حاملات الطائرات.. سلاح واشنطن الأقوى للسيطرة على العالم
مُنتصِبا على تلك المنصة الضخمة التي تُستخدم عادة لرفع الطائرات والمروحيات على المدرج الناقل، وفي الخلف منه تقف إحدى المروحيات التابعة للبحرية الأميركية؛ وقف الرئيس الأميركي السابق ترمب مُنتشيا بشكل ملحوظ، بينما يُلقي إحدى خطبه الحماسية بعد أسابيع قليلة من بداية ولايته عام 2017، مُرتديا قبعة وسترة البحرية الأميركية المُزيَّنة بشعار حاملة الطائرات الجديدة، التي كان واقفا على متنها، وأمام ناظريه يتألَّق الشعار الشهير والمراد به تصدير الخوف، والمُعلَّق في جميع حاملات الطائرات الأميركية: “مئة ألف طن من الدبلوماسية”.
لا يُعَدُّ دونالد ترمب بِدعا من الرؤساء الأميركيين الذين اعتادوا القدوم وقضاء بعض الوقت في هذه المدن العسكرية البحرية للشعور بسطوتهم الحقيقية. تحمل (1) حاملة الطائرات، التي اختار ترمب أن يُلقي خطابه عليها، اسم الرئيس الأميركي الأسبق جيرالد فورد، وهي اليوم أضخم حاملة طائرات في العالم، والأولى من نوعها في الجيل الجديد من الحاملات، بطول يصل إلى 335 مترا، ووزن بلغ مئة ألف طن، وتُشغَّل بواسطة مفاعلين نوويين، وبلغت تكلفة إنشائها أكثر من 14 مليار دولار، واستغرق تشييدها أكثر من عشر سنوات.
كانت حاملة الطائرات يو إس إس جيرالد فورد، التي أجرت تجربة إبحارها الأولى بنجاح بالفعل في الأسبوع الثاني من إبريل/نيسان 2017، لتنضم إلى أسطول حاملات الطائرات الأميركية العشرة الأخرى، هي المكان المثالي كي يُعلن منه ترمب نِيَّاته، مُخاطِبا جمهوره من أعضاء البحرية وعمال السفن المدنيين، وواعدا باستثمارات عسكرية إضافية تُقدَّر بـ 84 مليار دولار، زيادةً على موازنة الدفاع خلال عامين، بوصفها إحدى أكبر الزيادات في الإنفاق في تاريخ الولايات المتحدة، ومُتعهِّدا بتوسيع أسطول البلاد البحري من أجل تعزيز قوتها، قوة يأمل ترامب “أن تكون غير ضرورية، ولكنها ستضع أعداءه في ورطة كبيرة إذا اضطر إلى استخدامها”، على حد وصفه.
يحب الرؤساء الأميركيون قواتهم المسلحة، والبحرية على وجه الخصوص، وهم مغرمون بحاملات الطائرات بالتحديد. وتُعَدُّ البحرية الأميركية، التي تُمسِك بأطراف العالم من الشرق إلى الغرب، هي الخيار المُفضَّل لهم حال نشوب صراع ما يحتاج إلى تدخُّل سريع، فما على قاطن البيت الأبيض آنذاك إلا أن يُعطي أوامر التحرُّك لأقرب وحدات الأسطول الأميركي، المُتمركِز قُرب مسارح الصراعات الآنية والمُحتمَلة حول العالم.
تمتلك معظم دول العالم قوات بحرية ضمن جيوشها، ولكن المنافسة البحرية الحقيقية في المياه العميقة في قلب المحيطات، والشاغلة لثلثَيْ مساحة الأرض، ظلَّت دوما حكرا على القوى العظمى والإمبراطوريات الكبرى (2)، نظرا لما تستلزمه من موارد لا تتوفَّر عادة لغيرهم. وربما كانت بداية النهاية للعديد من الإمبراطوريات الكبرى عالميا، أو حتى إقليميا، هي تلك اللحظة التي بدأت فيها بفقدان سطوتها التقليدية في البحر، مثلما حدث مع الإمبراطورية البريطانية مطلع القرن، والإمبراطورية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية.
