الأخبارالعالميةتقارير

حقوق الإنسان.. لماذا تفقد الفكرة الأهم عالميّا بريقها؟

حقوق الإنسان.. لماذا تفقد الفكرة الأهم عالميّا بريقها؟

مقدمة الترجمة

تمر حركة حقوق الإنسان في عالمنا اليوم بلحظة صعبة، حيث تتعرض الأقليات في دول عديدة إلى طيف واسع من الانتهاكات، بداية من التوجه إليهم بخطاب عدائي وتحريضي، وحتى حبسهم في معسكرات اعتقال جماعي وعمل قسري. يناقش “جاك شنايدر”، أستاذ العلاقات الدولية بمعهد “سالتزمان” لدراسات الحرب والسلام التابع لجامعة كولومبيا الأميركية، الانتكاسة التي تتعرض لها حركة حقوق الإنسان حول العالم، مستنبطا دروسا من الماضي يجب على الحقوقيين أخذها بعين الاعتبار لإنعاش الحركة عالميا، وذلك في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية.

نص الترجمة

لطالما قدَّمت حركة حقوق الإنسان الحديثة نفسها بوصفها حملة مثالية. وفي عالم تسوده سياسات القوة الخالصة وافتراس الضعيف، ترغب الحركة في أن تكون شعلة الأخلاق النقية المتَّقِدة التي ترتكز على مبادئ عالمية، ويرى نشطاؤها أن الانتصارات الكبرى التي حقَّقوها بمثابة صراط مستقيم رسم ملامح القضايا التقدُّمية في المستقبل. ففي عام 2012، كتب “أرييه نِيَر”، أحد مؤسسي “هيومَن رايتس ووتش”، أن الحركة المناهضة للعبودية تُعَد أول حملة حقيقية لحقوق الإنسان، لأن أنصارها دافعوا عن حقوق أفراد آخرين، بل وقال أول المناهضين للعبودية إن سبب انتصار سعيهم الحثيث وراء المبادئ الإيثارية هو أن الحقيقة الأخلاقية لقضيتهم كانت جلية وواضحة. وقد مثَّلت شخصيات، مثل “المهاتما غاندي” و”مارتن لوثر كينغ” الابن، نماذج لاحقة لهذا النموذج المثالي الحازم. بيد أن الحركة الآن في حيرة من أمرها، إذ إن أسلوبها المعتمد على الحوار أحادي الجانب والوصم شديد اللهجة، يستثير ردود أفعال سلبية حادة من الاستبداديين غير الليبراليين، والشعبويين اليمينيين، والجماهير العريضة الداعمة لهؤلاء الاستبداديين حول العالم.

المهاتما غاندي (مواقع التواصل الاجتماعي)

فقد نجح كل من الرئيس البرازيلي “خايير بولسونارو”، والرئيس الصيني “شي جين بينغ”، ورئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان”، والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، والرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب”، وقادة كثيرون غيرهم؛ في الحصول على الشعبية من خلال وصف الترويج لحقوق الإنسان الليبرالية على أنه مشروع لمجموعة من البلطجية المنحطين الذين أكل عليهم الدهر وشَرِب، والذين يدفعون بأجندات أجنبية دخيلة تهدف لإحلال الأُمَمية الإمبريالية النخبوية محلَّ تقرير المصير الوطني الشعبي. فلم يعر “شي” اهتماما بالاتهام الموجَّه إلى بلاده بارتكاب إبادة عرقية بحق أقلية “الإيغور” في الصين، وفي أثناء إلقائه لخطاب احتفالي في مقاطعة “شينجيانغ” في يوليو/تموز 2022، تفاخر بـ”توحيد” الشعب الصيني. علاوة على ذلك، لم تؤدِّ تهمة ارتكاب جرائم الحرب، التي وَصم بها الرئيس الأميركي “جو بايدن” نظيره الروسي، إلى تغيير يُذكَر لإيقاف تصعيد “بوتين” هجماته على المدنيين الأوكرانيين. وكما قال “نِيَر” إذن، فإن “طريقة التشهير والمعايرة باتت غير فعالة في جهود حقوق الإنسان”.

إن هذه الرِّدَّة إلى حد كبير من صُنع حركة حقوق الإنسان نفسها، إذ تكمن المشكلة في أن المدافعين عن حقوق الإنسان أساؤوا فهم مَكمَن نجاحهم التاريخي، فلطالما كانت الديمقراطية المستندة إلى حقوق الأفراد أنجح أشكال التنظيم الاجتماعي الحديث، ليس بسبب رؤيتها الأخلاقية القائمة على الإيثار وإنكار الذات، بل لأنها عادة ما كانت أفضل بكثير من البدائل الأخرى في خدمة مصالح الناس. ولذا، حريٌّ بنشطاء حقوق الإنسان أن يعملوا لشحذ قدرات الناس على النضال من أجل حقوقهم، بدلا من ترهيب القادة القمعيين بطرق تساعدهم في حشد القوميين وحثّ ردود فعل عكسية على المستوى الشعبي.

