الأخبارالعالمية

“اللاجئات الأوكرانيات قادمات”.. لماذا فقدنا القدرة على التعاطف مع مآسي الآخرين؟

“اللاجئات الأوكرانيات قادمات”.. لماذا فقدنا القدرة على التعاطف مع مآسي الآخرين؟

في تصريح يحمل عنصرية طافحة، وصفت مراسلة قناة “إن بي سي” اللاجئين الأوكرانيين المتجهين إلى بولندا قائلة: “ليسوا لاجئين من سوريا، بل من أوكرانيا المجاورة. بصراحة هؤلاء مسيحيون؛ إنهم بيض، ويشبهون الأشخاص الذين يعيشون في بولندا”. لم يكن ذلك مجرد تصريح شاذ، إذ بدا نمطا متكررا ظهر أيضا مع مراسل لقناة “سي بي إس” قال خلال تغطيته للحرب: “هذا المكان ليس العراق ولا أفغانستان اللذين شهدا صراعات على مدار عقود. هذا بلد متحضر نسبيا، وأوروبي نسبيا، ولن تتوقع أو تتمنى أن يحدث شيء كهذا فيه”. (1)

 

لم تكن الأمور على وسائل التواصل الاجتماعي العربية أفضل حالا، وإن جاءت بشكل معاكس. فبينما تدور رحى حرب مفزعة وقاسية، ظهرت تعليقات تتحدث عن “اللاجئات الأوكرانيات الجميلات” المُنتظر توافدهن إلى بلاد العرب، في تجاهل تام للمعاناة التي يختبرها البشر الآخرون، ما الذي يحدث على الجانبين؟

 

“نحن” و”هم”

epa09801273 Refugees fleeing from Ukraine at the Polish-Ukrainian border crossing and at the assistance point in Dolhobyczow, Poland 04 March 2022. Russian troops entered Ukraine on 24 February prompting the country's president to declare martial law and triggering a series of announcements by Western countries to impose severe economic sanctions on Russia. EPA-EFE/WOJTEK JARGILO POLAND OUT

طوال التاريخ البشري، وأمام كل قصص النزاع أيًّا كانت أسبابها، كان الناس يقسمون طرفَيْ النزاع إلى “نحن” و”هم”، نتضامن تلقائيا مع أولئك الذين يشبهوننا، الأقرب إلى هويتنا ولغتنا وقيمنا، وهؤلاء هم مَن يحظون بتعاطفنا ودعمنا. أما “الآخرون” الذين لا يشبهوننا، فلا نبالي إن ذهبوا ضحايا للحروب والقمع.

 

بعد الحرب العالمية الثانية، أدرك العالم الحديث الثمن الباهظ الذي يمكن أن تدفعه البشرية بسبب نبذ “الآخر” وتحقيره وتبرير قتله. لذلك، سعى البعض إلى وضع معايير ثابتة تمنح القيمة والكرامة لجميع البشر على حدٍّ سواء، عبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه بدأ علماء الاجتماع وعلماء النفس في دفع مفهوم التعاطف بقوة إلى الثقافة العالمية. كان الدافع الأكبر لذلك هو الخوف من أن يقتل البشر بعضهم بعضا بالأسلحة النووية، لهذا سعينا لتعلُّم رؤية العالم بعيون الآخرين، وبدا أن الأمور ستمضي نحو مستقبل أكثر تعاطفا وعدالة. (2)

 

لكن السنوات التالية شهدت تطورا في الاتجاه المعاكس. في أواخر عقد الستينيات كانت سارة كونراث، الأستاذة المشاركة والباحثة في جامعة إنديانا، ترصد في دراساتها تغيُّرا ما في موقف الشباب الأميركي تجاه “التعاطف” مع الآخرين. من خلال الاستبانات التي أجرتها على طلاب الجامعة الأميركية، بدا أن تلك النبرة تزايدت مع بداية الألفية الجديدة، وبحلول عام 2009 وجدت أبحاث كونراث أن الشباب في المتوسط ​​صاروا أقل تعاطفا بنسبة 40% عن شباب عقد الستينيات.

