلاد السيد المسيح، اشتهر الصيام البرهمي والبوذي منذ أقدم العصور التاريخية، مع تحريم أكل اللحوم، واشتهر مثله صيام البابليين والآشوريين على نحو قريب من الصيام الذي تعلمه منهم اليهود أيام السبي، متابعة للشعائر الدينية التي جاء بها الرسل السابقون فيما بين النهرين، وأولهم نوح عليه السلام”.

وبعد استعراضه لأشكال الصيام وأنواعه وصيام الأمم السابقة وفي الأديان الكتابية الثلاثة: الموسوية والمسيحية والإسلام، ينتهي إلى أن الصيام الإسلامي جمع كل أهداف صيام الأمم وأنواعه، ويقول “عند المقابلة بين أنواع الصيام نتبين مزايا الصيام الإسلامي بين جميع هذه الأنواع، فإنه واف بالشريطة العامة للصيام المفروض بحكم الدين أو المتبع لرياضة الأخلاق، وهو على ذلك صالح لمقاصد التطهير والعطف والتوبة، والتكفير (عن الذنوب)”.

وفي كتاب “الإسلام دعوة عالمية” يتوجه العقاد لتبيان فريضة الصيام لدى الأديان المختلفة السابقة على الإسلام، وتوقيت الصيام، وهل هو صيام كلي أم نوعي لمأكولات بعينها، ويقول “ليس في كتب العهد القديم نص على الصيام في وقت معين غير صيام الكفارة يوم عاشوراء، وأما أيام الصيام الأخرى عند اليهود فقد أضيفت مع الزمن ولوحظ فيها التكفير والاستغفار في أيام المحن والشدائد، ومنها يوم هدم الهيكل الثاني، وأيام الهزيمة والحصار، والصيام عندهم على درجات ثلاث: يوم كامل، ونهار كامل، ونصف نهار”.

وقد ورد عن المسيح صلى الله عليه وسلم أنه صام 40 يوما في البرية، ولم يرد عنه أنه أمر بالصوم في وقت معين، وينقسم الصيام إلى إمساك عن الطعام كله وإمساك عن ألوان معينة كلحوم الحيوان.

ومن الصيام ما يبدأ عند منتصف الليل، ومنه ما يكتفي فيه بوجبة يومية.

أما الصيام الإسلامي فهو الصيام من الفجر إلى مغرب الشمس، وهذه هي الفريضة المثلى بين ألوان الصيام الدينية، لأنها تجيء في شهر معلوم، وتشمل العالم الإسلامي كله، وتصبح عبادة فردية وإنسانية عامة في وقت واحد، بحسب ما كتبه العقاد.

سياحة إلى عالم الروح

وردت الإشارة إلى الصيام في القرآن مرتين بمعنى السياحة في سورة التوبة ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ..﴾ (112) وفي سورة التحريم ﴿عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ (5).

ورجحت التفاسير أن المقصود بالسياحة في الآيتين الصيام، ويورد لنا العقاد هذه الخاطرة الجميل ويقول “وهو معنى جميل يدل على حقيقة الصيام الجوهرية، وأنه سياحة من عالم الجسد إلى عالم الروح، فلا يكون قصاراه الإمساك عن شهوات الجسد ساعات من اليوم، ولا يزال الغالب عليه أنه سمو عن تلك الشهوات كأنها رحلة إلى مكان قصي منه، وانتقال من مجال إلى مجال”.

في سبيل الجسد

ويوجه العقاد حديثه للقرن العشرين الذي أطلق سخريته من الصيام والصائمين، ويطالبه بالتواضع والتأدب بمقالته القصيرة والحافلة بالمعاني بعنوان “درس في الأدب” ويقول:

“نعم درس في الأدب لهذه القرون التي بدأت بالسخرية ممن يصومون في سبيل الروح والضمير، أياما قد تطول إلى شهر ولا تزيد عليه، فإذا بهم يصومون في سبيل الجسد، أو في سبيل الهزال والإعياء، ورحمة الاستدواء والاستشفاء”.

ويردف “بعض التواضع أيها القرن العشرون.. كان عليك أن تعترف بصيام واحد، فها أنت اليوم تعترف بألوان من الصيام وأنواع من العذاب، تارة في سبيل الأجسام، وتارة في سبيل الثياب”.

ليلة الشرف

وفي مجلة الهلال عدد يونيو/حزيران 1953، ومارس/آذار 1961، كتب العقاد عن رمضان وليلة القدر، قائلا “هي ليلة القدر لأنها ليلة التقدير والتمييز بين الخير والشر، بين المباح والمحظور، والأمر بالدعوة والتكليف، وهو أشرف ما يشرف به الإنسان لأنه هو المخلوق المميز بالتكليف والمخصوص بالتمييز بين جميع المخلوقات، ومن أجل هذا فُضل على الملائكة”.

وتابع “العقيدة الإسلامية في صميمها لا تتمثل في شيء كما تتمثل في التكليف والتمييز، وفي المخلوق العاقل المسؤول الذي يدان بعمله ولا يصيبه الجزاء أو الغفران من عمل غيره، وهنا تنشعب العقائد بين ليلة القدر في شريعة المسلم وبين أشباه هذه الليالي في كل شريعة يناط فيها قدر الإنسان بغير الأعمال والنيات”.

وأردف قائلا إن المسلم ليعود إلى إسلامه الصحيح كلما احتفل بليلة القدر، وهو يذكر أنها ليلة فرقان وحساب، وأنه يدعو الله فيها ليشرف بما شرفته به الليالي المباركة من آيات التقدير والتذكير.

لماذا لا تصوم الماكينات عن القتل والتلوث؟

وبعد أن فرغ العقاد من تبيان أنواع الصيام وتاريخه بين بني البشر قديما وحديثا، وأن الصيام فطرة الله في الكائنات جميعا، التفت حوله في العصر الحديث، وألقى علينا اقتراحا في غاية الغرابة، وهو أن الماكينات التي سممت حياتنا في العصر الحديث من تلوث وقتل وتمزيق أشلاء وزيادة استهلاك، لماذا لا تصوم هي الأخرى عن شرورها زمنا ولو قصيرا، ونرى، هل ستتبدل حياة البشر وتتغير أم لا.

ويقول الأديب الراحل “لتصم ماكينات القذائف والنفاثات، ولتصم ماكينات الفضول والنوافل، ولتصم كل ماكينة تزيد حاجة الإنسان ولا تغنيه عن حاجة إلا فتحت له أبواب حاجات. لتصم هذه الماكينات ولا تأكل نارا ودخانا بضعة أيام، ولينظر الناس كيف يصبحون على سبيل التجربة إذا صامت الماكينات؟”.

المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى