بعد حادثة فتاة المنصورة.. لماذا يلوم الناس الضحايا؟
اضغط للاستماع
قبل يوم واحد فقط، ساد الحزن محافظة الدقهلية المصرية على أثر حادث مروع، فقد أقدم أحد طلاب جامعة المنصورة على قتل زميلة له في الشارع، وفي وضح النهار، وقالت تحريات النيابة الأولية إن الشاب اعترف بجريمته، قائلا إن الفتاة رفضت أن تتزوجه فهَمَّ بقتلها، وبينما يتجادل الناس على وسائل التواصل الاجتماعي حول الأمر، إذا بالبعض يخرج ليلوم الفتاة على رفضها الزواج من هذا الشاب، بينما يعلق البعض الآخر أن ملبس الفتاة كان السبب فيما حدث، ويقول ثالث إنها استفزته لفعل ذلك، فلِمَ يلوم الناس ضحايا حوادث كهذه؟
بينما كان ميلفن(1)، وهو شاب طموح يدور عمره حول الثلاثين ربيعًا، يتدرب في مستشفى المحاربين القدماء بـ “مينلو بارك”، سان ماتيو، كاليفورنيا، كان عليه أن ينضم كنفساني مساعد لمجموعات علاجية تحتوي على عدد قليل من المرضى الذين يتم تجهيزهم للخروج والتفاعل مع الحياة خارج المشفى لمدد قصيرة، ثم بعد ذلك يعودون ثانية من أجل التقييم والعلاج، وكان على القائم بالتقييم، وهو نفساني على درجة عالية من التدريب، أن يسأل المريض العائد عن حياته خلال تلك الفترة، ماذا رأى في المدينة؟ هل حاول الحصول على عمل؟ مع من تحدث؟ وما الذي حدث؟.. إلخ.
يمكن بالطبع أن نتصور حال هؤلاء المرضى الذين كانوا عادة قد خضعوا للعلاج النفسي على مدى فترات طويلة سابقة في حياتهم، مدى رعبهم من الخروج للعالم واختبار قسوته، نحن الآن في الستينات، إنها فترة من تاريخنا لم يكن للمريض النفسي خلالها أن يجد بسهولة دعمًا من الناس، لذلك عاش هؤلاء في حالة من الوحدة، والعزلة، مع جرعات متزايدة من القلق والتوتر الشديد، من هنا كان من المفترض أن يكون دور هذا المعالج النفساني، أثناء اختبارات التقييم، أن يتعاطف معهم قليلًا ويعطيهم بعض الدعم، أليس كذلك؟
لا، للأسف، وكان هذا هو ما دفع ميلفن للتساؤل، حيث لم تكن تلك، كما لاحظ، هي حالة خاصة بتلك المستشفى. كان المعالج يستجوب المرضى بدقة شديدة وكأنهم مجرمين في المحكمة، وكان يحاول دفعهم بكل الطرق إلى الاعتراف بالأخطاء التي قاموا بها في تدريبهم، بل، والأسوأ من ذلك، يقول ميلفن، كانوا يطلقون عليهم، من وراء ظهورهم، أسماء متعددة كـ “أحمق” و”أخرق” و”غبي”.. إلخ، كيف يمكن لمعالج قد تدرب جيدًا على رعاية هذا النوع من المرضى أن يفعل ذلك؟ ما الذي يحدث هنا؟!
لكل فعل رد فعل
لفهم ما ظن ميلفن ليرنر أنه السبب في تلك الظاهرة دعنا نتعلم قليلًا عن بعض التجارب التي صممها ورفاقه لمحاكاتها بعدة صور، فمثلًا كانت إحدى التجارب(2) هي أن نحضر مجموعة مكونة من 75 فتاة من السنة الدراسية الأولى بقسم علم النفس بجامعة كنتاكي، سوف نوهمهم أنه يجب -كأحد واجبات التحاقهم بصف علم النفس التقديمي- عليهم أن يقوموا بتقييم تجارب تتضمن شخصان يعملان معًا للبحث خلف مزايا وعيوب العمل الجماعي.
هنا سوف نقسم تلك المجموعة لعدة مجموعات صغيرة، كل منها يحوي في المتوسط على خمسة فتيات، تدخل المجموعة لتجد عاملَين، نسميهما مثلًا “توم” و”بيل”، مطلوب منهما أداء عدة مهام معًا، لكن في أثناء ذلك سوف يخبر القائم بالتجربة كل من توم وبيل، على مسمع ومرأى من الفتيات، واللذان قد قبلا منذ البداية أن يتطوعا لها دون أجر، أن هناك فرصة لكي يحصل أحدهما فقط على مبلغ من المال كهدية، لذلك سوف نقوم بسحب عشوائي بعد انتهاء العمل ونعطي توم أو بيل المبلغ، ثم يرحلان.
بعد التجربة سوف نطلب من مجموعات الفتيات الإجابة على استفتاء قصير يتضمن أسئلة عن آرائهن في هذا الجهد المشترك، علمًا بأن الرفيقين عملا بشكل متساو على عدة مهام وأتم كل منهما نفس العدد منها، أسئلة بسيطة كـ “بنسبة كم في المائة ساهم كل من توم وبيل في اتمام تلك المهمة؟” أو “ما هو حجم الجهد الذي أعطاه كل منهما للعمل؟” أو “كم من الدرجات تعطي تقييمًا للقدرات الإبداعية لكل من توم وبيل؟” وصولًا إلى أسئلة بأهمية “ما هو شعورك تجاه كل من توم وبيل؟”، ثم بعد ذلك نجمع كل النتائج ونقيمها إحصائيًا.
فرضية العالم العادل
هنا تأتي النتائج لتقول إن هناك ميل واضح من الفتيات لإعطاء تقييم أعلى للشخص الذي حصل على المكافأة المالية، مهما كانت نتيجة هذا السحب العشوائي سوف يميل الخاضعون للتجربة، سواء في تجربة ليرنر أو ما تبعها من تأكيدات(3،4) على مدى عقود عدة، أن يقيموا صاحب الحظ السعيد، كان توم أو بيل، على أنه قد بذل جهدًا أكبر من رفيقه، أو كان أكثر قدرة على الإبداع، بل وأعطى الخاضعون للتجربة تقييمات إيجابية عن شخصية الرابح نفسه، كالقول إنه شخص أكثر حماسة أو إيجابية.
هنا يفترض ليرنر أن ذلك قد حدث بسبب ما نسميه بـ “فرضية العالم العادل(5) Just-world hypothesis”، وهي القول أننا، نحن البشر، نميل إلى النظر إلى هذا العالم على أنه مكان عادل، ما يعني أن كل فعل نقوم به، كان جيدًا أو سيئًا، يستدعي، بشكل ما، وبصورة أو بأخرى، نتيجة من نفس النوع، فأنت ما تستحق بسبب أفعالك، وفي التجربة قيّم الخاضعون العامل الحاصل على المكافأة على أنه أفضل لأنهم افترضوا أن حصوله على تلك المكافأة، وإن كان مصادفة بحته، إلا أنه يدل على أنهم -بالتأكيد- قد صنعوا شيئًا ما إيجابيًا ليعطيهم العالم تلك المكافأة.
بمعنى آخر، فإن فرضية العالم العادل هي آلية نفسية تقع في خلفية الكيفية التي يوجه الناس أنفسهم بها في البيئة الاجتماعية الخاصة بهم، وذلك التوجيه، كما يصفه ليرنر في كتابه الشهير “القناعة بعالم عادل The Belief in a just World”، يعطي مكون وظيفي مرتبط بصورة عن عالم يمكن التحكم فيه، أو يمكن التنبؤ بمستقبله، ومن خلال تلك الفرضية التي تقع في مركز أفكارنا نقوم بتأسيس خططنا المستقبلية طويلة الأمد، من أجل أن نحقق أهدافًا محددة، ونحصل على أشياء نريدها بسهولة ويسر ودرجة عالية من الاطمئنان، حيث تساعدنا فكرة “التحكم” تلك في تجاوز أية مفاهيم مخيفة قد تنتج عن تصور مقابل يقول إن العالم غير متوقع، أو لا يمكن التحكم به.
الشخص “أ” إذن، يقول ليرنر، سوف يحصل على النتيجة “س” إذا استوفى الشروط المسبقة المناسبة لكي يحصل على النتيجة “س”، لكن حينما نجد أن هذا الشخص لم يحصل على النتيجة “س” أو حصل على درجة أقل منها فإن هذا يعني أنه يستحق تلك النتيجة الجديدة لأنه لم يستوف الشروط المسبقة للحصول عليها، أو، دعنا نتأمل تلك النقطة قليلًا، لأنه استوفى الشروط المسبقة للحصول على “ص”، أيًا كانت كل من “س” و”ص”، جيدة، سيئة، مشينة، طيبة، ربح، خسارة.. إلخ. ولكن لأن تلك “الشروط المسبقة” هي شيء غير محدد ولا يمكن التعرف عليه، فإننا نلجأ لتعميمها وفقط نقوم بعقد مقارنات بين البشر لتأكيد فروق الاستحقاق تلك، لذلك إن أصبح أحمد ناجحًا وغنيًا فهو بالتأكيد يستحق ذلك لأنه، ربما، قد عمل بجد واجتهاد طوال عمره، لكن ماذا يمكن أن نتوقع حينما تكون النتيجة هي اغتصاب إحداهن؟
لماذا نلوم الضحية
هنا سوف نحتاج لتأمل تجربة أخرى(6) من تصميم ليرنر ورفاقه لكي نفهم سر القفزة الشاهقة التالية التي تأخذنا لها فرضية العالم العادل، في التجربة سوف نقسم 72 فتاة من جامعة كنساس لعدة مجموعات صغيرة، تتكون التجربة من فيلمين قصيرين مدة الواحد منهما حوالي 15 دقيقة، لكن القائمين على التجربة قد أوهموهن أن الغرض منها هو فقط دراسة القدرة على التعلم أثناء التعرض لضغط شديد، في الفيلم الأول تظهر فتاة مقيدة بكرسي، ويقف إلى جانبها القائم على التجربة ليسألها عدة أسئلة، لكن حينما تجيب تلك الفتاة إجابات خاطئة يقوم القائم على التجربة بصعقها كهربيًا فتتألم بشدة، بالطبع هذه الفتاة هي ممثلة قد جاءت للمشاركة في التجربة، وما يُفترض أن يظهر على وجهها من ملامح التألم والصراخ هو فقط لجعل الفتيات الخاضعات للتجربة يعرفن بوضوح أن هذا هو موقف غير عادل بالمرة.
بعد انتهاء الجزء الأول من التجربة يطلب إلى الفتيات إعطاء تقييم عن الضحية الخاضعة للصعق، لكننا قبل ذلك التقييم كنّا قد قسمنا الفتيات لمجموعتين، الأولى سوف تخير بين أن تُترك الفتاة لتستمر في العنف أو نغير طريقة التعامل معها، والثانية لم يكن لديها حق الاختيار، هنا سوف ترفض معظم الفتيات من المجموعة الأولى، بالطبع، الاستمرار في التجربة، ذلك تعذيب حقيقي، ويجب أن يتم إيقافه فورًا، وكان تقييم تلك المجموعة عن شخصية الضحية ايجابيًا.
بعد ذلك تدخل الفتيات المتبقيات من المجموعة الثانية مرة أخرى لمشاهدة الجزء الثاني منها والذي احتوى على فيلم مشابه، بعد ذلك نطلب إليهن إعطاء تقييم إضافي عن الفتاة، ويتضمن هذا التقييم أسئلة عن مدى كونها لطيفة، ذكية، ناضجة، أو وقحة مثلًا، وفي كل سؤال تحدد الخاضعات للتجربة درجة على مقياس من تسع نقاط بين الصفة ونقيضها، وفي تلك المرحلة الثانية سوف نقول لجزء من الفتيات المتبقيات أن تلك الضحية سوف يتم تعويضها ماديًا مقابل ما قدمته لعلم النفس من خدمات.
الآن تظهر المفارقة، لقد أعطت الفتيات، من المجموعة الثانية، نتائج سلبية بدرجة أكبر عن توقعاتهن لشخصية الضحية، إنها نفس الضحية التي قيمتها المجموعة الأولى إيجابيًا، وما يثير الانتباه بشكل أكبر هو أن الفتيات اللائي علمن أنها سوف تحصل على تعويض مادي قد أعطينها تقييمًا موجبًا تناسب مع حجم المكافئة، وكلما قلت المكافئة كان التقييم سلبيًا أكثر، وذلك يرجح صواب فرضية العالم العادل، فمع وجود التعويض كان توقع الفتيات أن الضحية هي شخصية عادية، ربما لا نعرف من هي، لكنها حصلت على ما تستحق، صعقات مقابل مبلغ مادي، أما الأخريات فتصورن أنها تتعرض للصعق لأنها تستحق ذلك، ربما لأنها شخصية غير لطيفة، غير ناضجة، وقحة بدرجة ما، أو ربما لأن تلك الصعقات قد تحثها على التعلم، أو أنها تستحق ذلك لأنها لم تجب إجابات صحيحة.
في تلك النقطة يظهر الجانب المظلم لفرضية العالم العادل، فهو قد يستخدم، من قبل بعض الناس، لإقناع ذواتهم أن الضحية، تلك التي تتعرض بوضوح لظروف غير عادلة، تستحق تلك الظروف لسبب ما، هنا لا يمكن إلا أن نتذكر تلك الحالة الشهيرة لفتاة مصرية قامت قوات الأمن بسحلها وتعريتها قبل عدة سنوات في ميدان التحرير، وبدلًا من شجب ما حدث ورفضه بشكل عام خرج أحدهم بتساؤل مفاجئ يقول “ايه اللي ودّاها هناك؟”، وكانت المشكلة أن هذا الرأي قد وجد بعض الرواج لدى الناس، فقال البعض أنها “تستحق” ما حدث لها، العالم عادل بطبعه من وجهة نظرهم، إذن لم يكن عليها أن تذهب إلى تلك التظاهرة وهي فتاة تعرف أن مشكلات كتلك قد تحدث، أو ربما قد حدث ذلك لأنها فتاة سيئة السمعة، لقد حصلت الفاة “أ” على النتيجة “س” لأنها استوفت شروطها، دون جدل حول “عدالة” ما حدث لها نفسه.
تبرير العنف
في الحقيقة، يمكن لنا مد الخطوط على استقامتها حول تلك الفكرة من أجل الوصول لموضوعات عدة، حيث يمكن لفرضية العالم العادل، على نبلها الظاهر، أن تكون السبب في تفسير قدرة البعض على تبرير العنف، إعدام البشر في المعتقلات، و-على مستوى أكثر عمقًا وعمومية- تبرير أحوال الشعوب في الدول النامية بأنهم يستحقون ذلك، يستحقون إدارات فاسدة متتالية لأنهم شعوب جاهلة، وهذا هو مصير الشعوب الجاهلة، يمكن هنا أن نشير إلى دراسات(7،8) أخيرة أوضحت أن هؤلاء الذين ظهرت لديهم قناعات كبيرة بفرضية العالم العادل كانوا أكثر عرضة للإعجاب بالزعماء السياسيين، وبالمؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة مهما كانت متسلطة، وأن لديهم مواقف عنصرية تجاه الأقليات العرقية والاجتماعية، ومواقف سلبية تجاه قضايا المرأة، وهم كذلك يقيّمون الفقر كمشكلة الفقراء فقط، والتنمر كمشكلة ضحايا التنمر. وعلاوة على ذلك، فإنهم يشعرون(9) بأنهم أقل حاجة إلى الانخراط في أنشطة تغيير المجتمع أو للتخفيف من محنة الضحايا في ظروف اجتماعية وسياسية قاسية.
ورغم ما تعرضه فرضية العالم العادل من جدل فلسفي حول طبيعة العالم كانتظام أو فوضى، إلا أنها تدفع كذلك بانتباهنا لتأمل مشكلة أخرى هامة، وهي أننا، نحن البشر، نحاول تجنب عدم اليقين(10) قدر إمكاننا، نحاول تجنب فكرة أن العالم اليومي الذي نعيشه يخضع بشكل أكبر بكثير مما نتصور للاحتمالات التي لا يمكن لنا التحكم فيها مهما بلغنا من قدرة على الفهم، ذلك لأن تلك، ربما، هي طبيعة العالم، ونتوهم في المقابل أن لنا القدرة على التحكم في كل تلك الاحتمالات، مهما كان التحكم فيها غير ممكن بطبيعة الحال.
إذن قد تكون إجابة البعض على سؤالنا الأول عن الفتاة التي تعرضت للاغتصاب، ضمن إجابات أخرى من نطاقات مختلفة بعلم النفس، هو أنها “تستحق ذلك” لأنها، مثلًا، كانت ترتدي كذا وكذا، أو لأنها قررت الذهاب إلى ذلك الحفل المتأخر، أو أي سبب آخر يمكن لهم أن يستخدمونه كمبرر، وما يحدث هو أن البعض يقوم بتعديل الواقع من حوله، عبر اهتمامه الانتقائي، فينحاز تأكيديًا Conformational Bias لجمع الأدلة التي تؤكد أن فرضيته عن العالم العادل صائبة، وعقلانية، بينما هي ليست كذلك.
حيث أن ما يحدث هو محاولة منهم، فقط، لإبقاء العالم كما هو عليه، حيث، كيف يمكن أن نعيش مع فكرة أن تُغتصب إحداهن دون سبب؟ كيف يمكن أن نبرر حقيقة أن تلك الآلاف المؤلفة ممن يتعرضون للقتل يوميًا لا ذنب لهم في ذلك؟ ذلك شيء قد يتسبب في الكثير من الرعب ولا يمكن للبعض تقبله إلا باتخاذ حيلة، أو قل مناورة، دفاعية، غير واعية، تقول إن هؤلاء الضحايا، لسبب ما، يستحقون ذلك، وأنه لا يوجد مكان للفوضى في هذا العالم، كل شيء منتظم. ولكن، هل هو كذلك بالفعل؟!