epa09618273 (23/26) (FILE) - German Chancellor Angela Merkel (R) has a selfie taken with a refugee during a visit to a refugee reception center in Berlin, Germany, 10 September 2015 (reissued 03 December 2021). German conservative party CDU's then leader Angela Merkel was sworn in as German Chancellor on 22 November 2005, following coalition negotiations after the federal elections in Germany. Merkel, the longest-serving leader in the EU to date, was re-elected to office three times in 2009, 2013, and 2017, and announced in October 2018 that she will neither run for re-election as party chair in December 2018 nor seek a fifth term as Chancellor in the September 2021 general elections. She received her certificate of dismissal from the German president on 26 October 2021, her successor is scheduled to be sworn in between 06 and 10 December 2021. EPA-EFE/BERND VON JUTRCZENKA GERMANY OUT
المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل (يمين) في صورة سيلفي تم التقاطها مع لاجئ خلال زيارة لمركز استقبال لاجئين في برلين

تُعبِّر قضية اللاجئين عن هذا التغيُّر؛ ففي عام 2015، كانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، بدفاعها عن حق اللجوء، ودعوتها إلى تقديم الدعم الكامل لمساعدة اللاجئين على الاندماج في الثقافة الألمانية، أحد الأصوات المتعاطفة النادرة على الساحة العالمية. بحلول عام 2018، كان عدد أقل من القادة على استعداد لاتخاذ مثل هذه الخطوات للترحيب باللاجئين، بعد تزايد عدم المساواة والمعارضة السياسية القوية وزيادة نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء العالم. (4)

 

في عام 2017، نشرت مجلة “سوشيال سيكولوجيكال آند برسوناليتي ساينس” (Social Psychological and Personality Science) دراسة لباحثين من جامعة بنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد حول تأثير الشعور بالانتماء إلى مجموعة ما على التعاطف مع مجموعات أخرى. أُجريت الدراسة على ثلاث مجموعات مختلفة: الأميركيين مقابل مواطني دول الشرق الأوسط، والمجريين في تعاملهم مع اللاجئين المسلمين، واليونانيين في مواقفهم إزاء الألمان، وأظهر المشاركون شعورا أقل بالتعاطف أو القلق إزاء مشاهدة معاناة المجموعات المقابلة، وكان لديهم استعداد أقل لدعمهم. هذا الشعور بتراجع التعاطف يعني دعما أقل خلال مشكلات الحروب أو الكوارث، بشكل يبدو معه أن الأمور تعود أدراجها. (5)

 

هل أصابنا التعاطف بالإرهاق؟

تتناول بعض المراجع العلمية التعاطف باعتباره شعورا تلقائيا يحدث بسهولة بسبب جذورنا التطورية، لكن أبحاث علم النفس وعلم الأعصاب التي ركَّزت على المواقف التي نفشل فيها في إظهار التعاطف مع الآخرين تقول رأيا آخر. في عام 2012، انتشرت صورة لثلاث شابات يحضرن أسبوع الموضة في نيويورك، صورة كانت ستبدو عادية لولا ظهور رجل بلا مأوى في جانب الصورة، يجلس على الرصيف بملابس رثة ووجه متعب، بينما تتجاهل الفتيات وجوده تماما. اعتبرت صحيفة الغارديان البريطانية هذه اللقطة إحدى أهم صور العام. ربما علينا أن نتساءل هنا: ألا يحدث ذلك معنا جميعا؟ ألم يسبق لكلٍّ منا أن مرَّ بأناس في الشوارع بلا مأوى دون أن يكترث؟

epaselect epa08998516 A homeless person sits in front of a closed store at the shopping street 'Zeil' in Frankfurt am Main, Germany, 09 February 2021. Due to the high numbers of cases of the COVID-19 pandemic caused by the coronavirus SARS CoV-2, nationwide restrictions endure to counteract an increase in infections. Places in emergency shelters for the homeless have been limited for months because of coronavirus distance rules. EPA-EFE/RONALD WITTEK

رغم كل شيء، ربما يفيدنا هذا الشعور في بعض الأحيان؛ حين يعوقنا الإحساس بالضيق جراء تعاطفنا مع معاناة الآخرين عن أداء مهام معينة، وأشهر الأمثلة على ذلك ما يفعله الأطباء، إنهم يُفعِّلون “فشل التعاطف” هذا لسبب وظيفي ضروري، فالشعور بالحزن الشديد في كل مرة يعاني فيها أحدهم قد يؤدي بالطبيب إلى نتائج عكسية. (6)

 

نعم، نحن ربما نمتلك القدرة على بذل جهد كبير لإنقاذ ضحية واحدة، نوليها الاهتمام ونتعاطف معها، لكننا نُظهِر لا مبالاة إذا كانت المشكلة أكبر بكثير. بالمثل، نحن نهتم بمتابعة قضية فرد واحد تعرَّض للقتل مثلا، بينما نتجاهل القتل الجماعي والإبادة الجماعية. الحقيقة أن تكرار الحوادث أو ذكر إحصاءات القتل في الحروب يفشل في إثارة مزيد من الاهتمام لدينا، إذ ليس بوسعنا إنقاذ الجميع ولا التعاطف معهم.

