القطرية بين حياء إبنة شعيب وشجاعة المُجادِلة
الدوحة |حصة عبدالله الحاي السليطي
القطرية بين حياء إبنة شعيب وشجاعة المُجادِلة
من هنا كان قول أمهاتنا قديماً “روحي يا حرة ولا عليك مضرة” إذا أرادت المرأة أن تُعرب عن نفسها، وتناقش وتجادل في حقوقها، وتعرض مشكلاتها وأزماتها، وقد يرى البعض في ذلك تغيرًا سلبياً في المجتمع القطري، لكن الأمر ليس كذلك، وليس أدل على هذا من قصة المُجادِلة.
هي واحدة من نساء الصحابة، علمت أن دينها يكفل لها السعي لنيل حقها وعرض مشكلاتها، يقول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}( ).
تحكي لنا الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته في الدارين عائشة رضي الله عنها قصة المجادِلة فتقول: “تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ تَقُولُ: يا رسول الله، أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ. فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جبريل بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}”( ).
جاءت خولة تختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتحاوره وترفع له شكواها من زوجها، الذي بعد أن قضت سنوات عمرها معه وأنجبت له الأولاد، ظاهر منها، أي قال لها: (أنت عليّ كظهر أمي)، وكان هذا القول في الجاهلية يعد طلاقاً، فنزلت بشأن خولة آيات تبطل وقوع اعتبار الظهار طلاقاً، وجعلت الشريعة له كفارة.
من حق المرأة أن تناقش وتحاور وتجادل وترفع شكواها ولا تسكت عن الظلم الواقع عليها، فلقد جاء الإسلام وأكرم المرأة وأعزها، بعد أن كانت في الجاهلية هملًا ومتاعًا يورث.
فعندما تجادل المرأة في حقوقها المشروعة، فليس في ذلك إساءة أدب أو تمرد على الرجل، طالما أن جدالها يدور في فلك التشريع الإسلامي الذي حدد لها الحقوق والواجبات.
وفي رواية تقول عائشة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ” {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا “}( ).
ومع أن بيت عائشة كان صغيرًا لكنها لم تسمع كثيرًا مما تقول المرأة، وهذا يدل على حياء خولة، وتأدبها في الشكوى إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا الأدب كذلك في مضمون الشكوى والكلمات التي عبرت بها عن شكواها، فلم تسب زوجها أو تعيبه في شيء، بل صانت عشرته ولم تتجاوز في عرضها حدود المشكلة.
وقد يشكل هنا على البعض، ويرى تعارضًا بين المجادَلة الصادرة عن خولة بنت ثعلبة، وبين النصوص التي تذم الجدال، وتحض على تركه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ)( ).
فالجواب هنا من وجهين:
الوجه الأول: أن الجدال ليس مذموماً مطلقاً، بل منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، وضابطه كما قال الإمام النووي: ” فإن كان الجدالُ للوقوفِ على الحقّ وتقريرِه كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحقّ، أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزيلُ النصوص الواردة في إباحته وذمّه”( ).
فهناك الجدال بالتي هي أحسن، والذي يُبتغى به الحق وبالحق، لا ما يراد من جهة الخصومة والانتصار للذات والاستعلاء وطمس الحق، كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( ).
قال ابن كثير: “{وجادلهم بالتي هي أحسن} أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب”( ).
الوجه الثاني: أن خولة بنت ثعلبة لو كانت ارتكبت خطأ وينطبق على حالها الجدال المذموم، لأنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم وبين لها خطأها، فدل على أن جدالها لم يكن جدالاً مذموماً، لكنه كان بمعنى المحاورة والمراجعة، تذكر له من أمر محنتها وفعل
زوجها معها، وهذا ما جاءت به التفاسير المعتبرة.
قال القرطبي: ” (تجادلك) أي تسائلك”( )، وقال الماوردي: ” المحاورة: مراجعة الكلام”( )، وقال الألوسي: ” أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار”( ).
ومعاذ الله أن توجد هناك قطرية من الرعيل الأول تدعو إلى تمرد المرأة وخروجها عن تعاليم الدين والعرف المنضبط، بل كُن يدعين المجتمع إلى الاستماع لها، ورعاية حقها بأن تخرج عن طور السلبية، وتنادي برفع أي ظلم وقع عليها، والحصول على أي حق مكفول لها شرعًا ويقلن لها “روحي يا حرة ولا عليك مضرة”.
فلطالما كانت المرأة القطرية كابنة شعيب في حيائها، لكنها كخولة المجادِلة في شجاعتها ومعرفتها بحقوقها، وفي ذلك محمدة تستوجب الفخر والاعتزاز، وليس منقصة تستدعي الوجل أو الخوف، وهو تأكيد عملي على أن “النساء شقائق الرجال”، فعلاً لا قولاً فحسب.