الإنسان وحقوقه.. مربط الفَرَس

لم يعتمد التقدُّم في حقوق الإنسان منذ عصر الإصلاح والتنوير على الانتقادات التي وجَّهها الأجانب للأنظمة القمعية، بل على القوة الاجتماعية الصاعدة لرعايا هذه الأنظمة، الذين استفادوا مباشرة من توسيع نطاق حقوقهم الشخصية. فبداية من شمال أوروبا البروتستانتي، مثل هولندا وبريطانيا، دفع التجار والطبقات الوسطى بالمُدُن نحو الديمقراطية والمحاكمات العادلة والحرية الدينية والرأسمالية الفعَّالة من أجل حماية مصالحهم الاقتصادية وحرياتهم الشخصية على حد سواء. وبالمقابل، منحت التجارة ومحو الأمية الرعايا المُتعلِّمين الكادحين سلطة أكبر ضد حكامهم، ومهَّدت الطريق لتبلور الحكم الدستوري. ولاحقا، أمدَّ التحوُّل الصناعي العُمالَ بالزخم اللازم لتشكيل نقابات عمَّالية، والمطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية لصالح الطبقة العاملة.

يحلو للحقوقيين تفسير أن نجاحات الحركة المناهضة للعبودية، ومعركة “لوثر كينغ” السلمية من أجل الحقوق المدنية اعتمدت أولا وقبل كل شيء على حشد الحركات الاجتماعية الجماهيرية. (مواقع التواصل الاجتماعي)

في كثير من الديمقراطيات الدستورية، حالما تُرسَى قاعدة جماهيرية قوية وأساسية مناصرة للنظام المستند إلى حقوق الإنسان، فإن الحركات الاجتماعية يمكنها من خلال هذا النظام توسيع دائرة الحقوق لتشمل الفئات المهمشة. ويحلو للحقوقيين تفسير انتصارات الحركة المناهضة للعبودية، ومعركة “غاندي” السلمية من أجل استقلال الهند، ومعركة “لوثر كينغ” السلمية من أجل الحقوق المدنية؛ بوصفها جميعا انتصارات ناتجة عن شدة تمسُّكهم بالمثالية. بيد أن نجاحاتهم اعتمدت أولا وقبل كل شيء على حشد الحركات الاجتماعية الجماهيرية وضمان استدامتها بالاستناد إلى مبادئ أخلاقية حازت تعاطف الأغلبية القوية في مجتمعاتهم. وقد وجب على كل من النشطاء المتمسكين بالمبادئ، والحركات الجماهيرية، والأحزاب السياسية التقدمية؛ التنسيق فيما بينهم كي يحققوا الانتصار، بما في ذلك عقد مساومات ملائمة لكسب النفوذ السياسي.

انظر مثلا إلى الأميركيين من دعاة إلغاء العبودية. لقد كان هذا الجناح من الحركة المناهضة للعبودية على وشك الانهيار بحلول نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر نتيجة الانقسامات الداخلية، ومعاداة الطبقة العاملة البيضاء في الشمال، التي قلقت من منافسة العمالة السوداء لها في عقر دارها. بيد أن هذا الجناح ظل قويا بما يكفي في المناطق شديدة التديُّن شمال ولاية نيويورك، لدرجة مكَّنته من الحفاظ على توازن القوى الحاسم في الانتخابات الرئاسية عام 1844، التي شهدت تنافسا بين السيناتور المحافظ عن ولاية كنتاكي “هنري كلاي”، صاحب الموقف الغامض بشأن العبودية، وبين الديمقراطي المؤيد للعبودية “جيمس بولك”. وقد تخلَّى دعاة إلغاء العبودية في نيويورك عن المحافظين وأدلوا بأصواتهم لمرشح ثالث متعصب لمناهضة العبودية، وبذلك ساهموا في نجاح “بولك”  من غير قصد؛ ما أفضى إلى اندلاع حرب المكسيك، وما تلاها من توسُّع في العبودية. وقد تعلم السياسي المحافظ البراغماتي “أبراهام لينكولن” من خطأ دعاة إلغاء العبودية، ومن ثمَّ شكَّل في حملته الانتخابية ائتلافا جمهوريا ناجحا مناهضا للعبودية عبر تقديم وعود للعمال البيض الشماليين بأنه سيحظر على العمالة السوداء الدخول إلى المناطق الغربية في البلاد، إذ طمح البيض للاستقرار فيها. وكانت تلك تسوية بغيضة ولكن ضرورية لتمكين المناهضين للعبودية، وقد فاز “لينكولن” بالانتخابات بالفعل، وبحلول عام 1865 حُظرت العبودية في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

