امام محمد امام يكتب : ..بحصافة ..رحل أمين العاقب إلى ربه في صمت أليم!
امام محمد امام يكتب : ..بحصافة ..رحل أمين العاقب إلى ربه في صمت أليم!
لم يعد الموت يُفاجئ السودانيين، وإن كان يفجعهم هذه الأيام، مراراً وتكراراً، إذ ينسل من بينهم أخيار أطياب يعجزون عن تشييعهم، وشهود جنائزهم، اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا باتباع الجنائز في قوله: “خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام،
وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز”، فسقطت عنا جبراً هذه الحقوق، ومن بينها اتباع الجنائز، بسبب أهوال الجنجويد وما أدراك ما الجنجويد! وفي غياهب هذه الظُلمات الجنجويدية، فرَّ
أهل السودان من موطنهم -أصحاء ومرضى-، فمنهم من قضى نحبه -مرضاً وحسرةً- داخل السودان وخارجه! وانسل من بيننا، ونحن بين مرابط في الديار، ومضطر على الفرار!
وقد انسل من دنياواتنا الأخ الدكتور أمين العاقب محمد موسى استشاري طب الأطفال ومدير مركز التطوير المهني في جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا وعضو سابق في المكتب التنفيذي للجمعية السودانية
لاختصاصي طب الأطفال في صمت أليم، يوم السبت 18 مايو (إيار) 2024، في القاهرة بعد معاناة مع المرض.
فالموتُ مُدركنا، مهما تعددت الأسباب، وتباينت المسببات، سواء فررنا من هول حرب الجنجويد، أو ظللنا مرابطين داخل السودان! تأكيداً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ
ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”. وتصديقاً لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. والهَيْذامُ هو الأكول. ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فُسحة الأمل!
تلقى الراحل الدكتور أمين العاقب تعليمه الثانوي في مدرسة مدني الثانوية في ستينات القرن الماضي، وشهد بعض أقرانه وزملائه أنه كان صموتاً كتوماً، ومتواضعاً رقيقاً، ونشطاً داؤباً في كثير من مناشط المدرسة. واتجه إلى قاهرة المعز لتلقي تعليمه الجامعي، حيثُ التحق
بكلية الطب في قصر العيني بالقاهرة مع زُمرة من أبناء جيله. كان ميالاً بطبعه في دراسته الجامعية إلى طب الأطفال الذي تخصص فيه. وأحسبُ أنه لم يدخل كلية الطب إلا ليكون قريباً من الأطفال. فكان هواه إلى الطب والطبابة يدفعه دفعاً إلى عالم الأطفال الذي وجد فيه نفسه، محبةً ومهنةً.
وفي ثمانينات القرن الماضي، اتجه مثل غيره من الأطباء الاختصاصيين إلى المملكة العربية السعودية، في سعيهم إلى سبل كسب العيش لتحسين أوضاعهم المعيشية، فعمل طبيب أطفال في محافظة الإحساء التي أمضى فيها عقدين من الزمان أو يزيد. وتسنم رئاسة قسم الأطفال في مستشفى الملك فهد بالهفوف، وإدارة قسم
التعليم الطبي المستمر. وكان يعتبر من أعلام الطب والطبابة في المنطقة الشرقية بالسعوديه، ورمز مشرف من رموز طب الأطفال في السودان والعالم العربي.
لم يقتصر جهده الطبي في علاج حالات كثيرة من مرضى الأطفال، بل درس طلاب كثيرين، ودرب أطباء لفتراتٍ
طويلةٍ هناك، بالإضافة إلى أنه كان طبيباً سفيراً لأهليه من السودانيين عامة، والأطباء السودانيين العاملين في المنطقة الشرقية بالسعوديه خاصة.
فلا غزوّ أن كرمته محافظة الإحساء عند مغادرته
للسعودية طوعاًً واختياراً، عائداً إلى بلاده بعد اغتراب دام أكثر من عشرين عاماً، فشهد له السعوديون وغيرهم ممن عرفوه بحسن خلقه، وكريم سجاياه، وحميد خصاله، ورفيع سلوكه.
وعند عودته سارع إلى الانضمام للعمل في جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، ولذاكم الحدث قصة تُروى، إذ طلب الأخ الراحل الدكتور عصام العجيلي -صهر الراحل- من صديقه البروفسور مأمون حُميدة، أن يجد لأمين العاقب وظيفة في جامعته، مرشحا له بأنه على الرغم من كونه
أخصائي طب الأطفال، لكن يُمكن الاستفادة منه في أي موقعٍ في الجامعة، -فهو كالغيث أينما وقع نفع- وبالفعل عمل في همةٍ ونشاط في تأسيس كلية التمريض وتطويرها، إلى جانب التدريس، ومن ثم أسس مركز التطوير المهني بجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا.
عرفتُ الراحل الدكتور أمين العافب محمد موسى في جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، فتوثقت علائقي به فيها، لا سيما وأني وجدته من المتابعين للصحافة والإعلام، ورغم زحمة مشاغله الطبية، وشواغله الحياتية، يهتم أيما اهتمام بارتياد المناشط العلمية والثقافية والاجتماعية داخل أروقة جامعة العلوم الطبية
والتكنولوجيا. وكنا نترافق في سيارته إلى منتديات جامعة الخرطوم وغيرها في مؤانساتٍ لا تنقطع عن طب الأطفال وطبابتهم، وعن حبه لهم، وحرصه على صحتهم، وحنوه عليهم، ومتابعته اللصيقة للفعاليات “منتدى في رحاب الفكر” الذي أتسنم رئاسته في الجامعة، إضافةً إلى
أحاديثٍ متفرقاتٍ في الصحافة والإعلام. وكان الدكتور أمين العاقب يحرص على حضوري فعاليات مركز التطوير المهني -محاضراتٍ وورش عملٍ- التي يُشرف عليها إشرافاً كاملاً، ويُتابعها متابعةً دقيقةً.
كان الراحل الدكتور أمين العاقب، محل اجماعٍ في حب الناس له واحترامهم. داخل الجامعة وخارجها. وكان يرحمه الله يتمتع بسجايا طيبة وخصال حميدة، كان بحقٍ وحقيقةٍ، سمح الخصال، كثير الوصال، بسام المحيا في كل حين وحال، لا تُمل مجالسه، ولا تُضجر مؤانسته. عاش بيننا متواضعاً، خلوقاً سمحاً.
أخلص في هذه العُجالة الرثائية، إلى أن الدكتور أمين العاقب كان طيب المعشر، وحسن المعاملة، وكان هميماً في تقديم العون لأهليه ومعارفه، وسمحاً لطيفاً في تعامله مع الناس أجمعين. ولم يكن يتوان في خدمة من يطلب مساعدته حتى وإن لم يكن يعرفه. يذكرني في ذلكم، بقول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي:
الناس بالناس ما دام الحياء بهم
والسعد لا شك تارات وهبات
وأفضل الناس ما بين الورى رجلٌ
تُقضى على يده للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف عن أحد
ما دمت مقتدراً فالسعد تارات
وأشكر فضائل صُنع الله إذ جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم
وعاش قومٌ وهم في الناس أموات
وتكاثرت بفعل تتار القرن العشرين، على السودانيين الابتلاءات وأهوال الموت وفواجعه في هذه الأيام العصيبات، فكأني بهم يرددون حكمة الشاعر العربي كعب بن زهير بن أبي سُلمي، حين تذكر الموت في التماسه للعفو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
وفي خاتمة هذه العُجالة الرثائية، أسأل الله تعالى أن يتقبل الأخ الدكتور أمين العاقب محمد موسى قبولاً طيباً حسناً، وينزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، ويدثره بدثار المغفرات، ويُكرم نزله، ويُوسع مدخله، ويُغسله بالماء والثلج والبرد، ويُنقه من خطاياه كما يُنقى الثوب
الأبيض من الدنس، ويُعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ويُلهم آله وذويه وأهليه جميعاً وأصدقاءه وزملاءه وطلابه ومعارفه وعارفي علمه وفضله الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين”.
إمام محمد إمام
i.Imam@outlook.com