 

على جانب آخر، فإن الشعور بالغضب أو الصدمة في مواجهة المأساة يتلاشى مع تكرارها مرارا بسبب التعود، أو ما يمكن أن نسميه “إجهاد التعاطف”. يمكن تفسير ذلك بسعينا لتجنُّب تكرار الصدمة التي سبق لنا المعاناة بسببها، وهكذا في المرة العاشرة التي نشاهد فيها صور الوفيات المروعة في مناطق النزاع سيخبرنا الدماغ بأنه لا بأس، لقد حدث من قبل واعتدنا الأمر ليحمينا من الاحتراق. (7)

 

كيف يحدث التعاطف في دماغنا؟

sympathy تعاطف

في عام 2013، طرح باحثون من معهد ماكس بلانك للعلوم الإدراكية والدماغية سؤالا حول الدور الذي يلعبه الدماغ بالضبط في تنظيم التعاطف، واكتشفوا أن هناك منطقة في أدمغتنا تسمى التلفيف فوق الهامشي الأيمن (Right supramarginal gyrus) هي التي تساعد في تنظيم عمليات التعاطف سواء مع أنفسنا أو الآخرين، ورصدوا أن قدرتنا على التعاطف مع الآخرين تتأثر تأثيرا هائلا بحالتنا النفسية والذهنية.

 

على سبيل المثال، عندما تعرَّض المشاركون في التجربة لمحفزات بصرية ولمسية ممتعة، كانوا يميلون إلى تصوُّر أن الآخرين أفضل حالا مما هم عليه في الحقيقة، بينما كانوا يتخيَّلون أن الآخرين أقل سعادة عندما يتعرَّضون لمحفزات غير سارة مثل رائحة كريهة أو صور حشرات مقززة. يمكن أن نُعمِّم تلك الصورة على نطاق أوسع متسائلين: هل يمكن للبلاد الغنية أن تمتلك تعاطفا أقل مع مآسي الآخرين لمجرد أنها بلاد غنية؟

 

عندما تعمل منطقة التلفيف فوق الهامشي الأيمن بشكل غير طبيعي، فإنها تُحرِّف تصوراتنا عن ألم الآخرين أو سعادتهم، يحدث ذلك بطرق أخرى متنوعة، مثلا حينما تكون تجاربنا مختلفة عنهم، وكذلك حين يحتاج دماغنا إلى المزيد من الوقت وبعض التروي لتخيُّل حالات الآخرين واستيعاب معاناتهم، ومن ثم تطوير مشاعر التعاطف معهم. (8)

epa09694972 Children stand at snow-covered Salat Zagrous Camp for internally displaced Syrians, in the Afrin District, Aleppo Governorate, northern Syria, 19 January 2022. A strong snowstorm and torrential rains hit several camps of displaced people in northwestern Syria on 19 January, causing roadblocks, destroying hundreds of tents and forcing dozens of families to abandon the area. United Nations Deputy Regional Humanitarian Coordinator for the Syria crisis Mark Cutts called for helping people urgently mainly in the Afrin and Azaz areas after camps in the area were cut off and many tents were buried in snow. EPA-EFE/YAHYA NEMAH

ولكن لحُسن الحظ، فإن الأمر ليس حتميا تماما، ويمكن للبشر تطوير قدرتهم على التعاطف مع الآخرين. في دراسة نُشرت عام 2009 في مجلة “سوشيال إيشوز أند بوليسي ريفيو” (Social Issues and Policy Review) حول استخدام التعاطف في تحسين المواقف والعلاقات بين المجموعات، أشارت الدراسة إلى أن تحسين العلاقات بين المجموعات قد يصبح ممكنا من خلال تدريب الأفراد من مجموعات مختلفة على فهم وتقدير الأفراد من مجموعات أخرى وإضفاء الطابع الإنساني عليهم، وعلى العكس فإن نزع الصفة الإنسانية وتشويه سمعة بعضهم بعضا كان يُغذِّي الكراهية والصراع، وهو أمر لطالما استخدمه على مرِّ التاريخ أولئك الذين يسعون إلى تأجيج نيران الكراهية بين الجماعات، واستطاعوا من خلاله القيام بأعمال الإبادة الجماعية. (9)

