“ام صيقعون الجاك” .. النيران تلتهم مئات المنازل .. الاتهامات تطال ” الجن ” وعوامل الطبيعة والاهالي يقاومون بإستلهام التاريخ وقوة الإرادة .. !
ام روابه _ عبدالباقي جبارة
مع بزوغ فجر الاحد العاشر من ابريل الجاري تحاوزت سيارتان تحملان وفدا اعلاميا من مختلف وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة تجاوزت مدينة الدويم التي ترقد على الضفة الغربية للنيل الابيض متجه صوب ديار ” قبيلة البزعة ” وقراهم التي تتناثر على تخوم ارض ” الباجا ” التي تمتد من شمال شرق ولاية شمال كردفان وحتى ضواحي مدينة دنقلا شمال السودان الهدف من الرحلة هو الوقوف على حجم الكارثة التي ألمت بواحدة من اكبر قرى البزعة وهي قرية ام صيقعون الجاك التي تتبع لوحدة ودعشانا الادارية محلية ام روابه ولاية شمال كردفان ..
قصد ربان الرحلة هذا التحرك في الوقت المبكر تفاديا لشمس ” ابريل ” الغائظة ولا سيما نحن نعيش العشر الاوائل من رمضان ، وكان من خطط لهذه الرحلة هدف مشاركة الاهالي في تلك المناطق تفاصيل كل مأساتهم حيث تعاني كل المناطق في تلك الديار من شح مياه الشرب او انعدامها كليا في فصل وإن وجدت تكون لمن استطاع لها سبيلا من ميسوري الحال هذه بالنسبة للمياه المستجلبة ب ” التناكر ” من النيل الابيض او ضواحي ام روابه مع وجود بعض الآبار الجوفية ذات المياه المالحة وهي ذات الاستخدام الاغلب للفقراء والمساكين وتزاحمهم فيها الثروة الحيوانية وهي في الغالب تتعرض للاعطال باستمرار اما بسبب قطع الغيار باهظة الثمن او ازمات الوقود وإرتفاع اسعاره .. إختصار والمجمع عليه كل ما يكسبه مواطن تلك الديار من عائد الزراعة المطرية يصرف جله في جلب الماء صيفا .. بل ويستدين على الموسم القادم ..
في ما يتعلق بالرحلة رويدا رويدا تجاوزت السيارات سهول النيل الابيض ذات التربة اشبه بالطينية ودخلنا الحدود المتنازع عليها بين ولايتي شمال كردفان والنيل وهنا تصبح كل البيئة واحدة وكذلك المناخ والتربة الرملية والقيزان ” التلال الرملية ” التي عرفت بها شمال كردفان ” ثم ما لبسنا ووجدنا انفسنا في ” لجة ” الباجا الارض المنبسطة والممتدة على مد البصر وهي تتمتع بمناخ السافنا الفقيرة ” حار صيفا وبارد شتاءا ” .. مع تناثر الشجيرات الشوكية بجانب شجر المرخ والسيال والارقسي وحشائش المحريب والحسكنيت وغيرها من بقايا روس السمسم والدخن والبطيخ ومخلفات الزراعة الموسمية للموسم الماضي .. وفي هذا الوقت تظهر ” الباجا ” وجهها الكالح عكس الخريف الذي تلبس فيه حلتها الخضراء وتصبح جنة الله في الارض وتعود لها الطيور المهاجرة وقطعان الماشية وتدب الحياة في اوصالها ..
ام صيقعون الجاك :
في تمام الثامنة صباحا ناخت راحلتنا في ديار حاج بلال الرجل الذي يعتبر ابرز رجالات الإدارة الاهلية حتى رحيله في أواخر القرن الماضي .. حيث كان منزله مركزا وملتجاءا لكل حكام شمال كردفان والمركز الذين يستهدفون تلك المناطق فيغمرهم بكرمه وحسن الضيافة دون مطلب سلطوي او مادي فكان هو سلطان نفسه واهله بكرمه الحاتمي واخلاقه الرفيعة فكان محور إلتقاء اهله وعشيرته وكل قبائل تلك المنطقة حتى رحيله وترك أثره الطيب .. ومن ابناءه الدكتور احمد بلال عثمان الذي اصبح ” تندل ساس يسوس ” الذي دانت له الوزارات منذ بواكير شبابه في العام ١٩٨٧م وحتى اواخر حكم الانقاذ حيث شغل وزير دولة بوزارة الصحة في عهد الديمقراطية الثالثة .. وذهب للخارج معارضا منذ بزوغ فجر الانقاذ ” المشؤوم ” وعاد رئيس لوفد مبادرة الشريف زين العابدين الهندي ثم اصبح وزير صحة اتحادي ثم مستشارا لرئيس الجمهورية ، ثم وزيرا للثقافة والاعلام وبعدها وزيرا للاعلام واخيرا وزيرا للداخلية حيث ضرب الرقم القياسي في الاستوزار وكأن هذه الوزارات ارادت ان تثأر لنفسها من زهد والده في السلطة ..
