“المآذن في الجبال”.. كتاب يرصد حياة المسلمين في منطقة البلقان
كانت مدينة نوفي بازار حدثا بارزا غير متوقع في رحلة كاتب الرحلات الإنجليزي طارق حسين إلى البلقان، فقد جاء في كتابه “عند وصولي إلى نوفي بازار كان عليَّ أن أتأكد من أننا لم نعبر الحدود عن طريق الخطأ ودخلنا تركيا، فقد اكتشفنا من خلال الكتيب الإرشادي أننا دخلنا أكبر مدينة “تركية” على الإطلاق، ولم يكن الأمر مزاحًا. هل يُعقل أن تكون هذه صربيا حقا؟”
لا تكف خطابات اليمين السياسي الأوروبي عن اعتبار “أوروبا المسلمة” تهديد لأسلوب الحياة الذي تعرفه القارة العجوز، لكن تلك الخطابات العنصرية تتجنب الإشارة إلى تاريخ طويل من الوجود والتعايش الإسلامي في القارة الأوروبية لقرون طويلة، خاصة في منطقة البلقان.
وترتبط كلمتي “مسلمو البلقان” لدى بعض الأوروبيين بكثير من الصور الذهنية عن الحروب والدمار والاضطهاد الديني للمسلمين في هذه المنطقة من العالم، لكن هناك صورة مختلفة عن تلك التي تصدرها وسائل الإعلام يعرضها كتاب جديد يتحدث عن مسلمي البلقان من خلال رحلة سياحية تاريخية لمؤلفه.
يمثل كتاب “المآذن في الجبال.. رحلة إلى أوروبا المسلمة” -الذي كتبه البريطاني من أصل بنغلاديشي طارق حسين- أدب رحلة إنجليزي بقلم مسلم، ويستكشف أيضًا الجذور التاريخية للإسلاموفوبيا في أوروبا. ويتعلم المؤلف وعائلته دروسًا عن أنفسهم وهويتهم كبريطانيين وأوروبيين ومسلمين. ويسير على خطى الرحالة العثماني الشهير أوليا جلبي، ويذكر القراء بأن أوروبا مسلمة بقدر ما هي مسيحية أو يهودية أو وثنية.
ولمدة تقارب 40 سنة من عام 1640 وحتى 1676م، بعد أن ابتدأ جولاته في إسطنبول؛ قدّم جلبي وصفا لسلسلة من الرحلات الطويلة ضمن السلطنة العثمانية وجوارها بصفة منفردة أحيانا، أو في مهمة رسمية أحيانا أخرى، وسجل رحلاته ومشاهداته، على نسق كتابات الرحالة مما يعكس أنه كان قد اطلع على كتاباتهم، في مؤلّفه المكون من 10 كتب، ويعرف باسم “سياحتنامه” (الرحلات).
وذكر أوليا في “سياحتنامه” المساحات الجغرافية الواسعة والأصقاع البعيدة التي زارها في تركيا الحالية ودول البلقان (اليونان، وألبانيا، وبلغاريا، والبوسنة، والمجر، ومقدونيا، وأرمينيا) وجزر البحر المتوسط وبحر إيجه والأناضول وآسيا الصغرى والعراق والشام ومصر والسودان والحبشة وبلاد روسيا والقوقاز، ووصف مدنها وطرقها وسكانها ومعالمها وآثارها ولهجاتها وعاداتها وطرائفها وغرائبها، وبكثير من التفاصيل في أحيان كثيرة.
وفي المقال الذي نشره موقع “بلقان إنسايت” (balkan insight)، يستعرض الكاتب الأميركي روبرت ريجني، المتخصص في شؤون أوروبا الشرقية والبلقان وتركيا، كتاب طارق حسين الذي يروي رحلته إلى دول منطقة البلقان التي قام بها عام 2016.
ويتساءل الكاتب -في البداية- عن السبب في تصدر الكتاب مبيعات أمازون، وإدراجه في القائمة الطويلة لجائزة بايلي جيفورد للأعمال غير الخيالية (the baillie gifford prize)، وأيضا اختياره “كتاب العام” من قبل ملحق مجلة “تايم” الأدبي، مشيرًا إلى أن الحديث عن دول البلقان عادة ليس عامل جذب للمبيعات في عالم الكتب.
ويلفت الكاتب النظر إلى أن العنوان قد يكون مضللًا بعض الشيء، كونه لا يعطي أي لمحة عن أن مؤلف الكتاب يتحدث عن تلك المنطقة من العالم، مبينًا أن المؤلف قام بهذه الرحلة صيف عام 2016 مع عائلته باحثًا عن مجتمعات المسلمين الأصليين في أوروبا، مقارنًا بين تاريخهم وتراثهم وواقعهم الحالي.
على خطا أوليا جلبي
ويستكمل ريجني استعراضه للكتاب؛ فيقول إن المؤلف استخدم كتابات المستكشف العثماني أوليا جلبي، الذي عاش في القرن 17، كدليل له في مقارنة بين البلقان العثمانية، والبلقان الحالية بعد أكثر من 30 سنة من زوال الشيوعية والعلمنة والإلحاد القسري والحروب والإبادة الجماعية والعرقية التي حدثت فيها.
ويوضح الكاتب أن حسين لا يقول إن الإسلام بصحة جيدة في البلقان، لكنه وجد مناطق مزدهرة بالإسلام بشكل مدهش وفي أماكن لا يتوقعها الإنسان، مستعرضًا عددًا من المؤلفات التي تحدثت عن المنطقة، مثل إديث دورهام، وهي رحالة بريطانية من بدايات القرن العشرين، والبريطانية أيضًا ريبيكا ويست، التي قامت برحلة في يوغوسلافيا السابقة عام 1937، كما شهدت تسعينيات القرن العشرين العديد من الكتب التي تتحدث عن البلقان، وإن كانت تركز في الأغلب على حروب المنطقة في ذلك الوقت.
ويرى الكاتب أن ما يجعل هذا الكتاب فريدًا أنه مكتوب من وجهة نظر مسلم يعيش في إنجلترا؛ فهو يكتب عما “يُنظر إليه عمومًا على أنه منطقة خاصة بالأشخاص البيض”؛ موضحًا أن كتاب حسين هو أول سرد للبلقان من قِبَل مسلم غربي، وربما يكون الأول منذ أوليا جلبي.
واعتبر الكاتب أن مؤلف هذا الكتاب بدأ رحلته في وقت عصيب لمسلمي الغرب؛ فمن جهة كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المعادي للإسلام بشكل علني يترشح لرئاسة الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى -حسب حسين- كانت بريطانيا تخوض أزمة هوية بعد حملة خروجها من الاتحاد الأوروبي؛ وهي الحملة التي كانت تروج للبريطانيين بأن أوروبا مليئة باللاجئين المسلمين.
ويبين ريجني أن حسين وزوجته وابنتيه قرروا الابتعاد عن هذه الأجواء الساخنة، وأن يذهبوا في رحلة إلى البلقان لاستكشاف تراث المسلمين هناك، حيث بدؤوا من البوسنة، مرورًا بمنطقة سنجق الصربية وكوسوفو ومقدونيا الشمالية وألبانيا والجبل الأسود، لتنتهي الرحلة بهم في النهاية في البوسنة مرة أخرى؛ مبينًا أن حسين في كتابه وطوال الرحلة مزج بين نقل مظاهر جاذبية البلقان المسلمة، واستعراض التاريخ المؤلم للمنطقة.
عمارة تاريخية
ويوضح الكاتب أنه بينما يتحدث جزء كبير من الكتاب عن الأوصاف المعمارية الباقية من الإمبراطورية العثمانية؛ من مساجد وحمامات ومدارس، فإنه حرص على نقل التجارب البشرية الحالية بالحديث إلى بعض الأئمة والمصلين، كما وصف بعض مناطق الجذب السياحي في عدد من المناطق، مثل باشارشيا أو بازار سراييفو القديم والتكية الصوفية في قرية بلاجاج جنوب شرق البوسنة، مشيرًا إلى أن حسين قال إنه وجد الجاذبية الحقيقية لمسلمي البلقان بعيدًا عن الأماكن السياحية المعتادة، مثل بازار نوفي في سنجق الصربية، وبلدة تيتوفو في مقدونيا الشمالية، التي ينتمي معظم سكانها للأصل الألباني.
ويقول الكاتب إنه قام بالعديد من الزيارات للبلقان، التي تعني له الكثير كما تعني لمؤلف الكتاب، حيث قام برحلات مشي وبالدراجة والحافلة والقطار على مدار 15 عامًا، جعلته يتغلب على تحيزاته ورهابه، ويتجنب العديد من المواقف العنصرية والقومية، ويتعرف على الإسلام بشكل مختلف.
ويتابع الكاتب حديثه عن علاقته بالمنطقة قائلا إنه في عام 2003، كان صحفيًّا محبُّا للصرب ومعاديًا للإسلام قليلًا، وأراد رؤية آخر دولة منبوذة في أوروبا، والتي كانت مثل العراق وليبيا وكوريا الشمالية وكوبا؛ قد تحدت الولايات المتحدة وهتفت أغلب شعوبها “يحيا صدام” عندما بدأت الولايات المتحدة قصف العراق عام 2003.
ويضيف “كنت أرغب في التعرف على أحد آخر الجيوب المقاومة للثقافة الشعبية المعولمة، وهي الدولة التي رفضت -وهي عضوة في الاتحاد الأوروبي- الهيمنة التي تفرضها منطقة اليورو، وحرصًا على رؤية آخر معقل أوروبي للنزعة العرقية، بدأت رحلتي إلى صربيا عام “2003.
نوفي بازار
ومع لقائه الصرب القوميين، فيعرب ريجني عن دهشته عند لقائه مسلمي نوفي بازار، المدينة الرئيسية في إقليم سنجق الصربي؛ حيث سمع صوت الآذان أول مرة، وهو ينطلق في الخامسة صباحًا من المآذن المصنوعة من الطين في ذلك الحي التركي.
وكانت مدينة نوفي بازار أيضًا حدثًا بارزًا غير متوقع في رحلة حسين إلى البلقان -حسب الكاتب- فقد جاء في كتابه “عند وصولي إلى نوفي بازار، كان عليَّ أن أتأكد من أننا لم نعبر الحدود عن طريق الخطأ ودخلنا تركيا، فقد اكتشفنا من خلال الكتيب الإرشادي أننا دخلنا أكبر مدينة “تركية” على الإطلاق، ولم يكن الأمر مزاحًا. فهل يُعقل أن تكون هذه صربيا حقًّا؟”
ومثل سراييفو؛ فقد اكتشف حسين -كما يقول ريجني- أن نوفي بازار “مدينة مسلمة إلى حد كبير؛ حيث إن أكثر من 80% من سكان المدينة يعتنقون الدين الإسلامي، مما يجعل المدينة الصربية مسلمة أكثر من بعض الدول الإسلامية”.
ويتابع الكاتب وصف حسين لرحلته “كان قد مضى على انطلاق رحلتنا أسبوعان فقط ولم نعثر على سراييفو “المخفية” في نوفي بازار فحسب، بل وجدنا أيضًا إرثها المزدوج”؛ حيث يوضح ريجني أن القضية الأساسية والمثيرة للقلق التي يطرحها حسين في كتابه هي أنه يجب على المرء أن يزور منطقة البلقان المسلمة لأن إرثها الإسلامي معرض لخطر الإبادة.
وبينما ألهمته مدن مثل نوفي بازار بحيويتها، يوجه حسين انتباهه إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي حدثت في التسعينيات، مما يعزز قناعته بأن منطقة البلقان المسلمة مهددة، ومع ذلك؛ فإن أحد أكبر التهديدات التي تواجه المجتمعات المسلمة في البلقان اليوم ليس الإسلاموفوبيا، وإنما النزوح وهجرة الأدمغة، كما ينقل الكاتب عن المؤلف.
ويستكمل ريجني مع حسين الذي يقول “في نوفي بازار وحدها تغادر 10 حافلات يوميًّا إلى ألمانيا ولوكسمبورغ وبلجيكا وهولندا والسويد، وتقدر بعض المنظمات غير الحكومية أن ما بين 500 إلى 1000 شخص يغادرون إقليم السنجق الصربي كل يوم سبت متجهين إلى أوروبا الغربية، والعديد منهم يغادرون المنطقة نهائيًّا”.
جسر موستار
ويتحدث الكاتب عن الجسر القديم في موستار، الذي تحدى قوانين الفيزياء 5 قرون قبل أن يفجره البوسنيون الكروات عام 1993، واعتبره الرحالة الفيكتوريون رومانيًّا، وعلى حد تعبير حسين فإنه “ينتمي إلى التاريخ “الآخر” الذي قيل لي إنه لا علاقة له بتاريخ أوروبا، ومع ذلك كنت أسافر إلى هنا عبر أوروبا مع عائلتي، وأزور الأماكن وألتقي الأشخاص الذين ربطوني بشكل ملموس بالمشهد الثقافي للقارة وتراثه الإسلامي، أو بالأحرى تراثي الإسلامي”.
ويستنكر المؤلف الإنكار المتعمد للأصول الإسلامية للعمارة البلقانية، مثل محاولة عالم الآثار الإنجليزي آرثر إيفانز في كتابه عام 1897 نسب جسر موستار إلى الإمبراطور الروماني تراجان، في حين رفض آخرون مثل رسام القرن 19 شالوتر دي لازن قبول أصله الإسلامي التركي، وبدل ذلك نسبوه إلى الحضارة اللاتينية.
وينقل الكاتب عن حسين تساؤله عن سبب عدم تعلمه أي شيء عن هذا التراث في المدرسة بإنجلترا؟ فيقول “لقد حكم الإسكندر الأكبر الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية. ولكن لماذا يخجل كثير من الناس في أوروبا -وليس أوروبا فقط- من تقديم الإمبراطورية العثمانية على النحو الصحيح؟ هل كان العثمانيون مذنبين بجرائم استعمارية أكثر من اليونانيين والرومان؟!”
ويختتم ريجني مقاله بقول مؤلف الكتاب “أردت إظهار أن العثمانيين ارتكبوا بعض الفظائع، لكنهم فعلوا أشياء جيدة أيضًا مثلما فعل الرومان واليونانيون؛ لذلك إذا كان بإمكانك البقاء هناك كشخص أبيض غير مسلم، وتتحدث عن عجائب الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وهادريان، فلماذا لا يمكنني التحدث عن السلطان سليمان أو محمد باشا سوكولوفيتش؟”