على هذا المستوى، تتمتَّع الولايات المتحدة اليوم بتفوُّق عسكري كاسح على سائر القوى العالمية وبفجوة كبيرة تفصلها عن غيرها، ولكن هذه الفجوة تتحوَّل إلى هوة شديدة العمق حين يتعلَّق الأمر بالقوات البحرية. تمتلك البحرية الأميركية اليوم أسطولها الخاص من الطائرات، وجيشها الخاص من المشاة، وفرقة عمليات خاصة تابعة لها، وجهاز استخبارات مستقلا، وهي وحدها أقوى من معظم جيوش العالم، وتفوق ميزانيتها بمفردها الإنفاق العسكري الكامل للصين، وتبلغ قوتها درجة أن أسطول الطائرات التابع للبحرية الأميركية، وحده، يمكن أن نُصنِّفه اليوم ثاني أكبر قوة جوية في العالم، بعد سلاح الجو الأميركي نفسه، كما أن أسطول خفر السواحل الأميركي، وحده أيضا، يمكن أن يُصنَّف اليوم في المرتبة الثانية عشرة على قائمة أقوى القوات البحرية في العالم.
تُجبِر الجغرافيا الولايات المتحدة على أن تكون قوة بحرية في المقام الأول، حيث يكمن سر السيطرة الأميركية في قدرة البلاد على التحكُّم وممارسة القوة في المساحات المائية الشاسعة المحيطة بها، في المحيطين الأطلسي والهادي. ولمنع أي غزو برمائي، اعتمدت الولايات المتحدة إستراتيجية هجومية للهيمنة البحرية المطلقة في المحيطين، واستثمرت بكثافة في جيشها، وبميزانية عسكرية سنوية ضخمة تجاوزت 700 مليار دولار في وقت قريب، وحقَّقت الولايات المتحدة سيطرة فريدة على المحيطات، وأحكمت سيطرتها على الطرق التجارية الأكثر استخداما في العالم.
ومع سيطرتها على المحيطين، الأطلسي والهادي، اللذين يحويان أيضا ممرات النقل الاقتصادية الرئيسة العالمية، صعدت الولايات المتحدة إلى هيمنة اقتصادية مُنفرِدة. وبما أن التجارة الدولية تعتمد اعتمادا كبيرا على الشحن، فإن واشنطن تُحقِّق اليوم أرباحا طائلة من الطرق التجارية التي تربط أميركا الشمالية بشرق آسيا وغرب أوروبا، أي إن البحرية الأميركية تقع اليوم في قلب الهيمنة الاقتصادية الأميركية، وليست مجرد أيقونة لتفوُّقها العسكري وهيمنتها السياسية. وهي قصة تفوُّق لم تبدأ فجأة، ولكنها تضرب بجذورها في التاريخ إلى أكثر من قرنين سابقين من الزمان.
أحلام “ماهان – روزفلت”
في مطلع القرن التاسع عشر، كانت هيمنة نابليون بونابرت وأسطوله القوي قد انتهت إلى غير رجعة، وتلاشى التهديد الأكبر للملاحة البحرية الأميركية، مما أقنع الأميركيين في ذلك التوقيت أنهم لا يحتاجون إلى أكثر من أسطول صغير، مُكوَّن من سفن دفاع ساحلية ومجموعة من الطرادات، لحماية تجارتهم. ولكن نهاية القرن شهدت تحوُّلا جديدا في ميزان القوى، ببدء الحقبة الاستعمارية التي أفسحت المجال للمنافسات الإمبراطورية، كما دفع اكتشاف الفحم هذا التنافس إلى ذروته، حيث بُنيت البوارج الحديثة من أجل قيادة السباق نحو مستعمرات الفحم حول العالم.
فتحت هذه التطوُّرات آفاقا جديدة مُحتمَلة للهجوم على سواحل الأطلسي، أو تهديد التجارة الأميركية في أعالي البحار، بواسطة أساطيل حربية قوية جديدة، ما مَثَّل تهديدا قويا للمصالح الأميركية، وبرزت الحاجة إلى إستراتيجية بحرية جديدة. وجاء الحل آنذاك من بنات أفكار ضابط البحرية السابق ألفريد ثاير ماهان (3)، الذي يُلقَّب اليوم في الولايات المتحدة باسم “كلاوزفيتز البحر”، حيث يَعتبره الأميركيون النظير البحري للخبير العسكري الأبرز عبر التاريخ “كارل فون كلاوزفيتز”.
كان ماهان يرى أن الولايات المتحدة هي قوة بحرية في المقام الأول، وأن السبيل الوحيد للحفاظ على حضورها العالمي هو ضمان سيطرتها على البحر. وقد لاقت أفكار ماهان استحسانا كبيرا في الأوساط الأميركية، وخاصة لدى “ثيودور روزفلت” الذي كان آنذاك لا يزال مساعدا لوزير البحرية. وجاء الاختبار الأول لبحرية روزفلت، ولنظريات ماهان أيضا، خلال الحرب الأميركية الإسبانية، التي انتهت بانتصار ساحق للبحرية الأميركية، تبعه تنازل إسبانيا عن الفلبين وبورتوريكو وجزيرتَيْ “غوام” و”ويك” للولايات المتحدة، كما وقعت كوبا بدورها تحت السيطرة الأميركية الفعلية، رغم حصولها على استقلالها اسميا، حيث أنشأت الولايات المتحدة قاعدة بحرية كبيرة في خليج غوانتنامو. وقد مَكَّن هذا الانتصار الولايات المتحدة من بسط نفوذها على المزيد من الموانئ الإستراتيجية.
ولكن روزفلت حقَّق إنجازه (4) الأكبر في عام 1903 بعدما أصبح رئيسا، حين أرسل السفن الحربية الأميركية لضمان السيطرة على بنما، التي انفصلت حينها للتو عن كولومبيا، فاتحا الباب أمام تشييد بناء قناة بنما. وقد أحدث هذا الطريق السريع الجديد للتجارة العالمية ثورة في الإستراتيجية الأميركية، مما جعل منطقة البحر الكاريبي تفوق فجأة أهمية البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس.
في ذلك التوقيت كان العالم يشهد أفول زمن البحرية الملكية البريطانية بوصفها قوة مُهيمنة، حيث بدا أن بريطانيا، رغم امتلاكها للأسطول التجاري الأضخم عالميا في ذلك التوقيت، لم تَعُد قادرة على الحفاظ على مكانتها بوصفها قوة قتالية، وصار واضحا أن بريطانيا في طريقها لمغادرة عالم البحار لصالح قوتين بحريتين كبيرتين هما الولايات المتحدة واليابان، في الوقت الذي كان العالم فيه يستعد لدخول زمن حاملات الطائرات.
المدن المقاتلة
حَوَّل التطوُّر المهيب في قدرات القوات الجوية البوارج التقليدية إلى أعباء أكثر من كونها أصولا إستراتيجية مع سهولة قصفها، وبدا أن زمن الحروب البحرية الكلاسيكية أوشك على نهايته، وأن عالم اليوم أصبح يتجه نحو المزج بين القوة البحرية والجوية من أجل زيادة القوات الهجومية والاستطلاعية، وهو المفهوم الذي جسَّدته حاملات الطائرات باعتبارها ثورة في عالم الحروب. وقد تعلَّمت الولايات المتحدة هذا الدرس في يوم من المُرجَّح أن ذاكرتها لن تنساه يوما ما.
في صباح يوم 7 ديسمبر/كانون الأول من عام 1941، كانت (5) مئات الطائرات اليابانية، المحمولة على متن ست من حاملات الطائرات الإمبراطورية، تشق طريقها نحو المنشآت البحرية الأميركية والمطارات والسفن الحربية في بيرل هاربور، هاواي. دمرت الطوربيدات التي أطلقتها طائرات “بي 5 إن” (B5N) اليابانية عشرات السفن الأميركية الراسية في الميناء، وفي اليوم نفسه، تحرَّك الجيش الياباني ضد القوات الأميركية في الفلبين، وغزا تايلاند وهبط في مستعمرة الملايو البريطانية، وبدأت حرب المحيط الهادي.
في غضون ستة أشهر فقط، أنشأ اليابانيون محيطا دفاعيا كبيرا يمتد على مسافة آلاف الأميال من المحيط الهندي إلى المحيط الهادي، وهي أكبر مساحة بحرية حقيقية خضعت للسيطرة الفعلية لقوة عسكرية حتى ذلك التوقيت. كانت اليابان آنذاك قوة عسكرية وإمبراطورية كبرى، ولكنها كانت دولة فقيرة في الموارد وتستورد 88% من احتياجاتها من الطاقة، ومعظم احتياجاتها من المواد الخام. وكانت إستراتيجية الحرب اليابانية تقوم على توجيه ضربات أولية كبيرة، من شأنها أن تُفاجئ أساطيل دول الحلفاء والقوات الجوية في الموانئ أو في مهابط الطائرات الضعيفة، والسيطرة على مساحات كبيرة من البحر، ثم بسط سيطرتها عبر نشر قوات دفاعية لتجنُّب الهجمات المضادة.
ولكن الحفاظ على السيادة في البحر يختلف عن ممارسة السيادة على الأرض، وهو ما تعلَّمته اليابان عمليا بعد بضعة أشهر، حين خسرت أربع حاملات طائرات دفعة واحدة، من حاملاتها الست، في كمين نصبته البحرية الأميركية في ميداوي، وهي المعركة التي أعلنت بحرية الولايات المتحدة رسميا قوةً مُهيمنة على العالم.
كان درس ميدواي واضحا وضوح الشمس: هناك اختلاف واضح بين مفهوم السيطرة الذي تمنحه القوات البحرية وبين ذاك الذي تكفله القوة البرية. لا تحتاج القوى البحرية إلى السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي بقدر ما تحتاج إلى انتشار جيد وقدرة على الوصول، ومحاولة السيطرة الدائمة على مساحات شاسعة من البحار هي عملية مُضنية ومُكلِّفة لأي قوة مهما بلغ حجمها، ومع انهيار جميع القوى الكبرى عالميا بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، وهيمنة الولايات المتحدة على البحار، حوَّلت الولايات المتحدة فلسفتها البحرية بعيدا عن السيطرة، ومحاولة إنشاء إمبراطورية بحرية تقليدية.
شرعت أميركا عام 1968 في بناء عشر حاملات طائرات نووية من فئة “نيميتز”، ذات القدرات النووية، التي لا تزال الأكبر عالميا، إضافة إلى تسع سفن هجومية برمائية تُعتبر (6) هي الأخرى حاملات طائرات بالمفهوم التقليدي، وتفوق في قدراتها حاملات الطائرات المملوكة للدول الأخرى، حيث يحتوي العالم على 20 حاملة للطائرات بقدرات متفاوتة، هي مجموع ما تمتلكه سائر الدول بدون الولايات المتحدة. في الوقت ذاته خفَّضت البحرية الأميركية عدد أسطولها البحري التقليدي بعد الحرب العالمية الثانية، وشهدت منذ ذلك الوقت موجات متفاوتة من تكديس وتقليص السفن، لكنها ظلَّت السلاح الأميركي المُفضَّل للاستجابة للأزمات السريعة، وبالأخص خلال الحرب الباردة، ويُقدَّر أنه بين عامَيْ 1946-1996 نُشِرت البحرية في أزمات قصيرة ما لا يقل عن 270 مرة.
مع نهاية الحرب الباردة مطلع التسعينيات، بدا واضحا أنه ليس هناك قوة ما بإمكانها منافسة الولايات المتحدة في عرض البحار في أي وقت قريب، ما دفع البحرية الأميركية لإخراج مفهومها القتالي الجديد تحت شعار “إلى الأمام.. من البحر”، مُتحوِّلة من عمليات البحر المفتوح إلى سياسة إبراز القوة من البحر، بهدف التأثير على الصراعات من خلال استخدام القوة على المناطق الساحلية. وركَّزت السياسة الجديدة على تنفيذ عمليات الانتشار والتدخُّل المباشر السريع، ونشر الوحدات القتالية في الصراعات، بداية من الحروب في كوسوفو والبوسنة في التسعينيات، إلى حروب أفغانستان والعراق، مُستغِلَّة أسطولها من حاملات الطائرات حيث ينص (7) القانون الأميركي على أن البلاد لا بد أن تمتلك 11 حاملة طائرات عاملة على الأقل. كما توغَّل نفوذ وحدة العمليات الخاصة التابعة للبحرية “سيل 6″، التي اكتسبت شهرة واسعة في أعقاب تنفيذها عملية اغتيال زعيم تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن”.
تُعَدُّ “سيل 6” إحدى أكثر فِرَق العمليات الخاصة سرية (8) وإثارة للأساطير الإعلامية، حتى إن وزارة الدفاع الأميركية لا تعترف باسمها علنيا، وتُعْرَف الفرقة بأنها الوحدة التي تَخْفَى فيها الفروق الحقيقية بين الجندي والجاسوس، وهي ترتبط ببرنامج مشترك مع المخابرات المركزية الأميركية يُعرف باسم “أوميغا”، نفَّذت من خلاله عشرات العمليات الاستخباراتية. وقد توسَّع نشاط “سيل 6” بشكل ملحوظ منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وصارت تضم اليوم أكثر من 300 جندي أساسي يُعرفون باسم “المشغلين”، إضافة إلى وحدة دعم يفوق تعدادها 1500 شخص. ونُشِرت في كلٍّ من سوريا والعراق وأفغانستان واليمن والصومال، حيث تولَّت تنفيذ العديد من المهام التي تراوحت من الحراسات الخاصة؛ حيث تولَّت الفرقة مسؤولية حراسة الرئيس الأفغاني الأسبق حامد كرزاي، إلى تجنيد السكان لجمع المعلومات الاستخباراتية، وصولا إلى تنفيذ عمليات الاغتيال المباشر. ويُعتقد أن وحدات الدعم الخاصة بالفرقة تنتشر اليوم في السفارات الأميركية في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
المناطق المحظورة.. نهاية زمن حاملات الطائرات
تمارس البحرية الأميركية كل هذا القدر الهائل من النفوذ رغم كونها تمتلك اليوم أقل من 300 سفينة قتالية، وهو أصغر أسطول للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية، حيث بلغ حجم الأسطول الأميركي أكثر من 500 سفينة خلال الحرب الباردة مثلا. ورغم ذلك، لا توجد دولة تستطيع تحدي البحرية الأميركية في أعالي البحار، ولا تعدو سائر القوات البحرية حول العالم مقارنة بها أكثر من دوريات ساحلية كبيرة الحجم نسبيا. تضطلع البحرية الأميركية اليوم فعليا بمهمة حماية النظام العالمي القائم على “حرية الملاحة والتجارة الحرة”، بينما تحوَّلت عمليات الانتشار التقليدية إلى أدوار ثانوية للقوات البحرية.
ومع هذا التحوُّل النسبي لأولويات البحرية الأميركية، تبقى المفارقة التي تحكم عالم اليوم أن القوى الرئيسية المنافسة للولايات المتحدة تعتمد بالأساس في تجارتها على الحماية التي تُوفِّرها أساطيل البحرية الأميركية الستة، إضافة إلى شبكة مُكوَّنة من عشرات القواعد، منها 60 قاعدة فقط على السواحل الأميركية وحدها، إضافة إلى عشرات القواعد خارج حدودها بداية من جزر البهاماس، مرورا بكوبا والمحيط الهندي واليونان وإيطاليا وإسبانيا ثم اليابان وكوريا الجنوبية، وصولا إلى جيبوتي والبحرين والكويت.
تُوفِّر هذه الشبكة المُعقَّدة الحماية لأساطيل التجارة الدولية، بداية من استثمارات الصين في أفريقيا وليس نهاية بصادرات النفط الإيرانية إلى أوروبا، ورغم هذه الحقائق المُركَّبة والمُؤكِّدة للتفوُّق الأميركي، تبقى طموحات الهيمنة البحرية المشروعة تداعب خيال المنافسين. ويأتي الخطر البعيد من الصين ومن خلفها روسيا وإيران.
تُخطِّط (9) البحرية الصينية أن يتجاوز عدد سفنها عدد سفن الأسطول الأميركي في غضون سنوات قليلة، ورغم الفوارق المُذهِلة في قدرات السفن، حيث تمتلك الصين حاملة طائرات واحدة لا يمكن مقارنة كفاءتها بأيٍّ من حاملات الطائرات الأميركية، فإن هذا العدد وحده ربما يُمثِّل اختلالا مُزعِجا بالنظر إلى تَركُّز نشاط البحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي. لطالما كانت الصين قوة برية تقليدية تُركِّز على حماية أراضيها من الغزو، عبر تهيئة جيش هائل من المشاة قادر على مواجهة خصم مُتفوِّق تكنولوجيًّا، لكن نموها الاقتصادي ودخولها إلى نادي القوى الاقتصادية الكبرى أجبرها على التوجُّه إلى البحر، لحماية مصالحها من الوقوع تحت رحمة أرخبيل الجزر الواقعة تحت هيمنة الولايات المتحدة في المحيط الهادي.
بينما تشرع روسيا بدورها في تشييد برنامج تحديث بحري، مُؤجَّل منذ العهد السوفيتي، يُركِّز على الغواصات والمدمرات الجديدة، كما أنها تُوسِّع أو تبني قواعد بحرية جديدة في القطب الشمالي والمحيط الهادي والبحر الأسود. أما إيران فتُواصِل تطوير قدراتها الصاروخية بما في ذلك برنامجها الخاص لتطوير الصواريخ البالستية، ويبدو أن هذه القوى الثلاثة تقود العالم إلى جيل جديد من مفاهيم الحرب البحرية.
تُدرِك هذه القوى وغيرها أنه من الصعوبة بمكان خوض منافسة على قدم وساق مع البحرية الأميركية بقدراتها الحالية. ولكن مع الثورة (10) التي تشهدها صناعة الصواريخ، خاصة صواريخ كروز والصواريخ الموجَّهة بالليزر، وتجارب صواريخ الشبح العابرة لحاجز الصوت، أصبحت حماية الأصول البحرية عملية مُكلِّفة أكثر من أي وقت مضى. وتبقى أمثلة التاريخ شاهدة على ما يمكن أن تُحدِثه هذه الثورة: في عام 1982، أثناء حرب جزر فوكلاند، أغرقت القوات الأرجنتينية سفينتين بريطانيتين بصواريخ إكسوسيت الفرنسية الصنع، وبعد ذلك بخمسة أعوام تعرَّضت فرقاطة أميركية للشلل عندما تعرَّضت لهجوم من قِبَل الطراز نفسه من الصواريخ أطلقته طائرة عراقية. ومع وجود صواريخ أكثر تطوُّرا مضادة للسفن موجودة اليوم، فإن حاملات الطائرات تصبح مُعرَّضة للخطر عندما تدخل في نطاق العمليات الهجومية بالقُرب من شواطئ تمتلك منظومات صواريخ مُتقدِّمة.
يُعرف هذا المفهوم الجديد للحرب البحرية باسم سياسة المناطق المحظورة أو (Anti access – Area denial)، والمعروف اختصارا بـ (A2lAD)، وهي إستراتيجية تسعى لجعل حاملات الطائرات عديمة الجدوى حين تُنفِّذ عمليات هجومية بالقرب من الشواطئ، وهو ما يُفقِدها جزء كبيرا من قدراتها، بل ويُعرِّضها لخطر الدمار حال أقدمت على تنفيذ عملية هجومية. وتجعل هذه السياسة التي تقوم على تطوير القدرات الصاروخية أي قوة بحرية تقليدية مُهدَّدة بفقدان بعض أصولها، والتعرُّض إلى مخاطر مرتفعة حال قرَّرت تنفيذ عملية هجومية.
ووفقا لتقدير (11) جورج فريدمان، باحث الإستراتيجية الشهير، فإنه إذا أرادت الولايات المتحدة فرض حصار على الصين الآن، فإنها ستضع حاملاتها في مرمى الصواريخ المضادة للسفن التي تُكدِّسها بكين على الجزر الاصطناعية التي تُشيِّدها في المحيط الهادي، من هنا، ستضطرّ الولايات المتحدة إلى تدمير الأقمار الصناعية الصينية، حتى لا تتمكَّن من معرفة مواقع الحاملات الأميركية ومساراتها ومن ثم استهدافها، وحتى إذا حدث ذلك فإنه يمكن لبكين رصد الأهداف عبر الطائرات المسيرة، بما يعني أن الولايات سوف تحتاج إلى شن حرب جوية شاملة ضد منظومة الصواريخ الصينية، قبل أن تستطيع فرض حصار بحري عليها، هذا مع تجاهل خطر الكمائن التي يمكن أن تعدها الغواصات الصينية.
هذا هو الحال أيضا مع إيران التي تسعى لتحويل الخليج العربي ومضيق هرمز، وربما البحر الأحمر ومضيق باب المندب حال أحكمت إيران سيطرتها على اليمن، إلى مناطق محظورة على التوغُّل الأميركي، بينما تضع إيران عينها على امتلاك موطئ قدم في سوريا على البحر المتوسط أيضا. هذا المفهوم الجديد للحرب البحرية ربما يكون بمقدوره اليوم تحدي القدرات الهجومية للبحرية الأميركية باستخدام قوة أكثر تواضعا.
البحرية الأميركية: سؤال الهيمنة؟
يُدرِك الأميركيون الخطر القادم عليهم، لذا فإن إعادة بناء البحرية الأميركية وتطويرها كانت دوما إحدى المعارك الضارية في الكونغرس. بلغت ميزانية البحرية قُرابة 180 مليار دولار عام 2016، للقوات البحرية ومشاة البحرية، قبل أن تُقلَّص إلى نحو 155 مليار دولار عام 2017 بفعل خطط تقليص الإنفاق العسكري للرئيس باراك أوباما، التي كانت تهدف إلى تقليص نفقات البنتاغون بواقع 106 مليار دولار بحلول عام 2021، تبدأ بـ 36 مليار دولار عام 2018.
تَدَّعي (3) البحرية الأميركية أنها تحتاج إلى 355 سفينة، مقارنة بالهدف الحالي وهو الوصول إلى 308-315 سفينة بحلول 2025. وقد اقترح (14) تقييم هيكل القوة الصادر منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي أنه يجب على البحرية الأميركية توسيع أسطولها الحالي خلال العقود الثلاثة القادمة، وتقترح الورقة على الأقل إضافة حاملة طائرات جديدة إضافة إلى 16 مدمرة و18 غواصة هجومية وأربع سفن برمائية، وعشرات من الوحدات الأخرى. وفي الوقت ذاته فإن القوات الجوية تُطالِب هي الأخرى بالمزيد من المال لتمويل أسطولها من الجيل الأخير من الطائرات المقاتلة من طراز “إف-35”.
وبما أن الجيش الأميركي هو أكبر (15) مُشغِّل للعمالة المباشرة في البلاد، فإن الحقيقة هي أن التصويت على الموازنات العسكرية غالبا ما يكون خاضعا للتوجُّهات السياسية. ويواجه النواب صعوبة في التصويت ضد البرامج العسكرية ذات التأثير الاقتصادي الكبير على ناخبيهم، وتزداد هذه الحساسية خاصة في حالة السفن الحربية، لأن صناعة السفن الأميركية هي إحدى الصناعات الحيوية للعمالة الأميركية، وغالبا ما تُهدِّد البحرية أنه في حال تقلَّص أسطولها إلى حدٍّ كبير، فإن صناعة السفن الأميركية سوف تتلاشى.
يدرك الخبراء الأميركيون أن القوة العسكرية لا تُحدَّد وفق حجم الأسلحة التي يمتلكها الجيش في الوقت الراهن فقط، ولكن أيضا بمدى قوة المجمع العسكري الصناعي القادر على تعويض الفاقد في العمليات، وإجراء عمليات الصيانة الدورية وإحلال الوحدات الجديدة. كان هذا هو الدرس الذي تعلَّمه الأميركيون من البحرية الإمبراطورية اليابانية التي انهارت إلى غير رجعة، بعد معركة ميدواي، بسبب ضعف قوة المجمع العسكري الصناعي على الإحلال، وكذا البحرية البريطانية التي انهارت قدراتها الحربية مطلع القرن الماضي رغم امتلاكها لأكبر أسطول من سفن الشحن عالميا.
تتجه الولايات المتحدة إذن إلى تضخيم أسطولها البحري، رغم أن الحقيقة أن سيطرة الولايات المتحدة في أعالي البحار ستبقى حتى وقت طويل بلا منازع، سواء فعلت ذلك أم لم تفعل. ولكن ما دامت الولايات المتحدة ترى أن النظام الدولي اليوم يخدم مصالحها، فإن الحجة الإستراتيجية لإعادة تنشيط القوة البحرية الأميركية ستكون هي الخطر المتزايد الذي يُشكِّله المنافسون على قدرة الولايات المتحدة على ضمان حرية التجارة الدولية، والتواصل بأمان مع حلفائها، ونقل قواتها من موطن إلى آخر، رغم أن حل الأزمنة (16) الحقيقية التي تواجهها البحرية الأميركية اليوم بخصوص الاشتباك هو أبعد ما يكون عن تكديس المزيد من السفن، وهو خلل يكمن في عمق الإستراتيجية في المقام الأول.
ومع ذلك، فمن المُرجَّح أن الولايات المتحدة سوف تُواصِل مراكمة القوة البحرية من أجل إثبات وتعزيز تفوُّقها على خصومها من ناحية، ومن أجل الإبقاء على حيوية المجمع العسكري الصناعي الذي يُعَدُّ حجر الزاوية الحقيقي في التفوُّق الأميركي من ناحية أخرى، ومن أجل إرضاء غرور الرؤساء الأميركيين الذين يحبون مَشاهِد استعراض القوة وإلقاء الخطابات على متن المدن المقاتلة القابعة في عرض البحر.