بابكر عباس محمَّد يكتب : الليل» .. في الغناء السوداني..!!
«الليل» .. في الغناء السوداني..!!
بابكر عباس محمَّد
قال عزَّ شأنه وجلت قدرته في محكم تنزيله: «والليلُ إذا سجَى»، أي أوغل
وتمدد، ولما كان الليل آية يقرأها الخلق ويتبصرونها، فإن أهل الشعر
والغناء في السودان، شأنهم شأن الآخرين مَثَلَ لهم الليلُ بمساحته
الممتدة من مغرب الشمس إلى مطلع الفجر ميقاتاً للتأمل والتدبر والتفكر
والتذكر، لذلك فقد سبحوا في بحوره وغاصوا في أعماقه بأرواحهم الشفيفة
فأخرجوا كنوزاً من الأدب، وسافروا خلاله بخيالهم الجامح وبصيرتهم المتقدة
فأودعوا مكتبة الغناء السوداني كنوزاً من جميل النظم والكلم، خاصة أولئك
الرواد من أهل الحقيبة أمثال الشاعر المبدع صالح عبد السيد أبو صلاح،
والذي حين صاح: «يا ليل أبقالي شاهد على نار شوقي وجنوني» فقد فتح حينها
للآخرين آفاقاً ومجالات واسعة للتذوق والالتفات لما يحويه الليل من
أسرار.. فتوالت جماليات أغاني الحقيبة في الكثير من الأغنيات الخالدات:
«الليل الليل يا جمال الليل» و«في الليل الهاجع غرد يا ساجع» و«يا نجوم
الليل .. الليل أليَّل» و«حبي بيك ليلتنا ليلية.. ليلة كانت من جنان
رضوان.. ليلة فيها الحظ بسّم لىّ والسرور حفاها بالرضوان» و«نسايم الليل
روحي سلمي وللبريد روحو كلمي»، ولتنداح بعد ذلك عشرات الأغنيات الداعية
للوقوف مرات ومرات عند مفرداتها العذبة الجميلة: «إن تريدي يا ليالي
تسعدينا»، و«يا حبيبي أقبل الليل علينا» لعثمان حسين، و«الليل ما بنومو»
للكاشف و«الليل الهادي وستار يا ليل» لشرحبيل أحمد، و«في عز الليل»
للكابلي، و«الليل يهوِّد بىّ يبقى تلت أخير» للجابري و«عود لينا يا ليل
الفرح» للطيب عبد الله، و«يا ليل البعد يا مضيِّع سنيني معاك» لزيدان،
و«أنا سهران يا ليل» لحسن عطية، و«ويا عيون إنتي لون الليل» لمنى الخير،
و«سهرنا الليل وكملنا» لأبو عركي البخيت، و«في سكون الليل دعنا نجتلى
الصمت الرهيب» للعميد أحمد المصطفى، «وليل الغريب» لعبد العزيز المبارك،
و«في ليل الشجن والشوق» لأنس العاقب، و«ليلنا يطول مع الهمسة»لإبراهيم
حسين، و«الدنيا ليل غربة ومطر» لمصطفى سيد أحمد» و«لما شفتك ليلي ضوا
وبقَ نور» لمحمد الأمين. والعديد من الأغنيات الباهرة التي تحتاج لمساحة
واسعة للغوص فيها.
ويظل الليل بسحره وغموضه وسكونه وهدوءه المشوب بالكثير من اللا متوقع
مدعاة للتبصر والتفكر في هذا الكون الواسع الرحيب الذي يسكن خلال هذا
المدى الزمني، والذي هو عند البعض موالاً للعشق، وعند آخرين عبادة للواحد
الأحد والتدبر في مخلوقاته، وعند كُثر، هو ليلٌ طويل طويل، يتمنون أن
ينجلي.
لذلك فإن من لم يدرك عظمة الليل وسحره وأسراره حري به أن ينطبق عليه قول
شاعر الدوبيت:
«الليل والنهار واحد على العميان.. واللوم والشكر واحد على السجمان»
.. فهل نبقى من أصحاب البصيرة والتبصر، من الذين يتفكرون في خلق السموات
والأرض ويقولون: ربنا ما خلقت هذا باطلاً.. أم يطول الإنتظار؟.