لعلنا نورد هذه المقدمة عن قرية ام صيقعون الجاك ونحن نوثق لتاريخ هام لقرية سودانية تركت اثرها في خارطة تاريخ السودان .. ام صيقعون الجاك بها مدرستين اساس بنين وبنات ومثلها ثانوية بنين وبنات ومركز صحي اهلي وفيها سوق اسبوعي اي يوم الاحد من كل اسبوع اهتم اهلها بالتعليم مبكرا حيث بها الآن المئات من خريجي الجامعات وبينهم حملة الدكتوراة والماجستير .. القرية طبق اهلها فيها تخطيط القرى وهي شوارعها منتظمة ..
نزلت راحلتنا في ديار الشاب الوجيه والطموح رجل الاعمال وكيل نظارة البزعة الوليدة مكي فضل الذي اصبح منزله علامة فارقة في تلك الديار وهو ينشئ عمارتين اثنين متعددة الطوابق في تلك القرية النائية في بادرة تعتبر محمودة وهي نقل المدينة الى الريف بدلا من تريف المدن وهو بذلك يبعث برسالة مفادها بان الانسان هو يصنع التمدن وليس المدينة هي التي تصنع الانسان وهو مصدر فخر وسط اهله دون حسد وبذلك يقدم فوائد جمة لاهله وهو يكرم وفادة ضيوف المنطقة ويعيش وسط اهله في السراء والضراء ..
بما ان الدنيا رمضان دخل الوفد الاعلامي مباشرة في جولة وسط المتضررين من الحرائق التي المت بالمنطقة وهي تقضي على الاخضر واليابس منذ اكثر من شهر .. فسمعنا روايات ووقفنا على مشاهدات تحرك الدواخل الانسانية .. وهي رسالة لكل المؤسسات العامة والخاصة والمنظمات الدولية والمحلية والخيرين بان يهبوا لنجدة هؤلاء المواطنيين المنكوبين ..
.. روايات اسباب الحريق :
ربما يظن البعض أن الأتهام للجن ناجم عن بساطة أهل المنطقة لكن عندما تزور القرية وتعايش بنفسك الواقع وتري بأم عينك لحظات حريق كما شاهدناها تدرك أن السكان ربما يكونوا محقين في هذه الاتهامات إلى أن يثبت العكس فلا أسباب طبيعة وظاهرة للحرائق لذلك القضية تتطلب أجراء بحوث ودراسات علمية ومعملية لمعرفة الحقيقة.
*معاناة*
زادت النيران من معاناة اهلنا البسطاء الذين يعيشون بدون ماء ولا كهرباء الخسائر كبير في الممتلكات وازهقت النيران قبل أسابيع روح أحد السكان حرقا داخل أحد القطاطي وهو رجل تسعيني هو الشهيد الحسين الامام جاد السيد له الرحمة الذي حاول الاهالي اسعافه لكن فاضت روحه قبل وصوله المشفى ربنا يتقبله .
قرية أم صيقعون الوادعة بشمال كردفان الوصول اليها يتطلب الإنحراف من طريق الأسفلت القومي بالبر من منطقة الدويم أو من تندلي وصولا للقرية التي يعتمد سكانها علي الزراعة المطرية كمصدر رئيسي للمعيشية .
وتقع القرية علي الحدود الشرقية لمحلية أم روابة و الغربية لولاية النيل الابيض محلية الدويم و تحدها من الشمال و الشمال الشرقى منطقة الباجا ذات النشاط البترولى و يوجد بها الان العديد من الشركات البترولية التى تقوم بعملية التنقيب عن البترول وحسب خارطة وزارة الطاقة هذا يعتبر مربع “١١” للتنقيب .
يعيش السكان في المنطقة حوالي (١٢) الف نسمة بدون مصدر دائم للمياه يشترون الماء بأسعار عالية جدا وارتفعت فاتورة المياه عقب انتشار الحرائق الغريبة في المنطقة فالمواطن اصبح يجهز المياه لإطفاء الحريق قبل ان تندلع فالنيران ليس لها زمن محدد احيانا تشتعل في الثانية صباحا أو الثانية ظهرا ليس هناك زمن محدد.
الأهالي أصبحوا مهددين بالنيران لدرجة ان كافة مواطني القرية اخرجوا امتعتهم من القطاطي والكرانك في العراء قبل إندلاع النيران لتفادي الخسائر فالنيران لأتستأذن أحد .
الكثيرون تركوا القطاطي القشية والكرانك فارغة وجلسوا في العراء تحت ظلال الأشجار خوفا من الحرائق المفاجأة.
*كيفية إندلاع الحريق*
طريقة إندلاع النيران تبدو غريبة حيث تبداء النيران فجأة في الاشتعال في أعلي القطية أو الكرنك من فوق وتنزل لتحت علما بأن مكان الاشتعال لايوجد فيه بنزين ولاجازولين ولاحتي مواد كيمائية ظاهرة ولاحتي كهرباء مباشرة تندلع النيران فجأة حدث هذا امام اعيننا ونحن نستطلع أحد المواطنين وفجأة شبت النيران في أحد القطاطي هرع الجميع لمكان الحريق للاطفاء.
*مفاجأة ماذا حدث عن تلاوة القرآن للجن*
يتداول سكان المنطقة قصة هذه الحرائق التي حدثت لأول مرة في العام ٢٠١٠ وحاول السكان معرفة الأسباب ولكنهم فشلوا وبات الجن المتهم الوحيد في القضية وجئ بأحد ابرز الشيوخ لتلاوة القرآن وطرد الجن ولكن ماحدث كان مفاجئ اندلعت النيران بصورة عنيفة اثناء التلاوة وقضت النيران بصورة فورية علي أكثر من (٣٠) قطية قرر بعدها الشيخ ايقاف القراءة واعتزر للمواطنين وغادر المكان.
*حرائق متكررة*
أم كلثوم محمد بلال احدي المواطنات المتضررات من الحريق تقول انها فقدت بسبب الحريق (٥) مساكن (كرنك وقطاطي) تخص اسرتها بجانب سرائر وملابس بعد ان التهمت النيران سكنهم .
وشكت أم كلثوم من ارتفاع أسعار مياه الشرب بواقع (١٥٠٠) جنيه للبرميل مشيرة لأنتشار امراض الحساسية نسبة لسخونة الجو بسبب الحرائق .
وسرد المواطن التيجاني محمد قصته مع الحرائق قائلا: ان النيران اندلعت في الكرنك (٣) مرات احترقت (٨) مرات علي فترات قريبة خلال شهر واحد فقط وفي فترات زمنية مختلفة احيانا في ساعات اليل واحيانا بالنهار .
وبعد سؤالة عن سبب الحريق الحريق اجاب التجاني: انه يعتقد ان الفاعل هو الجن( أبو كليقه ).
واضاف: هذا امتحان رباني وانا ليس لي اعتراض علي القضاء والقدر لكن فقط النيران زادت من تكاليف المعيشة اصبحنا نستهلك كميات من المياه للحرائق بواقع (٢٠) الف جنيه مما يضطرنا احيانا لبيع تيراب الزراعة لسد الاحتياجات .
*النيران والجن والمصحف*
يقول احمد ان النيران لم تقتصر علي منطقتهم حيث اشتعلت في ثلاثة قرى مجاورة في مناطق ابوقرين ام سعيدة وأم ركيكة اولاد رابح خلال السنوات الماضية إلا انها في هذا العام تركزت في قرية ام صيقعون الجاك فقط .
مشيرا إلى ان الحرائق تبداء بشرارة من فوق وتنزل تحت وفي احدي المرات طلب صوت فتاة من الجن إخراج مصحف من القطية وبعد اخراجه اندلت النيران.
*السكن تحت ظلال الاشجار*
وجدنا المواطنة قسمه محمد احمد تعيش تحت ضل نيمة مع زوجة ابنها التي وضعت طفل حديث الولادة قبل ثلاثة أيام بعد قضت النيران علي مساكنهم تماما مما اضطرهم للسكن تحت ضل النيمة وشكت قسمة من قلة الحيله ودعت لمساعدتها لإعادة بناء منزلها الذي دمرتة النيران وقضت علي كافة الاثاثات .
*حجم الخسائر*
ووصف وكيل ناظر عموم البزعة مكي فضل
الاضرار بالكبيرة وكشف عن تضرر حوالي( ٢٠٠) اسرة.
وناشد المجتمع بالمساهمة في إسكان الموطنين المتضررين
وقال: بان قصور الخدمات يشمل جميع مناحي الحياة مياه الشرب صحة تعليم وخلافه ..
وقال بان حجم الكارثة اكبر من امكانية حكومة ولاية شمال كردفان لذلك يوجهون رسالة لحكومة المركز بأن تتدخل بصورة عاجلة وقال بان عدد سكان المنطقة حوالي( ١٢ )الف نسمة وجميعهم متضررين حتى الذين لم تتضرر منازلهم فهم حالة ترقب وفي اي لحظة يمكن تطالهم النيران وخاصة بان ٤٠% من المنازل مشيدة بالقش.
وامد بان الأمر يتطلب معالجة جذرية بتغيير نمط السكن من المواد القشية الى مواد ثابته مثل الطوب البلك.
وقال بان معظم المتضررين من الاسر البسيطة للغاية مناشدا الجهات الرسمية والاهلية والمنظمات الطوعية الدولية منها والمحلية والخيرين لمد يد العون لاهالي المنطقة.
*وفاة مواطن متاثرا بالحريق وضعف امكانيات المركز الصحي*
يقول محمد أمام عثمان بلال المشرف الإداري لمركز صحي أم صيقعون الجاك انهم يستقبلون العديد من الحالات الناجمة عن الحرائق ولكن امكانياتهم قليلة بالجهد الشعبي.
واشار لاستقبالهم الشهر الماضي لمتضرر من الحريق تم تحويلة لمستشفي الدويم لكنه توفي لاحقا .
ودعا محمد امام لدعم المركز بالمواد والكوادر خاصة معينات عمليات الولادة في ظل وجود طبيب عمومي واحد ومساعد طبي ومعمل
*المدرسة مهددة بالحرائق*
يقول محمد جاد السيد عبد الله مدير مدرسة ام صيقعون ان مدرسة البنين مهددة ايضا بالحريق في بعض مكوناتها المبنيه من القش حيث يبلغ عدد الطلاب (٥٠٤) فيما مدرسة البنات (٤٩٤) طالبة مشيرا إلى أن سكن المعلمين مهدد بالنيران حيث يقومون يوميا بترحيل امتعة المعلمات لمكتب المعلمين والفصول الآمنة الثابتة .
ودعا وكيل المدرسة معتصم خليفة محمد بتجهيز ووقاية المدرسة التي تعتبرا مركزا رئيسيا لأمتحانات الأساس بالمنطقة كما اشار لنقص الكتاب المدرسي بنسبة (٣٠%) وصيانة أرضيات الفصول.
.. قوة إرادة انسان المنطقة :
من المشاهد القوية بان انسان المنطقة رغم حجم الكارثة يستقبلون ضيوفهم بالبشر والترحاب وكانك اتيت تاشركهم فرح ايمانا بالقضاء والقدر
الاطفال يصنعون الحياة :
من المشاهدات الاطفال يصنعون لعبهم من بقايا ما تركت النيران من القطع المتناثرة وهم يصنعون السيارات ويلهون بها وتعايش مع الامر الواقع رغم المناظر المفزعة ..
ايضا تجد احد الرجال وهو يهتم بتجزيب شعر اغنامه رغم فجيعته بإحتراق منزله .. وكثير من المشاهد التي تعتبر عن قوة إرادة انسان تلك المنطقة وايمانه بالقضاء والقدر ..
المشروع الحلم :
المشروع الحلم الذي تفكر فيه الطبقة المستنيرة من ابناء هذه المنطقة هو تغيير نمط السكن في تلك المناطق كليا من المواد القشية الى المواد ثابته وهذا المشروع اذا تحقيق فيه فوائد متعددة منها فوائد اقتصادية وبيئية واجتماعية .. ولكنه يحتاج لجهود عدة منها جهود رسمية وجهود ذاتية وطوعية .. لكن الحوجة الماسة الآن لا بد من تداعي الجهود الانسانية لتخفيف هذا الظرف الانساني الطارئ ..