 

أحد أشهر الأمثلة هنا هو ما حدث في دولة رواندا بين إبريل/نيسان ويوليو/تموز 1994، حينما بدأت قبائل الهوتو عبر الجيش والميليشيات الخاصة في قتل كل مَن تقع أيديهم عليه من مواطني التوتسي، في أثناء تلك المجزرة أنشأ متطرفو الهوتو محطات إذاعية لنشر الكره والغضب ضد التوتسي. كانت الجملة الأشهر والأكثر تكرارا هي: “التخلص من الصراصير”، هذه الرسالة كانت إعلان تجريد للتوتسي من بشريتهم، وكانت النتائج هي 800 ألف قتيل، واغتصاب مئات الآلاف من النساء، أو الصراصير في نظر معارضيهم.

epa00166581 (FILES) Undated filer shows Dancila Nyirabazungu, a survivor and one of curators of the genocide memorial at Queen of the Apostles Church of Ntarama, in front of hundreds of skulls on display where some 5000 people were killed during the genocide of 1994. When dignitaries in Kigali commemorate the 10th anniversary of the genocide that began April 7, 1994, Nyirabazungu will be at the church waiting to greet visitors as she has done for the last ten years. EPA/STEPHEN MORRISON

في الصورة الأخف من هذا الأمر يظهر “تحيز التعاطف”، الذي يُفسِّر مواقفنا ومعتقداتنا وسلوكياتنا تجاه الأشخاص خارج مجموعاتنا الاجتماعية. (10) في كتاب “الجانب المظلم للتعاطف” يقول فريتز بريثوبت، وهو مدير مختبر العلوم الإنسانية التجريبية بجامعة إنديانا، إن التعاطف قدرة غامضة أخلاقيا، يتخيَّل الناس أن التعاطف يمكن أن يساعد في حل التوترات في حالات الصراع، ويبدو ذلك صحيحا، لكنه في كثير من الأحيان يُحدث أثرا معاكسا تماما فيؤدي إلى التطرف.

 

في نزاع عائلي أو في حرب أهلية، تجد أننا نتسرَّع جدا في الانحياز والتعاطف الشديد مع ما تُمثِّله جماعتنا. وحين نرى الأمور من منظور واحد، فإن ما يحدث حقيقة هو أننا نتعاطف مع أصحابه بالقدر نفسه الذي نُغذِّي فيه الشعور بأن الجانب الآخر لا يستحق أي تعاطف. يقول بريثوبت إننا نرتكب الفظائع أحيانا، لا بسبب عدم قدرتنا على التعاطف، وإنما نتيجة مباشرة لتعاطف ناجح، وربما ناجح جدا. (11)

 

يبدو إذن أن التعاطف شعور معقد جدا، وما عرضناه قبل قليل هو غيض من فيض في هذا النطاق، لكننا متأكدون من شيء واحد فقط، وهو أن النفس البشرية أعقد من تصوراتنا الساذجة عنها، وأن لها جوانب مظلمة، ربما تقودنا أحيانا إلى التشفي في وقوع المآسي بأولئك الذين لا يشبهوننا والسخرية من جراحاتهم.

————————————————————————

المصادر:

  1. الحرب على أوكرانيا بين المعايير المهنية وأخلاقيات الإعلام
  2. Empathy and bias are more intertwined than we often think
  3. Changes in Dispositional Empathy in American College Students Over Time: A Meta-Analysis
  4. Empathy and bias are more intertwined than we often think
  5. Parochial Empathy Predicts Reduced Altruism and the Endorsement of Passive Harm
  6. Failures of Empathy: We all do it
  7. Empathy Fatigue is All Too Real
  8. I’m OK, you’re not OK: Right supramarginal gyrus plays an important role in empat
  9. Using Empathy to Improve Intergroup Attitudes and Relations
  10. Empathy and bias are more intertwined than we often think
  11. Does Empathy Have A Dark Side?
المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى