تسويق المرض من أجل الربح.. لماذا أصبحنا جميعا مرضى نفسيين؟
“وسّع علم النفس حدوده ليشمل الكثيرين ممن يُعتبرون في الحقيقة أسوياء”
“كان الزمن هو مايو/أيار 2009م، تقاعدت عن العمل مؤخرا بعد سنوات عديدة قضيتها في قيادة فريق تحرير الدليل الإحصائي والتشخيصي للاضطرابات النفسية الرابع “DSM-4″ وهو الدليل المرجعي الأشهر في العالم للاضطرابات النفسية. منذ سنوات مضت، رأست قسم علم النفس في جامعة دوك، كما عالجت العديد من المرضى وقمت بالبحث ونشرت بعض المؤلفات والكتب. لكني قررت بعد ذلك أن أترك كل هذا ورائي لأتفرغ لرعاية أحفادي، وملازمة زوجتي، واستنشاق بعض النسيم على الشاطئ الذي حرمت نفسي منه طوال سنوات. لكنّ شيئا ما تغير في هذه الليلة وجعلني أعود إلى الكتابة مرة أخرى.
دُعيت إلى الحفل السنوي الذي تقيمه رابطة علم النفس الأميركية (APA) بمتحف الفن الآسيوي بسان فرانسيسكو. فكرت قليلا ثم قلت إني موجود في المدينة نفسها التي يُقام فيها الحفل، وقلت لعلها فرصة جيدة لأنتهزها لأقابل بعض الأصدقاء القدامى. عندما ذهبت إلى الحفل، كان الموضوع الأساسي الذي يركز عليه حديث الخبراء هو طبيعة (السواء النفسي) والدور الصحيح لعلم النفس في تعريفه. لم يمر وقت قليل في الحفل إلا وقد فقدت انزوائي البعيد واضطررت إلى أخذ مكاني في السجال الدائر الذي صار بمنزلة الحرب الأهلية للدفاع عن قلب الطب النفسي، لقد قررت أن أحارب في معركة ضد التوسع الخاطئ للطب النفسي، ولأحمي السواء النفسي من اعتباره مرضا يحتاج إلى علاج بالعقاقير”.
بهذه الكلمات سطر آلن فرانسيس أولى كلمات كتابه “حفاظا على السواء: ثورة داخلية على تضخم التشخيص في الطب النفسي”(1) (Saving Normal: An Insider’s Revolt Against Out-of-Control Psychiatric Diagnosis). أطلق فرانسيس في كتابه صيحة تحذير من موجة التوسع المفرط في التشخيص في الطب النفسي، أي اعتبار كثير من السلوكيات السوية والعادية سلوكيات مرضية. كما استعرض فرانسيس تبعات هذا الخلل من وصف السوي على أنه مريض، ووضعه على أدوية سيضطر للتعامل مع آثارها دون أن يكون بحاجة إليها. في الوقت الذي لا ينال من هم يعانون بالفعل وبحاجة إلى هذه التدخلات ما يستحقونه من اهتمام. فكيف عرض فرانسيس فكرته؟ وهل يمكننا الوصول إلى تعريف دقيق للسواء النفسي؟
الدليل التشخيصي والإحصائي.. من الظلمة إلى الشهرة
حتى ثمانينيات القرن المنصرم، لم يكن الدليل التشخيصي والإحصائي (DSM) جديرا بالاعتبار، لا عند المتخصصين ولا عند الجمهور ولا عند الشركات، لكن منذ إصدار الجزء الثالث منه “DSM-3″، صار هذا الدليل أيقونة ثقافية وأهم مرجع يستند إليه كافة علماء النفس والأطباء النفسيين في العالم. كانت هذه قفزة كبيرة للأمام بالفعل، لكن فرانسيس كان متشائما بهذا الاهتمام الواسع والمفاجئ بالطب النفسي، وظل شكه يساوره في صدره حتى أثناء إعداده للدليل الرابع.
ولاحقا صدقت ظنون فرانسيس بالفعل وآمن أن شكه كان في محله، فقد صرح فرانسيس أن الدليل المرجعي الخامس “DSM-5” يمشي في الاتجاه الخاطئ تماما، بسبب أنه يضيف تشخيصات جديدة للأمور المعتادة يوميا: مثل القلق والنسيان وعادات الأكل غير الصحية، ويحولها إلى اضطرابات نفسية، تجعل الإنسان السوي مريضا ومسكينا يحتاج إلى تدخل علاجي كي يتم شفاؤه من مرضه.
ويذكر فرانسيس أنه أثناء تجواله في الحفل سالف الذكر، قابل العديد من الأصدقاء المتحمسين الذين كانوا يعملون على إخراج الدليل المرجعي الخامس، وسرعان ما اكتشف أن الاضطرابات الجديدة التي سيتم إضافتها إلى المرجع يعاني منها فرانسيس نفسه بالفعل! فالتهامه للأضلاع والطعام اللذيذ سيكون “اضطراب النهام” (Binge eating) وليس مجرد حب للطعام. ونسيانه للأسماء والوجوه ربما تمت تغطيته بتشخيص “اضطراب عصبي-ذهني طفيف” (Minor neurocognitive disorder) وليس مجرد عادة عادية. وقلقه وحزنه الطبيعيان بسبب وفاة زوجته سيكونان علامات واضحة على “اضطراب الاكتئاب الحاد” (Major Depressive Disorder) لا علامات على حزنه الطبيعي الإنساني. يتساءل فرانسيس: “متى ظهرت كل هذه الاضطرابات النفسية؟ وما مفهوم الاضطراب النفسي ابتداء؟!”.
ما الاضطراب النفسي؟!
يحاول فرانسيس في أول فصول كتابه أن يعرّف مفهوم “السواء النفسي”، ويضع أيدينا على أولى المفارقات في عملية التعريف: فلكي تعرّف مفهوم السواء عليك أولا أن تعرف ما هو مرضي، ولتعريف المرض عليك أن تعرف ما هو سوي، مما يوقع القارئ في مغالطة منطقية واضحة “تودي بنا في النهاية إلى أنه لا يوجد تعريف عالمي حقيقي للمصطلحين، ولا خط فاصل بينهما”.
رغم ذلك يسعى فرانسيس لتعريف مصطلح “السواء النفسي” عبر استكشاف طبيعته في عدة حقول أكاديمية: الفلسفة، علم الإحصاء، الطب، التجارب المعملية، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، وحتى علم النفس ذاته، لكنهم جميعا يفشلون في تحديد معنى السواء بدقة موضوعية. بل وينقل إلينا مفارقة في علم النفس التحليلي قائلا: “إن المفارقة الكبرى غير المعلنة في التحليل النفسي هي أن أفضل المرضى هم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلى العلاج النفسي في البداية”.
“مفهوم “السواء النفسي” و”الاضطراب النفسي” هما مفهومان سائلان للغاية، غير منظمين، ومختلفان باستمرار في الشكل بطريقة لا تمكننا من تأسيس حدود فاصلة ثابتة بينهما”
ويخبرنا أن مفهوم السواء، أي إن ما هو “طبيعي”، هو في الحقيقة أمر يختلف باختلاف الثقافات، فما يتم تشخيصه مرضا في ثقافة ما يمكن توصيفه سواء في ثقافة أخرى. لذلك يحاول علم النفس أن يضع معايير عالمية للاضطرابات النفسية يمكن القياس عليها، ولكن المشكلة هي أن هذه المعايير نفسها غير دقيقة.
فعلى سبيل المثال، يتم تشخيص اضطراب الاكتئاب الحاد (Major Depressive Disorder) عبر ملاحظة خمسة أعراض (الإحباط، فقدان الاهتمام، نقص الشهية، التغير في النوم، الإرهاق) إذا استمرت لمدة أسبوعين متواصلين. ظل الأطباء النفسيون يشخصون حالات الاكتئاب الحاد طبقا لوجود أو غياب هذه الأعراض في المرضى لمدة أكثر من ثلاثين عاما، وهنا بالذات يطرح فرانسيس سؤالا مهما: ما الذي جعل هذه المعايير حدية بهذا الشكل؟ بمعنى أنه لو توفر أربعة فقط من خمس المعايير أو لو استمرت الأعراض لمدة أسبوع واحد فقط فإن التشخيص لن يكون اكتئابا حادا وإنما اضطراب آخر.
يفضل علم النفس تحديد هذه المعايير بشكل مطلق، حيث يقول فرانسيس: “لا يوجد في الحقيقة شيء سحري أو حتمي بخصوص معايير الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM)، وإنما هناك مساحات رمادية كثيرة بين ما هو أبيض وما هو أسود. ولم يكن تحديد خمسة المعايير تلك إلا خيارا اعتباطيا بواسطة من وضعوا الدليل الثالث “DSM-3″. وبالسهولة نفسها كان من الممكن رفع المعايير إلى ستة أو سبعة، وزيادة عدد الأسابيع إلى أربعة أسابيع، دون أن يشكل ذلك انتهاكا علميا”.
الاكتئاب الحاد ليس حادا دائما
الألم النفسي والعاطفي أسوأ من أي شيء يمكن تخيله، واضطراب الاكتئاب الحاد (Major Depressive Disorder) يعتبر من أقسى الآلام البشرية. لكن فرانسيس يقول إن كثيرا مما يمر علينا من اضطراب الاكتئاب الحاد ليس حادا في الحقيقة، ولا اكتئابا، ولا اضطرابا. فقد خلق التشخيص السائل في بعض الأحيان وباءً زائفا للاكتئاب الحاد، وتحولت حالات الحزن العادية إلى اكتئاب مرضي، مما جعلنا شعوبا مستهلكة للدواء بشكل مبالغ فيه.
وضع الدليل الإحصائي والتشخيصي “DSM-3” تعريفا ثابتا للاكتئاب منذ 30 عاما لم يتغير حتى اللحظة. قد يعتقد أحدهم أن هذا مؤشر على نجاحه، لكنه في الحقيقة، كما يوضح فرانسيس، يكشف عن عيب خطير، ألا وهو عدم وجود حدود فاصلة واضحة بين المستويات المتوسطة من الاكتئاب المرضي وبين الأشكال الأشد من الأحزان اليومية العادية والطبيعية. ولذلك فإن ثمة جدلا علميا كبيرا بين المتخصصين حول أي العقاقير أقوى: مضادات الاكتئاب أم الأدوية الوهمية (Placebos)؟ ويرجع فرانسيس سبب هذا الجدل إلى أن كثيرا من المرضى المشخصين بالاكتئاب هم ليسوا مرضى في الحقيقة ولا يحتاجون إلى علاج إكلينيكي.
وهنا يطلق فرانسيس نداء بعدم التسوية بين الأحزان الطبيعية وبين الاضطرابات النفسية، فيقول: “لا ينبغي أن يكون الحزن مرادفا للمرض، فليس هناك تشخيص لكل إحباط ولا عقار لكل مشكلة. صعوبات الحياة، مثل الطلاق والمرض والمشاكل المالية والنزاعات بين الناس، لا يمكن إزاحتها من حياتنا. ورد فعلنا الطبيعي تجاهها، كالحزن وعدم الرضا والتثبيط، لا يجب توصيفه كاضطراب نفسي علينا أن نعالجه بعقار”.
ويستكمل فرانسيس: “تخيل معي لو حدث لك مصيبة في حياتك وأنت استجبت بأسبوعين من الحزن وفقدان الاهتمام والطاقة، كما عانيت من مشاكل في النوم والأكل. يبدو هذا متفهما بشدة وطبيعيا بشكل كامل، لكن الدليل الإحصائي يصنف ذلك اكتئابا حادا”.
اضطراب ما بعد الصدمة: سلاح ذو حدين
لا تقتصر مشاكل التعريف على اضطراب الاكتئاب الحاد فقط، بل تمتد لتشمل قائمة واسعة من الاضطرابات النفسية. ومن بين كل الاضطرابات النفسية، تكمن مفارقة اضطراب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder) في أنه واحد من أكثر الاضطرابات التي لا يتم تشخيصها بشكل صحيح، سواء بسبب الإفراط في تشخيصه أو بسبب الندرة في تشخيصه. كل الصدمات التي نتعرض لها في حياتنا لا نحب أن نسترجعها في ذاكرتنا، ولكن ثمة محفزات قد تطلق شرارة داخل المخ لتعيد الذكريات القديمة فتختبر شعور الحزن والخوف والرعب نفسه الذي عشته سابقا، فما مشكلة اضطراب ما بعد الصدمة إذن؟
يخبرنا فرانسيس بأن جميعنا لدينا صور تدخلية وردود فعل عاطفية لما يتعلق بأحداث صادمة في حياتنا، هذا أمر من صميم إنسانيتنا ولم يتم تصنيفه أبدا على أنه اضطراب نفسي. وبالنسبة لأغلب الناس، تدريجيا تصبح الصور والذاكرة أقل حضورا وتصبح المؤثرات أقل رعبا. يؤكد فرانسيس إذن أن اضطراب ما بعد الصدمة عندما تستمر الأعراض لفترة طويلة وتسبب إعاقة ملحوظة.
