خدعة العمر المبكر.. لماذا تعتبر الأربعينيات الوقت المثالي لبدء شركتك الناشئة؟
“كان عمري 52 عاما عندما بدأت شركة ماكدونالدز. وكنت قد خضعت لعملية جراحية لاستئصال المرارة وجزء من الغدة الدرقية، وكنت مصابا بمرض السكّري وتصلب الشرايين. وعلى الرغم من ذلك، كنت مقتنعا بأن أفضل ما في الحياة لم يأتِ بعد، وأن النجاح لا يزال ينتظرني” (1)
وردت هذه الكلمات في مقدمة كتاب السيرة الذاتية الذي كتبه رائد الأعمال الأميركي الشهير “راي كوك”، مؤسس مطاعم ماكدونالدز العالمية. صدرت الطبعة الأولى من الكتاب تحت عنوان “صناعة ماكدونالدز” أو (Grinding it out: The Making of Mcdonald’s) سنة 1977، بعد مرور قرابة 25 عاما على تأسيس سلسلة المطاعم الشهيرة. كان “كروك” في منتصف سبعينياته عندما كتب هذا الكتاب، وكان عدد متاجر ماكدونالدز قد تخطى حينها 4 آلاف فرع حول العالم، بإيرادات تقدر بـ3 مليارات دولار(2).
ورغم مرور كل هذه السنوات، أو العقود على وجه الدقة، لا تزال قصة راي كروك، الذي عمل طوال مسيرته المهنية تقريبا مندوبا لتوزيع الحليب المخفوق قبل أن يتحول إلى واحد من أكثر كبار رجال الأعمال إلهاما في العالم، لا تزال تقدم الجواب المثالي عن التساؤل الذي يطرحه تقريبا كل شخص في منتصف مسيرته الوظيفية أو نهايتها: هل فات الوقت كي أؤسس مشروعا خاصا؟
في عام 2017، اعتلى “بول تاسنر” مسرح تيد ملقيا محاضرة مدهشة تحت عنوان: “كيف أصبحت رائد أعمال وأنا في عمر السادسة والستين؟”. حكى تانسر عن رحلته الريادية التي بدأها -مثل أي رائد أعمال آخر- بتحضير الفكـرة، وطرق أبواب المستثمرين في وادي السيليكون وغيرها من مراكز التمويل في أميركا بحثا عن تمويل لمشروعه. وصف تانسر بعض المواقف الطريفة التي قابلها في رحلته عندما كان يحضر تجمّعات رواد الأعمال المراهقين والشباب، قائلا إن أعمارهم تقل عن عمر بعض الأحذية التي يحتفظ بها، على حد وصفه.
بدأت قصة تانسر مع صدمة تلقاها عام 2009، عندما بلغه خبر استبعاده من وظيفته في الشركة التي عمل بها حوالي 40 عاما وإحالته إلى التقاعد. ومثل أي شخص آخر بهذا العمر -كان قد تجاوز الستين- قضى تانسر عامين ما بين القراءة والنوم الطويل وقضاء الوقت أمام التلفاز، ليقرر أن هذه الحياة المملة لا تناسبه، وأن لديه من الخبرات ما يمكّنه من بدء شركته الناشئة الخاصة.
وفي عمر السادسة والستين، أطلق تانسر شركته الناشئة لتدوير المخلفات البيئية “Pulpworks” بعد أن حصل على تمويل أخيرا من أحد المستثمرين الذي أعجب بإصراره، رغم أنه تعرّض لسلسلة طويلة من الرفض من مستثمرين آخرين أبوا الاستثمار في مشروعه بسبب سنه المتقدم، حتى إن بعضهم نصحه بصراحة بأن “يقضي وقتا أطول في مشاهدة التلفاز”.
نجحت شركة “pulpworks”، وتحولت إلى واحدة من الشركات النشيطة في مجال إعادة تدوير المخلفات في أميركا، واتخذت مقرا لها في سان فرانسيسكو بجوار آلاف الشركات الناشئة حول العالم، وما زالت تعتبر من الشركات الناشئة الناجحة التي أسسها شخص متقدم في العمر، تجاوز الآن سن السبعين ولا يزال يدير شركته بنفسه.
البداية من سن التقاعد
أما عن القصة الأشهر في هذا الصدد فتعود إلى كولونيل ساندرز، مؤسس سلسلة مطاعم “كنتاكي” للوجبات السريعة عام 1952، في عمر الثانية والستين. الجدير بالذكر أن لقب “كولونيل” هذا لم يكن لقبا ذاتيا منحه ساندرز لنفسه، وإنما لقب رسمي منحه إياه عمدة ولاية كنتاكي الأميركية، بعد رحلة طويلة كان فيها طبّاخا مميزا ابتكر خلطة سرية وشهية للدجاج المُقرمش.
قبل تأسيس هذا المطعم، عمل ساندرز في كل الوظائف الممكنة تقريبا. في عشرينياته، عمل عاملا في عدة ورش صناعية، ثم رجل إطفاء. تزوّج مبكرا، وأنجب 3 أطفال تُوفي أحدهم، وبدخول الثلاثينيات بدأ مسيرة في دراسة القانون عن بُعد، عبر المراسلة، ولكنه فشل في إتمام دراسته. بعدها سافر ليعمل في مجال التأمين، وحاول تأسيس شركة لم تلبث أن أغلقت أبوابها، فذهب للعمل مندوبَ مبيعات.
عندما بلغ منتصف الأربعينيات، كان ساندرز يعمل مديرا لإحدى محطات الوقود في كنتاكي، حيث أسس مطعما صغيرا لخدمة الزبائن العابرين والمسافرين، يطهو فيه وجبات الدجاج بطريقة مختلفة عن المعتاد في بقية المطاعم. بمرور الوقت توافد الزبائن لتناول وجباته اللذيذة في مطعمه، ونال التكريم من عمدة كنتاكي، إلا أن الحظ لم يحالف مطعمه الناشئ في الاستمرار عندما تم تغيير الطريق السريع الذي يمر أمام المحطة؛ ما جعل أعداد الزائرين تتقلص بشكل حاد، وتسبب في النهاية في إغلاق المطعم.
أخيرا، استطاع ساندرز وهو في مطلع الستينيات من عمره أن يقنع عددا من المستثمرين بتأسيس مطعم وجبات سريعة يتخصص في تقديم وجبات الدجاج بخلطته السرية. وبعد 10 سنوات كاملة من إدارته للمطعم وفروعه والتسويق لخدماته بنفسه، قام ساندرز في العام 1964 ببيع حقوق شركته إلى مجموعة من المستثمرين بقيمة 2 مليون دولار (ما يعادل 14 مليون دولار بأسعار أيامنا الحالية)، مشترطا أن تستمر علامته التجارية التي تحمل صورته.
رحل ساندرز عن العالم في العام 1980 عن عمر يناهز التسعين عاما، ووقتها كان عدد فروع كنتاكي تجاوز 6 آلاف فرع في 48 دولة حول العالم، بإجمالي إيرادات سنوية تقدر بملياري دولار، أي ما يوازي 6.3 مليار دولار بأرقام اليوم(3، 4).
لعبة المراهقين والشباب.. حقا؟
خلال السنوات الأخيرة، ارتبط مفهوم “تأسيس الشركات الناشئة” دائما بالعنصر الشبابي، واستبعدت -بشكل مباشر أو ضمني- المراحل العمرية الأخرى من المشهد. فكلما ذُكرت ريادة الأعمال، تبادرت إلى الذهن نماذج شبابية شهيرة، مثل ستيف جوبز الذي أسس أبل في مطلع عشرينياته، ومارك زوكربيرغ الذي أسس فيسبوك بعد أن ترك الجامعة، وغيرهما. زاد من هذا التأثيرِ الزخمُ الإعلامي الواسع الذي دائما ما يربط بين الشركات الناشئة التي تحصد تمويلات ضخمة، وبين الشباب في مقتبل أعمارهم الذين اختاروا طريق الابتكار مبكرا.
لذلك، ومن أجل تحليل هذه الظاهرة بالاستناد على أرقام وإحصاءات حقيقية، أجرى معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) استطلاعا واسعا في العام 2018، شمل عددا كبيرا من رواد الأعمال المؤسسين لشركات ناشئة في مجالات مختلفة في أميركا، بهدف معرفة “السن الأنسب لبدء شركة ناشئة ناجحة”.
وللمزيد من المصداقية، ركزت الدراسة على مؤسسي الشركات الناشئة “ستارتب (Startup)” التي حصلت على براءة اختراع أو استثمار جريء (Venture Capital) من أحد صناديق الاستثمار الجريء في أميركا، شريطة أن تكون هذه الشركة تعمل في قطاعات العلوم والتقنية عموما، ما يعني استبعاد الشركات التي تصنف مشروعات صغيرة ومتوسطة تقليدية، مثل المطاعم والمغاسل.
وحتى جغرافيّا، اشترطت الدراسة أن تكون الشركة الناشئة تابعة لحاضنة ريادية كبيرة مثل وادي السيليكون، وذلك بهدف تسليط الضوء في النهاية على “بيئة ريادة الأعمال” التي يُروَّج لها دائما على أنها مرتبطة بالشباب؛ لمعرفة متوسطات الأعمار الحقيقية للناجحين فيها.
المفاجأة التي كشفتها نتائج الاستطلاع أن أعمار مؤسسي المشاريع الناشئة متنوعة بشكل كبير، ولكن المتوسط لا يدور حول العشرينيات كما هو متوقع. في الحقيقة، كانت أعمار معظم المؤسسين تتراوح حول سن الأربعين أو أكثر قليلا. ففي قطاع شركات البرمجيات الناشئة على سبيل المثال، كان متوسط أعمار المؤسسين هو 40 سنة ، ولم يظهر الاستطلاع حضورا كبيرا للشباب في هذا القطاع كما هو شائع بشدّة في وسائل الإعلام. أما قطاعات الطاقة والتقنية الحيوية وغيرها، فقد كان متوسط الأعمار فيها هو 47 عاما.
أما بالنسبة إلى فرص نجاح المشاريع الناشئة، فقد رصدت الدراسة أنه من بين المشاريع التي حققت نموا واضحا خلال السنوات الخمس الأولى من انطلاقها -وهي الفترة التي تحدد نجاح أو فشل الشركات الناشئة بشكل عام- كان متوسط أعمار المؤسسين هو 45 عاما أو أكثر(5).
حتى لو بدأت مبكرا
في كتابه “المؤسسون الخارقون: ماذا تكشف البيانات حول الشركات الناشئة المليارية”، تفرّغ المؤلف “علي تاماسيب”، الشريك في أحد أكبر صناديق الاستثمار الجريء في وادي السيليكون، لجمع عدد كبير من البيانات من بيئة ريادة الأعمال العالمية، بالتحديد حول الشركات التي وصل مستوى تقييمها إلى مليار دولار ونالت لقب “يونيكورن” خلال 15 عاما الماضية. خلُصت الدراسة إلى عدد كبير من النتائج، من بينها أن متوسط أعمار المؤسسين عندما بدؤوا في بناء شركاتهم الناشئة كان 34 عاما.
الكتاب الذي أكّد مُخرجات دراسة “MIT” حول السن المتقدم لرواد الأعمال الناجحين، عاد ليؤكد أنه من بين الآلاف من رواد الأعمال يوجد بالفعل مؤسسون مميزون استطاعوا تأسيس شركات عملاقة في عشرينياتهم المبكّرة، ولكنهم -بحسب ما ذكره علي تاماسيب في كتابه- قلّة لا تمثل ظاهرة واضحة بين رواد الأعمال بأي حال من الأحوال. ومع ذلك، وبإلقاء نظرة أقرب على النجاح الذي حققه هؤلاء اليافعون، وجدت الدراسة أنهم حققوا قمة إنجازاتهم ونجاحاتهم بعد عدة سنوات من الخبرة.
“الأشخاص المتميزون يقومون بعمل إنجازات رائعة حتى وهم في شبابهم المبكر، ولكنهم أيضا سيحققون أفضل إنجازاتهم عندما يتقدمون في السن والخبرة”، هكذا قال “بيري أوزالي”، البروفيسور في معهد “MIT”، معلقا على الدراسة، ومشيرا إلى نموذج شركة أبل الذي أسسها ستيف جوبز وهو في مطلع عشرينياته، غير أنه لم يحصد النجاحات الكبيرة لشركته إلا مع ظهور أشهر أجهزتها مثل الآيفون والآيباد بعد أن تجاوز جوبز منتصف الأربعينيات من عمره(6، 7).
كلمة السر: التنفيذ
لماذا -إذن- كلما تقدّم العمر أصبح بإمكان رائد الأعمال تأسيس شركة ناشئة أكثر نجاحا، مقارنة بشخص آخر بدأ الشركة نفسها في المجال نفسه وهو في عمر مبكر؟ الإجابة تشمل عددا من المعايير، أولها وأهمها على الإطلاق هو عنصر الخبرة.
عندما أسس “راي كروك” ماكدونالدز وهو في الخمسينيات، كان قد نال خبرة واسعة في عالم المبيعات والتسويق أهّلته لإنشاء شركته الضخمة. الأمر نفسه ينطبق على مؤسس تطبيق “زووم” الشهير لمكالمات الفيديو “إيريك يوان”، الذي بدأ شركته الناشئة في سن الواحدة والأربعين بعد أن ترك منصبا متقدما في شركة سيسكو العالمية للأنظمة. ومثله “جان كوم”، مؤسس تطبيق واتسآب، الذي بدأ أولى خطوات العمل على شركته الناشئة وهو في عمر الثانية والثلاثين، بعد أكثر من عشر سنوات من العمل مهندسا في شركة ياهو.
وبغض النظر عن اختلاف الأعمار، يبقى العامل المشترك بين جميع رواد الأعمال الناجحين هو ضرورة توافر الخبرة الكافية. تقول الدراسة إن المؤسسين ذوي الخبرة في مجال معين، مقارنة بغيرهم من المؤسسين الذين لا يملكون الخبرة العملية السابقة، يكون لديهم احتمال أكبر بنسبة 85% لإطلاق شركة ناشئة ناجحة(8).
في النهاية، إذا اعتبرنا أن عالم ريادة الأعمال مكون من فريقين: فريق أصحاب الأفكار، وفريق أصحاب أدوات التنفيذ، فمن بين هذين الفريقين دائما ما ينتصر “المنفذون”. والمنفذون دائما هم الأشخاص الذين لديهم الخبرة اللازمة لتطبيق الأفكار بكفاءة أكبر وفي توقيت أقل، مع أدنى قدر من الأخطاء، بغض النظر عن مقدار ذلك الشعر الأبيض الذي يغزو رؤوسهم، زاد أو نقص.
_______________________________________________________
المصادر:
- اقتباس راي كروك
- Grinding It Out: The Making of McDonald’s
- 3Colonel Sanders, success knows no age
- كولونيل ساندرز
- Research: The Average Age of a Successful Startup Founder Is 45
- Super Founders: What Data Reveals About Billion-Dollar Startups
- The Typical Unicorn Founder Started Their Business at 34
- A Study Found the Ideal Age to Start a Business (and It’s Much Older Than You Think)