تراجع المسيحية في الغرب.. أسئلة مصيرية عن البدائل والهوية ومستقبل الحضارة
تجدد النقاش في الغرب عن انحسار الدين المسيحي بعدما كشف إحصاء بريطاني للمرة الأولى عن هبوط نسبة معتنقيه في إنجلترا وويلز إلى أقل من نصف السكان، وهو أمر تكرر مؤخرا في الولايات المتحدة، التي تعد من أكثر الدول الغربية محافظة، مما يسلط الضوء على التحولات العميقة في الثقافة الغربية والتي يرى بعض المنظّرين أنها ليست سوى مؤشر على اندثار “الحضارة المسيحية”.
ففي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، نشر مكتب الإحصاءات الوطني البريطاني نتيجة التعداد السكاني الذي يجريه كل 10 سنوات، وجاء فيه أن نسبة مَن يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون في إنجلترا وويلز لا تتجاوز 46.2%، مقارنة بنسبة 59.3% التي سجلت في التعداد السكاني السابق في عام 2011، وهو انخفاض كبير في غضون عقد واحد فق
وفي المقابل، ارتفعت نسبة اللادينيين في الإحصاء -الذي أجري العام الماضي وأعلن عنه مؤخرا- إلى 37.2% من السكان، مقارنة بنسبة 25% قبل 10 سنوات، أما نسبة الذين يُعرفون أنفسهم بأنهم مسلمون فارتفعت من 4.9% في 2011 إلى 6.5% في الإحصاء الجديد.
وبعد إعلان هذه الأرقام، أقر رئيس الأساقفة يورك ستيفن كوتريل بالتحول الكبير الذي طرأ على بلاده، وقال إن بريطانيا “تركت وراءها حقبة كان يُعرف فيها كثير من الناس بشكل تلقائي تقريبا على أنهم مسيحيون”، معتبرا أن هذا لا يشكل مفاجأة له لكنه يطرح تحديا كبيرا، وفقا لما نقلته شبكة “بي بي سي” (BBC).
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، كشف استطلاع واسع أجراه “مركز بيو للدراسات” (Pew Research Center) عن تخلي أعداد كبيرة من الأميركيين عن المسيحية في الأجيال الشابة، فحتى العام 2019 قُدّر أن 31% من الذين نشؤوا على المسيحية تخلوا عنها بين سن 15 و29 عاما، في حين تخلى عنها قرابة 7% ممن تجاوزوا سن الـ30.
ولبيان حجم التحولات، تشير الدراسة التي نشرها مركز بيو إلى أن حوالي 90% من البالغين في الولايات المتحدة كانوا يعدون أنفسهم مسيحيين أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
وكان المركز نفسه قد نشر دراسة عام 2019 أشار فيها إلى أن التدين في الولايات المتحدة في تراجع حاد، كما أشار استطلاع للرأي أجري في عام 2017 إلى أن متوسط تقدير الأميركيين لأهمية الرب في حياتهم انخفض خلال 10 سنوات فقط من 8.2 نقاط على مقياس من 10 نقاط إلى 4.6 نقاط.
وفي عام 2020، أجرت المنظمة المسيحية غير الربحية “ليجونير مينيستريز” (Ligonier Ministries) استطلاعا للرأي جاء فيه أن 52% من البالغين الأميركيين يقولون إنهم يعتقدون أن “يسوع” المسيح ليس إلهًا، بل كان معلمًا عظيمًا فقط، وهو اعتقاد يتعارض مع أهم أركان المسيحية.
وفي كندا، تبدو نسب التحولات متقاربة أيضا، إذ انخفضت نسبة المسيحيين في البلاد من حوالي 77% عام 2001، إلى 67% في عام 2011، ثم إلى 53% فقط في 2021، في حين ارتفعت نسبة الذين لا يؤمنون بأي دين من 16.5% إلى 23.9% ووصولا إلى 34.6% في الأعوام الثلاثة على التوالي.
وفي أواخر يوليو/تموز 2018، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times) تقريرا مطولا عن تحول الكنائس التاريخية في كندا إلى مسارح ونوادٍ رياضية، وذكرت أن نسبة المسيحيين الذين كانوا يحرصون على حضور الصلاة كل أحد في الكنائس من سكان مقاطعة كيبيك في عقد الخمسينيات من القرن الماضي كانت تبلغ 95%، أما اليوم فلا تكاد هذه النسبة تزيد عن 5% فقط، مما يعني أنه حتى في حال إقرار نصف السكان بأنهم ما زالوا مسيحيين فإن معظمهم قد تخلى عن الالتزام بشعائر هذا الدين.
وعلى الرغم مما تكشفه الإحصاءات عن تراجع المسيحية، فإن مصادر بحثية وتبشيرية عدة تتفاءل بتزايد الإقبال على الكنائس في مناطق أخرى، ففي العدد الأخير الصادر هذا الأسبوع من مجلة “المسيحية اليوم” (Christianity Today) رصد تقرير بعنوان “هل تعيش أوروبا مرحلة ما بعد المسيحية أم ما قبل النهوض؟” جهود المبشرين في إسبانيا والبرتغال، وأكد على تزايد وتيرة افتتاح الكنائس في فرنسا وبريطانيا.
سلط التقرير الضوء أيضا على فعاليات ومؤتمرات وإرساليات تبشيرية عدة في أنحاء أوروبا، ولا سيما في أوروبا الشرقية، ووصولا إلى أفريقيا والصين، ولكنه لم يقدم نظرة شاملة للمقارنة بين أعداد الكنائس الجديدة وبين تلك التي تغلق أبوابها وتتحول إلى مرافق أخرى، فجميع الاستطلاعات تؤكد أن نسبة معتنقي المسيحية أو المتمسكين بشعائرها تتراجع باستمرار في العقود الثلاثة الأخيرة، وبنسبة أكثر حدة في العقد الأخير، وهذه حقائق لا يمكن دحضها بالاكتفاء بتسليط الضوء على الفعاليات التبشيرية التي ما زالت قائمة.
جدل متواصل
في أواخر أغسطس/آب 2021، انتخبت منظمة “جامعة هارفارد للقساوسة” الملحد من أصل يهودي غريغ إبستين رئيسًا للقساوسة في المجتمع الديني بأهم جامعة في العالم، بحيث يتولى إبستين -وهو مؤلف كتاب “الخير من دون إله”- التنسيق بين عشرات القساوسة العاملين في الجامعة، مما أثار جدلا في وسائل الإعلام عن التحولات الطارئة على المسيحية في الولايات المتحدة، بحيث أصبحت تراثا ثقافيا أكثر من كونها دينا.
وفي خضم هذا الجدل، نشر موقع “ذا كونفيرزيشن” (the conversation) آنذاك مقالا لأستاذتي علم الاجتماع بيني إدغيل وويني كادج، جاء فيه أن 35% من جيل الألفية يرون أنفسهم غير منتمين لأي دين، وأن الأميركيين أصبحوا أكثر قبولا لأشكال بديلة من الروحانية، وأقل تقبلا في الوقت نفسه للإلحاد المطلق.
وهذا يعني أن الروحانيات البديلة التي تقدمها “حركة العصر الجديد”، والتي تضم شعائر مقتبسة من الديانات الهندوسية والبوذية مع خليط من ممارسات اليوغا وغيرها، تبدو أكثر تقبلا وشيوعا في الولايات المتحدة من التخلي عن المسيحية لصالح العلمانية الشاملة الخالية من الروحانيات.
ويحرص المزيد من الملاحدة واللادينيين أيضا على تقديم أنفسهم في صورة “الإنسانيين”، فبعدما عجزت حركة “الإلحاد الجديد” -التي صعدت في الغرب ببداية القرن الحالي- عن تقديم بديل مادي متماسك للأديان، يحاول الخارجون من المسيحية التمسك بموقف وسط بين الروحانية والمادية، بحيث لا يتخلون جملة واحدة عن المنظومة الأخلاقية التي نشؤوا عليها في ظل الدين.
نهاية الدين أم الحضارة؟
في العام الماضي، أصدرت الكاتبة الفرنسية شانتال ديلسول كتابا حظي باهتمام كبير في الأوساط الثقافية، وجاء بعنوان “نهاية العالم المسيحي”، إذ حاولت الكاتبة إثبات أننا نشهد أفول الحضارة المسيحية التي بدأ تشكلها في أوروبا على يد الرومان في أواخر القرن الرابع الميلادي، وأن البابا يوحنا الـ23 -المتوفى عام 1963- كان قد مهد للنهاية بقبوله مبدأ التعددية الدينية والانفتاح على الشيوعية.
وتشدد الكاتبة على أن المسيحية التي شكلت الثقافة الغربية على مدى 16 قرنا، تلاشت بنهاية القرن الـ20، ولم تعد هي المرجعية المعتمدة للقوانين والأعراف والأخلاق بعد حلول الليبرالية والفردانية والعلمانية محلها، وتبرهن على ذلك بالتحولات الكبيرة في الأنظمة والقوانين التي جعلت من الإجهاض وزواج المثليين مشروعا في معظم الدول المسيحية.
وبما أن الحضارة المسيحية التي شكلت وجه أوروبا كانت قد اندمجت بروافد من الحضارات الوثنية السابقة عليها، لذا تبدي ديلسول تفاؤلها بأن اندثار المسيحية لصالح العلمانية لن يؤدي إلى انهيار الحضارة الغربية نفسها كما يحذّر المحافظون، بل تتمسك بالرؤية العلمانية التي تعتبر “الإنسانية” بديلا لا يتخلى عن القيم والأخلاق المسيحية، لكنه يربطها بالأعراف فقط وليس بالدين.
وكأي منظّر علماني، ترى ديلسول أن هذا النهج “الإنساني” سيقدم بديلا حضاريا قابلا للاستمرار والارتقاء، إلا أنها لا تخوض في الأسئلة الصعبة التي تتعلق بمنشأ القيم ومسوّغاتها عندما يُنزع عنها الأصل الميتافيزيقي، فأنسنة العالم وتأليه الإنسان لا يقدمان أي أجوبة على الأسئلة الوجودية، ولا يضفيان معنى للحياة، ولا يسوّغان للإنسان إيثاره للتمسك بأهداب الفضيلة من غير وعد بثواب أخروي يكافئ التضحية.
وإذا كان ما تقوله ديلسول عن “نهاية العالم المسيحي” صحيحا، فهذا يقدم أيضا نقدا إضافيا لنظرية المفكر الراحل صمويل هنتنغتون “صدام الحضارات” التي طرحها في التسعينيات، إذ كان يرى أن الحضارة الغربية هي “العالم المسيحي” بقيمه العلمانية، وهو أمر سبق أن انتقده العديد من الباحثين انطلاقا من نصّ الدستور الأميركي -فضلا عن الدساتير الأوروبية- على الفصل بين الدين والدولة.
وبما أن هنتنغتون كان قد وضع “العالم الإسلامي” نصب عينيه أثناء تنظيره للصراعات الثقافية، التي رأى أنها ستكون محور التدافع البشري في العقود المقبلة، فيجدر بنا التنبيه إلى أن انحسار المسيحية لصالح العلمانية في الغرب يحدث بالتوازي مع صعود الإسلام.
ففي العام الماضي، أصدر مركز بيو دراسة تتنبأ بأن عدد معتنقي الإسلام سيتساوى مع عدد المسيحيين حول العالم بعد عقدين فقط، مع أن عدد المسيحيين كان يُقدر في بداية القرن الـ20 بنحو 560 مليونا، مقابل 200 مليون مسلم فقط.
ونبّهت الدراسة أيضا إلى أن عدد المسلمين سيتزايد بنسب ملحوظة في الدول الغربية، وهو الأمر الذي ما زال يثير حفيظة اليمين المتطرف، ويدفع الحكومات إلى سن التشريعات لتقييد هجرة المسلمين، في حين يتخلى المزيد من الشباب عن المسيحية بتسارع حاد، وتتخبط أطروحات المفكرين في محاولات تقديم البديل العلماني، ويبدو مستقبل الحضارة الغربية أكثر غموضا.