ثم يؤكد ذات الكاتب هنا أن تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة يسهل كتابته على الورق، لكن تشخيصه الدقيق في الحياة الواقعية أمر صعب للغاية ويكاد يصل إلى المستحيل. فهو بالأساس لا يعتمد على مؤشرات معملية أو تحليلات بيولوجية وإنما يقوم مجردا على تشخيص الطبيب النفسي، الذي بدوره يعتمد على تقرير المريض لحالته، الأمر الذي يُشكّل صعوبة بالغة في تقدير الاضطراب بدقة.
يعبر فرانسيس عن قلقه بسبب هذه النقطة، فلا يمكن لكل المرضى التعبير عن أنفسهم بشكل كافٍ أو دقيق، كما أن ثمة عوامل نفسية وسياقية متعددة قد تؤثر أو تقود الأعراض التي يعبر عنها المريض، سواء تمثّل ذلك بصورة واعية أو غير واعية. ليس مفاجئا إذن أن تكون معدلات اضطراب ما بعد الصدمة في الجنود العائدين من الحروب متقلبة للغاية اعتمادا على طريقة التشخيص حتى لو كان الجنود يمتلكون الخبرات والأوقات الصعبة نفسها في الحرب.
العقاقير النفسية تهدد الاتزان الداخلي للإنسان
“تجاوز المشاكل من نفسك يجعل الوضع طبيعيا، ويعلمك مهارات جديدة، ويقرّبك ممن يدعمونك. على الناحية الأخرى، فإن تناول العقاقير يوسمك كمختلف وكمريض حتى لو لم تكن كذلك”.
سواء كنت مصابا باضطراب ما بعد الصدمة أو بالاكتئاب الحاد، أو بغيرها من المشاكل التي قد يعاني منها المرء في حياته، فإن ثمة مبدأ حاكما في جسم الإنسان يجعله يتجاوز كل هذه الصعوبات. يقول فرانسيس إن المبدأ الحاكم لتنسيق وظائف جسم الكائن الحي هو نظام الاستتاب أو الاتزان الداخلي لجسم الإنسان (Homeostasis)، وأي فشل في هذا المبدأ في أي كائن حي يؤدي إلى خلل الوظائف أو المرض ولاحقا الموت. يمكن ملاحظة انهيار نظام التوازن في الأمراض المعروفة مثل السرطان، والسكر، وارتفاع الضغط، والسمنة المفرطة.
في السياق نفسه، يعمل المخ البشري بنظام الاتزان الداخلي نفسه، ويؤكد فرانسيس أن المخ هو “أعظم تعبير في الكون عن نظام الاتزان الداخلي”. فالمخ هو المتحكم الرئيسي في وظائف جسمنا، أفكارنا، مشاعرنا، سلوكياتنا، هي نتائج لتنسيق معقد لا يمكن وصفه مكوّن من عشرات مليارات الخلايا تستجيب بشكل دائم للتحديات الداخلية والخارجية، مما يحافظ على سوائنا وحالتنا الطبيعية بشكل مستقيم وصحي.
“بسبب عدم وجود أي اختبارات بيولوجية أو تعريفات دقيقة للتفريق بين السواء النفسي والاضطراب النفسي، فكل شيء في التشخيص النفسي يعتمد على الأحكام الذاتية شديدة التقلب”.
يساعدنا نظام الاتزان على تجاوز المشاعر السلبية. فشعورنا اليومي أو إحساسنا العارض بالحزن أو القلق أو الغضب أو الخوف أو التقزز، كلها مشاعر يومية يمر بها كل البشر، ويشير فرانسيس إلى أن “الوسيلة الأفضل للتعامل مع الضغوط والمشاكل اليومية هي أن تتعامل معها مباشرة أو أن تنتظر حتى تزول حالتك النفسية السيئة”. فبفضل الاتزان الداخلي يستطيع الإنسان علاج هذه المشاكل نفسيا ليستعيد حالته الطبيعية من السواء النفسي.
“قديما، منذ 35 عاما، كان الهدف الأهم للطب النفسي هو تشخيص المرضى غير المشخصين، ولكن الوضع الآن تغير بشكل دراماتيكي، وصارت المشكلة الأهم حاليا هي المبالغة في تشخيص المرضى.. قبل صدور الدليل الثالث “DSM-3″ كان هناك القليل من التشخيصات، والآن بسبب تضخم التشخيص صار هناك عدد زائد عن الحد من التشخيصات”.
ويتذكر فرانسيس تجربة قام بها وعلّمته درسا لا يمكن أن ينساه عن نظام الاتزان الداخلي، فقبل وجود أي علاجات فعالة لمرض نقص المناعة (HIV-AIDS) وجد أن من يتلقون خبرا بإصابتهم بالمرض يصابون بقدر هائل من الحزن والقلق، في حين أن من يتلقون خبرا بعدم إصابتهم تقفز حالتهم النفسية إلى السماء من فرط السعادة والراحة. توقع فرانسيس أن المجموعة الأولى (المصابة) ستحتاج إلى تدخل نفسي وعلاج كيميائي، لكن بعد ستة أسابيع، قام فرانسيس برصد ذات المجموعتين، وكانت المفاجأة (المتوقعة) هي أن المجموعتين كانتا قد عادتا إلى حالتهما النفسية الطبيعية من حيث بدأتا، استطاع المصابون تجاوز حالتهم النفسية السيئة، واندثر شعور السعادة لدى المجموعة السليمة، وعاود الاثنان حياتهم الطبيعية بشكل سلس لا إشكال فيه.
هنا بالضبط تكمن أزمة التضخم في استخدام العقاقير النفسية، حيث يذكر فرانسيس أن التوسع في استخدام العقاقير النفسية يتسبب في تعطيل نظام الاتزان الداخلي لدينا، ويوضح أن اللجوء إلى الأدوية يعارض الطريقة الطبيعية للجسم لاستعادة سوائه النفسي، كما يعطل المهارات المكتسبة جراء المشاكل اليومية مثل السعي للدعم النفسي من العائلة والأصدقاء، وإجراء تغيرات في طريقة المعيشة، وإزالة الضغط بممارسة الأنشطة، أو الانشغال بالهوايات والاهتمامات.
ويختم فرانسيس هذه الجزئية قائلا: “الدواء ضروري لمن يحتاجون إلى إعادة تأسيس نظام اتزانهم الداخلي لمن يعانون من اضطرابات نفسية حقيقية. لكن الدواء يتداخل بشكل سلبي مع نظام الاتزان الداخلي لهؤلاء الذين يعانون من المشاكل اليومية فقط”.
نحن جميعا مرضى!
“لقد تقدم البحث الطبي بشكل هائل، إلى درجة أنه لم يعد هناك ناس أصحاء”.
(آلدوس هكسلي)
يتأسى فرانسيس على حالنا اليوم، فنحن يتم إرشادنا إلى تناول العقاقير من أجل الوقاية من الأمراض النفسية، لكننا في الوقت نفسه نتجاهل أهم أشكال الوقاية، مثل ممارسة الرياضة بشكل منتظم، والنظام الغذائي السليم، والإقلاع عن الكحول والتدخين والمخدرات. لكن هذه السلوكيات غير المكلفة لا تدر ربحا لشركات الأدوية وبالتالي فهي سلوكيات لا ينصح بها العاملون في مجال علم النفس.
إن مجتمعاتنا تتحول إلى مجتمعات مثالية نظريا، فإذا كان لديك نقص شعور بالسعادة الكاملة، أو إذا فشلت في الحصول على حياة خالية من الضغوط، فأهلا بك في عالم الاضطرابات النفسية. لقد تم رفع سقف أهدافنا وتوقعاتنا إلى درجة غير واقعية، لا سيما عندما يكون الأمر متعلقا بأطفالنا. لم يعد الطفل الأكثر هدوءا في الفصل مجرد طفل هادئ، بل أصبح مريضا باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) ويحتاج إلى تناول عقار.
موضة الاضطرابات النفسية!
“لا يوجد هناك وباء منتشر للاضطرابات النفسية، وإنما مجرد تعريف أكثر مرونة للمرض”.
هل نعيش في زمن تحولت فيه الاضطرابات النفسية والعلاج النفسي إلى “موضة”؟! يرى فرانسيس أن الوضع حاليا صار كذلك بالفعل، ويشير إلى أن موضة الاضطرابات النفسية أصبحت متقلبة مثل شعبية نجوم الغناء والمطاعم ورحلات السفر. ويحكي فرانسيس: “خلال عملي في مجال علم النفس لمدة 35 عاما، لم أجد متخصصا واحدا يسعى إلى تقليل عدد مرضاه”.
لا يغفل فرانسيس عن دور الإعلام والإنترنت اللذين يتغذيان على الموضات العابرة. ففي عالمنا الحديث، يمكن للوباءات أن تنتشر انتشار النار في الهشيم من خلال التغطية المستمرة لمدة 24 ساعة لـ 7 أيام في الأسبوع. نعم ربما يوفر الإنترنت المواد المساعدة للمرضى بالفعل، إلا أنه يساهم كذلك في تضخيم التشخيصات الخاطئة لحد مخيف. فالمستهلك العادي يمكنه أن تخدعه عبارات مثل: “واحد من كل ثمانين مصابا بالتوحد”، “علاج الزهايمر هنا أخيرأ!”، “هل يعاني طفلك من اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD)؟”، “اضطراب ثنائي القطب يدخل مرحلة خطيرة، كما صرح أستاذ في هارفارد”.
منطق الشركات: كن مريضا لكي نربح!
“حملة واحدة من “التوعية بالاضطرابات النفسية” تجريها شركة دواء واحدة يمكنها أن تخلق الاضطرابات النفسية في أماكن لم تكن موجودة فيها من الأساس”.
عندما صدر الدليل الرابع “DSM-4” عام 1994م، توقع مؤلفوه أن معاييرهم لاضطراب نقص الانتباه سوف تسبب زيادة قدرها 15% فقط في عدد الحالات المرصودة بهذا الاضطراب. لكن في عام 1997م اشترت شركات الأدوية مجموعة من العقاقير الجديدة لعلاج اضطراب نقص الانتباه وطرحتها بشكل فوري في الأسواق وقامت بالإعلان عنه، ووصل الحال الآن إلى حد أن اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) أصبح واسع الانتشار في المجلات وشاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، ووُلد وباء عالمي، وتضاعف عدد المرضى ثلاثة أضعاف، عوضا عن الـ 15% التي توقعها علماء النفس، وبالطبع تدفق “المرضى” لشراء العقاقير بكميات مهولة.
لا تعتبر هذه الحادثة استثناء في تاريخ العقاقير، ففرانسيس يوضح لنا قاعدة بدهية تحكم منطق شركات الأدوية في مجال علم النفس: “إن الولاء الأساسي لأي شركة هو لحاملي أسهمها لا لمصلحة الجماهير. جنرال موتورز تبيع السيارات، آبل تبيع أجهزة الكمبيوتر، وشركات الأدوية تبيع العقاقير، كلهم لذات الغرض: تحقيق أكبر ربح ممكن. ويعتمد ربح أي شركة على زيادة حجم سوقها، وبالنسبة لشركات الأدوية، فإن تحفيز تضخم التشخيص هو مفتاح نجاح الشركات”.
ربما يمتد الفساد من التشخيص إلى التقنين كذلك، فقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن 54% من مؤلفي الدليل الرابع “DSM-4” كانت لهم ارتباطات مالية بشركات الأدوية. تتجاوز مبيعات شركات الأدوية الكبرى 700 مليار دولار سنويا، وحصة ضخمة من الأرباح تتشكل بواسطة تسويق العقاقير النفسية للجمهور سواء عن طريق التسويق المباشر أو عن طريق التفاهمات المشتركة مع الأطباء النفسيين. لا يأتي الإعلان أو التسويق للعقار النفسي في صورة جامدة توضح وظائفه وفوائده فحسب، وإنما يصحب الرسالة مجموعة من الصور الجذابة: يتوقف المطر وتشرق الشمس عندما تتناول مضادا للاكتئاب، الشاب الحزين المنطوي يصبح نشيطا قائدا واثقا في نفسه.
“التسويق لأنماط حياة (Lifestyles) يعمل بشكل جيد للسيارات وللملابس وللكحوليات، فلماذا لا يتم الأمر مع العقاقير النفسية كذلك؟”
ولا يختلف الأمر عندما يأتي الأمر للأطفال، فالصخرة الخشنة البائسة تصبح ملساء وسعيدة حالما تتناول عقارا نفسيا. لكن لا تقلق، فكل إعلان يصحبه في بدايته ونهايته “اسأل طبيبك”، وبالطبع لن تفوت الشركات هذه الفرصة، فالشركات نفسها التي تقوم بالإعلان تقوم أيضا في ذات الوقت بربط الأطباء النفسيين برسائل مشابهة حتى يلقنوها لمرضاهم الذين يطلبون منهم العلاج، مما يجعل المريض محاصرا بين الإعلان المباشر وبين ترشيح طبيبه النفسي.
لكن الجمهور لا يستطيع التفريق بين ما هو صالح وما هو مضر، لا سيما عندما يتعلق الأمر بعلم معقد مثل علم الأعصاب وعلم النفس، مما يفتح مجالا واسعا وفرصة ذهبية أمام الشركات لخداع الجمهور، وهو الأمر الذي يستمر بشكل متكرر. فما بين عامي 2007 و2012، أي في خلال خمس سنوات فقط بلغت العقوبات القانونية والتسويات على كبرى شركات الأدوية بسبب انتهاكها لقوانين التسويق نحو 12 مليار دولار.
فمثلا تم تغريم شركة “GlaxoSmithKline” مبلغا قدره 3 مليارات دولار في يوليو/تموز 2012، وتم تغريم شركة “Johnson&Johnson” مليار دولار في أبريل/نيسان 2012م، أما في سبتمبر/أيلول 2010م فقد تم تغريم شركة “Novartis” نصف مليار دولار. وكانت الانتهاكات القانونية لهذه الشركات تتضمن: الترويج لاستخدام دواء لغرض آخر عما تم إقراره من قِبل إدارة الغذاء والدواء (FDA)، والتسويق الزائف، وخداع الجمهور.
“بسبب تضخم التشخيص، نسبة مبالغ فيها من الناس أصبحوا يعتمدون على مضادات الاكتئاب، Antipsychotics، وأدوية القلق، والمنومات. إن هذه المرونة التشخيصية تسببت في استخدام مفرط للعقاقير”
ارتفعت العقوبات القانونية والتسويات على شركات الأدوية الكبرى بحلول عام 2016 إلى 35 مليار دولار. ومن اللافت أن أغلب هذه الانتهاكات لم تكن تتعلق بعقاقير تعالج أمراضا عضوية وإنما كانت مقتصرة تقريبا على إطار العقاقير النفسية التي تستهدف الاضطرابات النفسية، مثل عقاقير “Risperdal” و”Paxil” وغيرهما. الأمر الذي يبين مدى التلاعب الهائل الذي يمكن أن تتسبب فيه الشركات جراء السيولة المرنة في تشخيص وتوصيف الاضطرابات النفسية، جراء الدعاية الزائفة للجمهور.
تبدو إذن قضية السواء النفسي محاصرة بين مطرقة غموض تعريف السواء والاضطراب النفسي، وسندان السيولة الشديدة في تشخيص الأمراض. وتتداخل فيها عوامل ثقافية وشخصية واجتماعية يستحيل من خلالها الوقوف على حالة نهائية معينة يمكن التعبير عنها بأنها السواء النفسي المطلوب. وما يزيد الأمر سوءا هو التدخل الكيميائي لكل ضغوط الحياة عبر وصف كل مشكلة حياتية بأنها اضطراب نفسي، بالإضافة إلى المشاكل الضخمة التي تتعلق بتشخيص الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب الحاد وفرط الحركة ونقص الانتباه، كل هذه العوامل مجتمعة تشير إلى أن رحلة البحث عن السواء النفسي أشبه برحلة البحث عن المستحيل.
في نهاية التقرير يجدر التنويه لملاحظة هامة، وهي أننا لا نقصد دعوة المريض للشك في علاج يتلقاه أو الثورة عليه بصورة تشبه ردة الفعل العكسية، فالأطباء عادة هم أكثر الناس خبرة بالمرض وهم القادرون على متابعته بدقة، كما أن النقاش، أو الجدل العلمي أو الفلسفي، حول طبيعة المرض النفسي والحدود الفاصلة بين السواء والمرض تتعلق بشكل أساسي بتلك الحالات التي تتواجد على الحدود الفارقة بين الحالتين وهي مرادنا من خلال التقرير الحالي، مما يعني أن ذلك لا يمنع وجود الكثير من التشخيصات الواضحة والصحيحة والتي تحتاج فقط للالتزام بخطة العلاج، أضف لذلك أن العلاج النفسي، وليس الدوائي، قد أثبت جدارة واسعة في العقود الأخيرة.