تخلَّى دعاة إلغاء العبودية في نيويورك عن المحافظين وأدلوا بأصواتهم لمرشح ثالث متعصب لمناهضة العبودية، وبذلك ساهموا في نجاح “جيمس بولك”  من غير قصد (مواقع التواصل الاجتماعي)

على الرغم من أن الحقوقيين المعاصرين تعلموا بعض الأساليب البراغماتية من خلال عملهم طيلة عقود على المستوى الجماهيري، فإنهم ما زالوا يفضلون الشعارات المثالية على عقد صفقات ملائمة، ويُحجِمون عن بناء ما يحتمل أن تصبح حركات جماهيرية جامحة. فقد أعرب “نِيَر” عن قلقه حول الأمر عام 2013 في تعليق له قائلا إن سلطة “الحشد الجماهيري” قد “يُساء استخدامها”، وهو الشيء الذي قال إنه لن يحدث في ظل تنظيم نخبوي احترافي. في المقابل، أقرَّ “كينيث روث”، المدير التنفيذي السابق لمنظمة “هيومان رايتس ووتش”، في مقال له عام 2004، بأن منظمته وحلفاءها يعانون من “ضعف نسبي في حشد أعداد كبيرة من الناس في هذه المرحلة من تطورنا”.

يُعَد الحكم الذاتي الديمقراطي المرتكز على الحقوق المدنية الليبرالية أكثر أشكال النظم الاجتماعية الحديثة انتشارا ونجاحا وبراغماتية. وباستثناء الدول النفطية الصغيرة وسنغافورة، فما من بلد استطاعت التقدم لما هو أبعد من الدخل المتوسط -أو 25% من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة- دون تبني حقوق الإنسان الليبرالية الديمقراطية المدنية كاملة. فما زالت الصين عالقة عند 16% من مستوى دخل الفرد الأميركي بحسب بيانات البنك الدولي لعام 2020. ولم يكن الصعود الصيني ممكنا لولا القوى الليبرالية التي سمحت للبلاد بالوصول إلى اقتصاد السوق العالمي المفتوح الذي أسسته هذه القوى، كما أن الديمقراطيات الليبرالية لطالما كانت على الجانب الرابح في جميع معارك التنافس على الهيمنة العالمية طيلة القرنين الماضيين، لأنها الأفضل واقعيا، أفضل في تشكيل التحالفات والإبقاء عليها، وأقل تهديدا للأطراف المحايدة، وأكثر حكمة في تجنُّب ذلك النوع من العدوانية المُدمِّرة للذات المتفشية باستمرار بين القوى العظمى الاستبدادية.

تظهر الأبحاث التجريبية حول الظروف التي تعزز نجاح أنظمة حقوق الإنسان أن هذه الحقوق ترتبط على نحو وثيق بالسلام، إذ إن الحرب لا بد أن تجرّ معها سلسلة من الانتهاكات الحقوقية. فيما تأتي في المرتبة الثانية الديمقراطية ومجموعة من العوامل المساعدة على استقرارها. وتتضمَّن هذه العوامل ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعا معقولا، ووجود مؤسسات قضائية وإدارية غير فاسدة وقائمة على القانون، وتنوُّع الاقتصاد (لا سيما الاقتصاد غير المعتمد كليا على النفط والغاز)، والتوافق على فئات الشعب التي يحق لها ممارسة الحق الديمقراطي في تقرير المصير الوطني، بالإضافة إلى وجود دول جوار ديمقراطية ليبرالية داعمة.

فشل الربيع العربي في تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا بسبب افتقار النشطاء لخطاب ذي مبادئ رفيعة، بل لأن الظروف الاجتماعية لهذين الأمرين كانت إما ضعيفة وإما غائبة عن كل دولة.

أما اليوم، فإن الأثر العكسي الناتج عن الدفاع الحاد عن حقوق الإنسان يؤجِّج مشكلة انتكاس الديمقراطية، ويُعقِّد المنافسة التي تخوضها الديمقراطية جيوسياسيا مع الديكتاتوريات التي تزداد رسوخا. وقد كان “روث” محقا في مقدمته لـ”التقرير العالمي 2022″، الصادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”، عندما شدَّد على أن حل أزمة الديمقراطية المعاصرة هو السبيل الوحيد إلى تحسين مستوى حقوق الإنسان عالميا. بيد أن وصفته اعتمدت بشدة على ما أسماه “إدانة” الاستبداد، في حين أن الوصم الأخلاقي لا يقدم طريقا مختصرا نحو الديمقراطية القائمة على الحقوق عندما تفتقر الدول إلى الظروف الملائمة لإرسائها. فقد فشل الربيع العربي في تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا بسبب افتقار النشطاء لخطاب ذي مبادئ رفيعة، بل لأن الظروف الاجتماعية لهذين الأمرين كانت إما ضعيفة وإما غائبة عن كل دولة من دول الثورات العربية. ولحين تحقُّق بعض هذه الظروف المُساعِدة على الأقل، تظل المهمة الأساسية للحقوقيين إيجاد مسار براغماتي لخلق تلك الظروف.

القوة السياسية وحقوق الإنسان

في خضم المشهد السياسي المشحون حاليا، سيكون من الصعب الجمع بفاعلية بين المبادئ والبراغماتية، بيد أنه بإمكان السياسيين والنشطاء المشجعين للديمقراطية وحقوق الإنسان أن يستهلوا جهودهم بضمان أن أنظمة الحكم الديمقراطي الليبرالي تعمل على النحو المطلوب لتقديم منافع جماعية من خلال الاقتصاد العالمي المفتوح.

لن يكون هذا أمرا سهلا، فقد شوَّه انعدام المساواة الاقتصادية المتزايد والتدفق الغزير للمعلومات المُضلِّلة من جاذبية النظام القائم على حقوق الإنسان، ولطالما كان أحد الأسباب الرئيسية في ذلك -ومصدر رد الفعل العنيف الشعبوي ضد النظام الليبرالي- هو صعود الليبرتارية (التحررية)، التي طغت على فكرة أن الدولة الليبرالية يجب عليها تنظيم الأسواق. ومن أجل الشروع في إحياء النظام القائم على حقوق الإنسان، يمكن للدول الديمقراطية والجماعات الحقوقية التعاون معا لفرض قوانين أشد حزما على المستوى الدولي فيما يتعلق بكل من غسيل الأموال والتهرب الضريبي وإخفاء الأصول المسروقة والنشر العالمي لخطابات الكراهية والتشهير والمعلومات الزائفة.

الحشد المباشر ضد الفساد سيكون بمثابة مظلة لحركة حقوق الإنسان، ومدخلا لتعزيز حكم القانون. (الجزيرة)

علاوة على ذلك، يجب على الدول الليبرالية ضبط الطريقة التي توسِّع بها انتشارها عن طريق فتح المجال بشكل مشروط أمام بلدان جديدة للانضمام الطوعي إلى صفوفها، بدلا من الفرض المتسرع للإصلاحات الليبرالية. فمثلا، نجح الاتحاد الأوروبي في تنصيب حكم مستقر وديمقراطي في معظم دول أوروبا بعد الحرب الباردة عن طريق انتظار تقديم البلدان طلبات للحصول على عضوية الاتحاد، ثم مطالبتهم بفترة اختبار صارمة لتحقيق معايير الاتحاد فيما يتعلق بالحكم والقانون وحقوق الإنسان. بيد أنه في أماكن أخرى من العالم، فُرِض التحول المفاجئ إلى أنظمة غربية الطابع -وأحيانا بطلب من المانحين الديمقراطيين المتسرعين- على دول في أفريقيا والشرق الأوسط افتقرت إلى مقومات النجاح على مستوى المؤسسات والتركيبة السكانية والاقتصاد، وكانت النتائج في دول مثل بوروندي والعراق ورواندا قصيرة الأجل وأدت في النهاية إلى سفك الدماء.

كي نتجنّب فرض حقوق الإنسان بالقوة، يتعيَّن على الدول الليبرالية والنشطاء ذوي الصلة تخفيف حدة تمسُّكهم بالقانون والقيم الأخلاقية والنزعة الكونية. وعوضا عن ذلك، على هذه الدول مراعاة المصالح الخاصة بالأغلبيات الوطنية القوية عن طريق التشديد على قضايا شعبية مثل مكافحة الفساد والرخاء الاقتصادي الشامل. وللقضية الأولى أهمية خاصة، إذ إن ثلث التظاهرات الشعبية حول العالم مؤخرا نظمتها جماعات محلية للتنديد بالفساد. ولم تنضم المؤسسات الحقوقية العالمية إلى هذه الجهود سوى بعد شن الدول حملات قمعية على المتظاهرين، ولم تفعل هذه المؤسسات ذلك إلا بدافع معارضة القمع لا الفساد، أما الحشد المباشر ضد الفساد فسيكون بمثابة مظلة لحركة حقوق الإنسان، ومدخلا لتعزيز حكم القانون.

وقد حرصت الجماعات الحقوقية على الضغط على الدول لتصف ممارسات الصين واحتجازها أقلية الإيغور في معسكرات اعتقال جماعية بـ”الإبادة العرقية”، بيد أن مثل هذه الاتهامات أدت إلى ممارسات هدامة تمحور الخلاف فيها حول الدلالات اللفظية. على النقيض، فإن فرض قيود صارمة على الصادرات المعتمدة على العمالة القسرية، مثل المنتجات التي يصنعها الإيغور المعتقلون، يسلط الضوء على قضية ثمَّة موقف واضح منها لدى الشركاء التجاريين الأجانب من جهة القانون ومن جهة مصالحهم في آن واحد. كما تستطيع منظمات المجتمع المدني تنظيم حركات مقاطعة مستمرة لإظهار أن الحقوقيين يمكنهم التأثير في الأعمال التجارية، ومن شأن ذلك إبراز موقف داعم للمعاملة العادلة لجميع العمال الصينيين؛ ما سيحفز الصين على تحسين نظام المساءلة وظروف العمالة.

واقعيا، حريّ بالمدافعين عن حقوق الإنسان أحيانا أن يتجنّبوا التشهير والوصم نهائيا، وأن يجعلوا عملهم أقرب ما يكون إلى الاستشارات الإدارية، بدلا من الهجوم على النواقص الثقافية للمجتمعات التي يهتمون بها. فمثلا، يُظهِر أحد الأبحاث انخفاض انتهاكات حقوق النساء الراسخة، مثل زواج القاصرات والختان، في حال تعزيز إمكانية وصول السكان إلى الإعلام الدولي، وحصول النساء على فرص عمل أفضل خارج المنزل، وتحديث المجتمعات جزئيا على الأقل، وهي جميعها إصلاحات إيجابية تعمل على تقوية الاقتصادات بصورة عامة. وعلى النقيض، قد يكون لوصم الدول بـ”التخلُّف” تأثير عكسي بتسييس بعض الممارسات التي ترمز إلى الهوية الثقافية في بلد ما؛ ما قد يُنشئ رد فعل عكسيا تجاه حقوق النساء.

لا يعني ذلك أن الدول الليبرالية ونشطاء حقوق الإنسان عليهم ألا يكونوا واضحين بشأن المبادئ، بل يعني أن عليهم توخي الحرص واتباع نهج إستراتيجي فيما يتعلق بطريقة ترويجهم لهذه القيم، ويتضمن ذلك أيضا تجنب المطالب الفارغة، فقد وصف بايدن بوتين بأنه “مجرم حرب” و”لا يمكنه البقاء في السلطة”، بيد أنه لم تكن لديه طريقة منطقية للعمل على تنفيذ هذا التصريح الاستفزازي. وعلى الرغم من أن مثل هذه التنديدات الفارغة قد تولِّد مشاعر إيجابية قصيرة المدى، فإنها تبدو في النهاية نفاقا، حتى وإن كانت تنديدات صادقة ومُخلِصة. وكما أشارت “بِيسيلَّا هَينر”، ناشطة حقوق الإنسان المخضرمة، في أحدث كتاب لها؛ هناك بالفعل مفاضلات بين السلام والعدل. فمثلا، قد يحرم التهديد بسجن النخبة العسكرية وغيرها من صناع القرار من فرصة مقايضتهم باللجوء أو العفو عنهم مقابل تقديمهم المساعدة في إنهاء الحروب، التي هي في النهاية أبشع سبب لانتهاكات حقوق الإنسان.

تظل حقوق الإنسان، رغم انتكاساتها الأخيرة، السلاح الأقوى في ترسانة الديمقراطية. ويتطلب الاستخدام الأمثل لهذا السلاح -من قِبَل أصحابه والمؤمنين به- استيعاب أن قوة هذه الحقوق كامنة في مراعاتها للمصالح الشخصية، وأنها يجب أن تكون مدعومة بائتلاف سياسي راسخ البنيان يستطيع تحقيق نتائج موثوقة. إن القوة السياسية هي مَنْ تقود، وتتبعها الحقوق بعدئذ.

___________________________________

ترجمة: هدير عبد العظيم 

هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى