انشطار الحكايا… التئام المضمون
في رواية جمجمتان تطفئان الشمس
قراء ألأستاذ: أحمد أبوحازم
للروائي والقاص منجد باخوس
قراءة احتفائية
من المؤكد أن هنالك فرقاً كبيراً بين القراءة النقدية والقراءة الاحتفائية، فالقراءة المنهجية تتعامل مع العمل الإبداعي بوصفه ظاهرة لها مبررات وجود، ولها عوامل استمرار، ولها مكونات داخلية وأخرى خارجية، وتسبح وسط ظواهر محايثة لها، فوقية وتحتية وطرفية، تساعد على دفعها وبنائها، وكذلك لها ماضٍ وحاضر ومستقبل.
ولأن العملية النقدية المنهجية، عملية معرفية، فإنها تقوم على أساس التعامل مع العمل الإبداعي بتفكيك مرموزاته، عبر منهج فلسفي يتبعه الناقد الحصيف، لاستقصاء وملاحقة البؤر المركزية، لتبيان اتجاهات الخطابات المرسلة، وفك طلاسم هذه الخطابات، للإلمام بحمولاتها الفلسفية والمعرفية، وللإحاطة بالمبررات الكلية للعمل الإبداعي، من خلال قراءة متأنية وفاحصة، تستهدف الأطر المكونة للنص الجمالي من الخارج ومن الداخل، ومعرفة محايثاته، ومحاورة هذه المحايثات، عن طريق تحليلها وربطها بالعمل المراد قراءته، عبوراً بمكونات قالبه الجمالي، والبني السردية الثاوية فيه، والاتجاهات الفنية للغته، بملامسة الظاهر والمضمر من هذه اللغة، التي ساهمت مع عوامل أخرى متضافرة في نسيج محكم لصنع عالم متخيل، يُلزمنا آن القراءة بالتعامل معه كلياً، عبر الصورة الجمالية، وملاحقة دلالاتها الإبداعية، والمعرفية، والثقافية، والتاريخية، كل ذلك بغية الحصول على مستمسكات فعلية، تعمل على مساعدة ودعم عملية القراءة النموذجية، والمساهمة في بناء علامات تأويلية، عبر ربط هذه العلامات بالعلاقات القائمة بينها، لتنشأ بعد ذلك جمالية التلقي، والتي يستطيع عبرها المتلقي أن يتعامل مع فلسفة العمل الإبداعي، ومحاورة اتجاهاته المعرفية والفلسفية والإبداعية، كما أن هذه الرؤى العلمية للناقد، تساهم في أن يتموقع المتلقي في مقعد التأويل، بالطريقة التي تمكنه من بناء معرفة موازية للنص الناقد، والنص المستهدف بالعملية القرائية والنقدية، بمعنى أن العملية النقدية، تساعد المتلقي في متعة القراءة من خلال زاوية نقدية، وأخرى جمالية.
أما القراءة، الاحتفائية فهي قراءة تمهيدية، ذات أدوات أولية، تقوم على أساس التحليل الأولي عبر التعامل مع ثقافة النص، وتعتمد على نظرة نقدية أولية، تتخذ من الجمالي في فضاء النص ومقولاته، مساحة لها للاستبصار والتخيل، لخلق جمالية التلقي، كما أنها تساعد الناقد فيما بعد، للتعامل مع النص الإبداعي، كبنية جمالية، ومعرفية، وفلسفية أولية، قابلة لإشعال طاقات النقد والتلقي، ومحفزة للقارئ أياً كان موقعه، للتحاور مع النص الإبداعي، وفق موسوعة التلقي لديه حال الجلوس على طاولة التلقي.
والقراءة الاحتفائية كذلك، تدفع للشروع النشط في التعامل المباشر مع النص الإبداعي، وهي أيضاً تقوم بدفع وتوريط القارئ، للمساهمة في اكتشاف الغامض من العلامات، وتحفزه للقيام بعملية قرائية جادة؛ وهي بذلك تصنع دوائر من التشويق الواعي وليس المضلل، بأن هذا العمل يستحق التعامل معه بشكل قرائي بنّاء.
وبناء على ما تقدم، وإستناداً على العنوان (انشطار الحكايا… التئام المضمون. في رواية جمجمتان تطفئان الشمس. للروائي والقاص منجد باخوس.. قراءة احتفائية)
فإننا” نود أن نقول إن عملية القراءة الاحتفائية هذه، تقوم على متابعة الحكايا المنشطرة وربطها بالحكاية المركزية، لخلق مضمون ملتئم. ولا يفوت هذه القراءة أن تلامس تقنيات الكتابة في هذه الرواية، وكذلك ملامسة الثقافة الداخلية للنص ومتابعة الصور الجمالية، وربط كافة العلامات الثاوية في هذا النص ببعضها، لتحفيز عملية القراءة لدى المتلقي، ولكن تمهيداً نقول بأن الأدب ليس مجرد تسجيل دقيق لما يحدث أو سيحدث، بل هو اكتشاف واستبصار ورؤى جمالية لا تدخل في التوثيق الاجتماعي بما يرومه دارس الاجتماع؛ وكذلك لا تلج التاريخي بما يفهمه دارس التاريخ؛ ولكنها تقوم بقراءة محيط وتداعيات الحدث، وتقوم بخلخلة مبررات قيامه، وتحفيز الذهنية القارئة على القيام بتحليل ما هو راهن، ورفض مسلماته التي تقود بشكل ما إلى محو الكائن البشري، وتمزيقه، وتحطيم مقدراته الإنسانية، لصالح بناء عالم زائف.
هكذا تحاول رواية “جمجمتان” أن تشير إلى الكارثة، وتحذر من مغبة تداعياتها.
فرواية (جمجمتان تطفئان الشمس) تحلق بنا فوق عالم حيرة الكائن البشري، الذي (ضيّع حياته، وضاعت آماله على هامش الحياة نفسها، وظلّت تصاحبه الأحلام ولا يقدر على ترجمتها إلى واقعٍ ملموس، فيعيش في غربة داخلية وخارجية معاً)، كما جسدته مجمل شخوص الرواية، وهي تخرج من غمار أحداثها متشظية وممزقة ومأزومة.
وعبر ذلك يصور لنا الكاتب آلام الكائن البشري وتيهه وأوجاعه، وكذلك يصور لنا الكاتب الأوهام والتطلعات المنهارة لهذا الكائن البشري، محاولاً عبر إبداع رفيع ورصين تشخيص الداء، ليضعنا أمام الأمر الواقع، لنتذوق مرارات حنظله، ونتجرّع علقمه المر، والموغل في قساوة لا نهائية، والكاتب إذ يفعل ذلك، يصور لنا أيضاً هذا الواقع عن طريق الأسطورة، ليضعنا أمام وجهات نظر عميقة الدلالة، إن لم نقل فلسفة حيّة نابعة من واقعنا المعاش.
الرواية متشابكة الأحداث والأزمنة، وذات أبعاد تدور حول الإنسان، في صراعه مع ذاته، ومع الحياة، ومع الآخر. ولعل أهم ما يمكن الإشارة إليه، هو قضية الاغتراب الداخلي والخارجي عند الفرد الذي يعيش على حافةp الحياة، بعيداً عن سيرها السريع المتجدد، في صعود سلمه الحضاري، ونشدانه للطمأنينة، والسلم، والرقي، والحرية. هذا الاتجاه سلكته الرواية في عرض الصراع بين الإنسان والعالم، في عصرٍ أو لحظةٍ ما، وهذا ما تعبر عنه الرواية في جوها الأسطوري الرمزي المعقّد.
تقنياً تعتمد الرواية على طريقة دائرية لعرض أحداثها، وسرد سير شخوصها، تبدأ من حيث انتهت، وتنتهي من حيث بدأت، وبذلك يمكن قراءتها من النهاية إلى البداية، دون أن يفقد النص متعته وحرارته وحيويته، فصاحب (اللفافات) هو سارد مركزي يتحكم في كل خيوط الرواية، عبر سرد متصل أحياناً، ومتقطّع أحياناً أخرى، يعرض فيها مصائر الشخوص بوصفها مسروداً لها، ومسروداً عنها في نفس الوقت، عبر موقعين تتموقع فيهما هذه الشخوص، موقع (المساعد الفعلي للسارد المركزي) وموقع سارد (ثانوي)، وكلا الموقعين يقومان بعملية تكامل الحكاية، وإتمام مهام السرد؛ فالموقع المساعد تقوم به شخصية (جورين)، التي تتلقى الحكايات عبر لفافات، يرسلها السارد المركزي، فيتم عرض الحكايات، متصلة أو متقطّعة، ليستمر الحال هكذا، حتى نهاية النص، لتستلم هذه الشخصية مهام السرد من جديد، بعد تلاشي الشخصية المركزية (صاحب اللفافات) لتصبح هي أيضاً صاحبة لفافات، وكذلك هناك شخصية (إستيلا) التي تقوم من خلال مذكراتها، بعرض حكايتها الخاصة، والتي ترتبط مجملاً بالحكاية المركزية، أما الشخصيات الثانوية، فهي شخصية (جبرين) و(عشة بت عجبنا) و( فر يال الحبشية) هؤلاء يقومون بعرض حكايات مجتزأة من الحكايا الكلية؛ فاذا قمنا بانتزاع حكاية أيٍ من الشخصيات الثانوية، نكون قد هدّمنا النص كلياً.
وبهذا تعتمد التقنية على حكايات منشطرة عن الحكاية المركزية، بحيث أن كل حكاية، تسبح في سديم عالمٍ يبدو من الوهلة الأولى، مختلفاً عن العالم الكلي للرواية، ولكن حالما نكتشف أن هذه الحكايات المنشطرة، ما هي إلا اتجاهات ساقطة من الحكاية الكلية، لتساهم في عملية النسيج الكلي للرواية، بالتئام الأحداث وربطها ببعضها البعض.
فالحكاية المركزية صاعدة بطريقة عمودية، يرويها صاحب اللفافات، أما الحكايات المنشطرة، والمتعددة الاتجاهات، والتي ترويها شخوص مساعدة، وأخرى ثانوية، تتقاطع أفقياً مع البناء السردي الصاعد، لتقوم بعملية نسيج جمالي، كما لو أنها تقوم بعملية غزل قطعة قماش دقيقة النسيج، مكملة التداخل في خيوطها، لتشكل إجماليَّ النص في تجلياته الجمالية القصوى.
كما تعتمد التقنية على مداخل أولية، مقتطعة من مقولات شعرية وفلسفية، تتخذ محل المدية أو السكين، التي تقوم بعملية تشطير الحكاية الكلية، إلى قطع جمالية تمثل اتجاهات النص الأفقية، وكذلك تقوم هذه المقولات برصف الفلسفة الكلية لكل حكاية، وكذلك تقوم بوضع اللبنة الأساسية لثقافة النص الداخلية.
فاللفافات تحل محل الخطابات السردية، والتي يتباين فيها الواقع والأسطورة، اللذان يتحكمان في مصائر الشخوص، عبر نسقين، أحدهما صاعد، وتمثله (جورين) و(إستيلا) والآخر نازل، وتمثله (عشة بت عجبنا) و(جبرين) و(شيخ المعسكر) كل ذلك عبر الرمزية المتمثلة في استخدام اللفافات كنافذة لرؤية العالم، والسمة الأساسية لهذه التقنية، هي الاعتماد على الأسطورة، كنقطة تحول من موقف إلى آخر، ومن عالمٍ واقعي، إلى عالمٍ خيالي؛ فالأساطير الواردة في هذه الرواية، ليست هي الأساطير التي نعرف، إنما هي أساطير مبتدعة خصوصاً لتساهم في البناء السردي، وتخدم مبتغاه، وتكثف الرؤى تجاه العالم من خلالها، وتجعل من الحرب أسطورة أخرى، أقوى من كل أساطير العالم، كأنما يريد النص الإفصاح بأن ما نعيشه في الواقع، ليس واقعاً حقيقياً، وإنما هو الأسطورة بعينها، ما يجعلنا نتعامل مع الأشياء بطريقةٍ مقلوبة.
وتتخذ التقنية من نظام الدائرة، إطاراً جمالياً لها، من خلال موضوعة الموت، ومضامين هذه الموضوعة في ذهن الكائن البشري، إذ أن الموت هو النقطة الجوهرية التي نهض عليها النص. ما يعزز هذا الافتراض، هو تلك البدايات الاستهلالية، والتي يفتتح بها الكاتب الفصل الأول من الرواية؛ فنجد مثلاً مقولة (الموت هو الميزان الأوفى للأحياء) للشاعر حاتم الكناني، وكذلك في الفصل الرابع الذي تتصدره مقولة الكاتب الكولمبي المعروف جبرائيل جارسيا ماركيز (ثمة موتى يديرون حياتنا دون أن نستطيع فعل شيء حيالهم)، أما الفصل الخامس والسادس صُدِّرَا بمقولتين للكاتب على التوالي: الأولى التي تقول: (خلق الكائن البشري كي يعكس الوجه البربري للآلهة ـــ”ليقظة أيضاً هي موت آخرـــ)؛ والأخرى (الحياة: كأن تمشي حافياً، عارية قدماك على أوغاد من شظايا زجاج متكسر؛ أو كأن تحمل رئتين محشوتين بالدمامل). كانت هذه الفصول المتوّجة بالمقولات المذكورة تتصدر مقولات صاحب اللفافات الذي تأتينا حكاياته من عوالم ما بعد الموت؛ أما الفصلان الثاني والثالث اللذان لا تتصدرهما مقولات، فتحكيهما شخوص النص وهي تتسربل من واقعها اليومي المعاش؛ فتتصاعد الحكايا في نسقيها الصاعد والنازل عبر التحام الأسطوري والواقعي.
إذن فالموت هو البؤرة الخفية، التي ترشح منها الحكايات، لتتدفق من خلال سارد يأتي من موقع خفي، ليسرد أخبار الشخوص، وينبئ بما هو قادم من أحداث، ثم يعود إلى موقعه الخفي مرة أخرى، لتروي الشخوص حكاياتها الواقعية، هكذا حتى خاتمة النص، ليسلم شخصية جورين موقعه الخفي هذا، لتبدأ هي الأخرى سردها المتصل، كأنما الموت في هذه الرواية، ليس عملية انفصال عن العالم، وإنما هو رابط حياتي آخر أقوى من الحياة نفسها، خاصةً أن الراوي الضمني الذي نشير إليه هنا بـ(صاحب اللفافات) من نافذة الموت، قد رحل مبكراً قبل قيام النص المقروء الآن، والموسوم بـ(جمجمتان تطفئان الشمس) ومن زاويته الخفية تلك يقوم بطرح الحكايات، عبر لفافات تتلاشى بعد قراءتها مباشرة، أو تُحرق بحسب طلبه بعد الفراغ من معرفة مضمونها، كأنه يتبرأ من عنف هذه الحكايات المكونة لنص (جمجمتان) ويورِّط فيها الشخوص، ثم يستمتع بمراقبتها من نافذته الخفية تلك.
أما الثقافة الداخلية لرواية (جمجمتان تطفئان الشمس) فنجد أن الكاتب اتّبع فيها شكلاً أسطورياً يمتزج بالواقع عن كثب، وهذا المزج بين الواقعية الرمزية، والمثالية الأسطورية، ساعد على تصوير أبعاد الصراع الداخلي للرواية، وكذلك برر وجود علامات لا توجد مطلقاً في الواقع، مثل (البحر) في جبال (النوبة)، و(البحر) في (كبويتا) بشرق (الاستوائية)، ولكن ثقافة النص والعوالم الأسطورية التي يقوم عليها، تجعل ذلك مبرراً، انطلاقاً من تعاملنا مع الشخصية المركزية (صاحب اللفافات) فهي شخصية أسطورية، تسرد حكايتها من ما وراء الحجب، مسربلة بغموضها، لتحكي لنا غموضنا وغموض مصائرنا، ومن هنا فإننا إن صدَّقنا هذه الشخصية التي تخلَّقت وفقاً لمنطقية النص بالالتحام بين الأسطوري والواقعي – وهذا أمر لا بد منه من باب التعامل مع النص – فما الذي يجعلنا لا نقبل وجود (البحر) في (كبويتا) وفي (جبال النوبة)؛ لأن ثقافة النص تريد التحليق بنا عبر الأزمنة، وفوق الأمكنة، للإلمام بأحداث وشخوص الرواية، ولأن الخطاب الأساسي لهذه الرواية يستهدف المكان والزمان، جغرافياً، وتاريخياً، واجتماعياً، وثقافياً.
وقد اتبع الكاتب في عملية السرد، الجمع بين المنهاجين: (الموضوعي والاستبطاني) حين عمد على اتجاهين للحكاية، (حكايات واقعية) وهي حكايات الشخوص حينما تعرض مآسيها، ويظهر هذا جلياً حين استطاع الكاتب، أن يحول الصراع الداخلي، إلى عرض يقوم على تقديم المعلومات، في تسلسل داخلي، وهذا الاتجاه يمثل المنهج الموضوعي؛ أما المنهج الاستبطاني، فيظهر حين عمد إلى ضمير الغائب، بدلاً عن ضمير المتكلم، واعتمد أيضاً على شخصية أسطورية، حين يقوم صاحب اللفافات بإتمام الناقص، والغامض، وغير المتوقع من حكايات هذه الشخوص المأزومة.
أما عن توظيف الثقافة السائدة، فقد استطاع الكاتب أن يوظف قوانين الحياة المعاصرة، ضمن مضامين قديمة كالأسطورة، والتصوير الخيالي، لذلك تجده قد وفق في إثبات عنصر التشويق.
فثقافة النص تشي بصناعة عالمٍ متخيل، بخلاف العالم الذي نعيشه، وبالتالي فهي ترسم عوالم وجغرافيا، تتطابق مع العوالم الداخلية للنص، فالبحر الوارد هنا في هذه الرواية، والذي نجده بصورٍ عدة، ليس هو البحر بمعناه المعروف، وإنما هو ملاذ أسطوري افترضته ثقافة النص، وقد نجحت في توظيفه التوظيف الأمثل، فالشحنة الأسطورية الكثيفة، التي تشغل فضاء الرواية بأكملها، جعلت ذلك منطقياً، وهذه هي فطنة الأدب وقوة الإبداع.
ختاماً فإن هذه الرواية، تحتشد بصورٍ سردية كثيفة، ذات دلالات متعددة، وابعاد غرائبية، تضفي على النص ملمح جالي يميزه عن غيره من الروايات التي تتخذ من الاسطوري جواً لها.
فنجد الكاتب منجد محمد المصطفى، قد تعامل مع الصوره انطلاقاً من المكان، كخشبة مسرح تدور فيها هذه الاحداث العبثية، ف (المعسكر) وهو المكان الرئيس الذي سُرِدت فيه تفاصيل الرواية، والكاتب هنا تعامل مع (المعسكر) كلوحةٍ جدارية، تصور لنا المكان بأحداثه، وبتمظهرات شخوصه المتباينة في ملامحها، والمتقاطعة في مصائرها بنهاياتها المفجعة، كما لو انه إستوحى ذلك كله من لوحة (الجرونكا) للفنان العلمي (بابلو بيكاسو)، الذي صور لنا الحرب الاهلية في اسبانيا، من خلال هذا العمل الفني الرفيع.
ومن خلال جدارية منجد، نلحظ ان هنالك ثلاثة اتجاهات، تشكل النظيم الكلي للوحة المرسومة عبر رواية (جمجمتان) وهي: (عنف الصوره.. و حميمية الصوره.. ومُزق الصوره). وعلى خلفية اللوحة، نرى مغيب الشمس، الذي يظهر عبر دلالات لونية، يغلب عليها اللونين، الاحمر القاني، وهو لون الدم، واللون الاصفر، وهو دلالة الموت والذبول، ومن خلال ذلك، يصور لنا عنف الصورة، والذي نكتفي فيه بمشهد واحد، هو مشهد الجد (صارقيل) وكلبه، بداية صفحة(163وحتى منتصف صفحة166) حين توحّدَ مع كلبه، في خصيصة الخوف والدهشة العارمة، من فرط مشهد الموت والتنكيل، الذي يمارسه الكائن البشري، ضد كائن بشريٍ آخر، في عبثية لا تصدق، اما في حميمية الصورة، فنرى العلاقة القوية بين (جورين) و (استيلا) حيث خصّت الاخيرة جورين، بفضِّ مذكراتها، ومعرفة ما جرى لأسرتها، و خصتها كذلك ببعض اسرارها الخفية، وكذلك العلاقة الحميمة بين (جورين) و (جبرين) الممزَّق، في محاولة للبحث عن ملاذ آمن، ينشده الطرفان، أما عن مُزق الصوره، فنرى المصير القاسي، الذي آلت إليه عائلة ( إستيلا) وهي تتساقط، الواحد تلو الآخر، في مصائر عنيفة، بعد ان كانت مجتمعة حول بعضها، تحويها ذكرياتها الجميلة، التي تتجلى في صورة العائلة المتماسكة، ويبدأ تمزق الصورة، بدءً باختفاء الاخ الأصغر، الذي ذهب إلي الصيد، قبل وقوع الكارثة، وبالتالي فقدانه إلي الابد، ومن ثم اختطاف الاخت واغتصابها، ثم إندغامها في مصيرٍ مجهول، والاب الذي مزقته البنادق ‘لي اشلاء، والام التي قتلها الظمأ، والجدة التي انهكها التعب، واودى بحياتها، ثم (استيلا) نفسها بعد هروبها من المعسكر إلي يوغندا، وبيعها إلي دكاكين الدعارة لتتمزق نهائياً.
وكذلك نرى من هذه الزاوية ( فر يال) الحبشية، التي تم تسليعها وهي حية، عبر الاغتصابات العديدة التي تعرضت لها، ثم موتها تحت وطأة هذه الاغتصابات، وجثمانها الذي ظلّ زهاء العام، داخل المشرحة، ليباع كقطع غيارٍ بشرية، مثله مثل أي سلعةٍ أخرى.
ختاماً وبهذه المشاهد الفظيعة، استطاع منجد باخوس، ان يوضح لنا محنة الحرب، والتشظي الذي تحدثه في الوجدان الانساني، وبالتالي استحق الكاتب وبجدارةٍ، ان نطلق عليه لقب (بيكاسو) الرواية السودانية، وكذلك استحقت روايته، ان نطلق عليها (جرونكا) الرواية السودانية.