القرضاوي.. علامة الجيل
القرضاوي رحل وترك لنا إرثا زاخرا بالأفكار، فيه مفاهيم أحياها، وأخرى شدّد عليها، وترك تراثا لا يمكن إغفاله، وجدالا لا يتوقف في الميادين التي كتب فيها وتكلم، وما أكثرها! فلم يغادر القرضاوي مساحة إلا كتب فيها، اللهم إلا مقارنة الأديان وما لفّ لفّها من علوم، كالفلسفة، والمنطق، ولهذا كله أسبابه كما سأبيّن في محاولتي للحديث عنه.
القرضاوي.. الشخصية والتكوين
يمنح الذكاء أصحابه شخصية مختلفة عن الآخرين، وسيكونون محظوظين لو نجوا من آثاره الجانبية، فالذكاء هبة إلهية، وطاقة دفاقة، إن لم تصرف بشكل سليم، واجهت مشقات جمّة، فأتعبت حاملها، ومن حوله.
مقالات ذات صلة- الجيش يكشف عن تحرير مناطق جديدة بالبلاد23/11/2024
- ( 7 ) إصابات وسط المدنيين بسبب التدوين بكرري23/11/2024
والقرضاوي من هذه الزاوية محظوظ بلطف رباني محض، فاليتيم الذي ربّاه عمه، في ظروف من المعيشة الصعبة، وجد فيما يبدو من حنان الأم، ورأفة المجتمع الريفي ما يكفي لاحتواء الحساسية المرهفة، واحتضان الموهبة، وتوجيهها نحو العلم الديني، والانطلاق فيه.
امتلك القرضاوي شخصية قيادية، فرفض الضرب بغير سبب، وانتقل بسببه من كتّابه الأول إلى كتّاب آخر كان شيخه أكثر لطفا، وواصل بطموح كبير ليغدو عالما دينيا، وهكذا قدّر الله له فصار لا في مستوى قريته، بل على مستوى عالمي، ربما تراءى له ذلك الطموح البسيط في لحظات تسلّمه الجوائز فبكى في إحداها، حامدا ربه جهرة، ومتحدثا بتواضع كبير عن نفسه.
والقرضاوي شخصية متوازنة، لكن توازنها لا يمنع تغيرها، فقد غيّر فتاوى عديدة، لكن خطوطه العريضة كانت واضحة في كلها، وهو ما سأعرض جانبا منه في حديثي المقبل، ومن أدلة توازن شخصيته أنه لم يغير زيه الأزهري رغم استقراره في قطر، وانتمائه لها وطنا، فقد بقي يظهر بهذا الزي الأزهري في المحافل، والمناسبات الرسمية.
امتلك القرضاوي شخصية قيادية، فرفض الضرب بغير سبب، وانتقل بسببه من كتّابه الأول إلى كتّاب آخر كان شيخه أكثر لطفا، وواصل بطموح كبير ليغدو عالما دينيا.
القرضاوي الفقيه.. والتجديد
يروي القرضاوي عن نفسه أنه ذهب إلى أحد بلدان جنوب شرق آسيا المسلمة، ووجد مزارعي المطاط يربحون أرباحا طائلة ولا يؤدون عنها زكاة، ووجد في المقابل مزارعي المحاصيل الأقل ربحا يدفعون الزكاة ملتزمين بها. إذن، الفقراء يعطون الأشد فقرا، والأغنياء لا يعطون بسبب القول المعتمد لمذهب فقهي معتبر بلا شك، ولكن عند تقرير ذلك القول لم يكن المطاط قد اكتشف، ولا أجداد من يزرعه قد اعتنقوا الإسلام ورضوه دينا، فأفتى بخلاف ذلك المذهب، ومضى مقررا وجوب الزكاة على مزارعي المطاط، مقررا ذلك، مدافعا عنه.
ولعل هذه الواقعة تحديدا تكشف سرّ لامذهبية القرضاوي، وسعيه وراء التيسير، وكذلك كثير من القضايا التي ألحّ عليها، تحت إلحاح العصر، والواقع، وانتهى فيها إلى آراء، وفتاوى، جعلته عند فريق ضالًّا، مضلًّا، وعند فريق آخر مجددا، أصوليا ذا عقل وقاد، بل إماما.
وتجديد القرضاوي تأسس على فرضيات فكرية كانت وليدة الحالة العامة في العالم الإسلامي، والحالة الإخوانية، والاستجابة لها، حتى لو لم تكن بطلب من الإخوان، لكنها كانت تلقى تجاوب الإخوان، وقبولهم لأفكاره، وآرائه، وأولى الفرضيات المستشفة من مقولاته هي أن في الإسلام نظاما لكل قضية في الحياة، وبهذا الاعتبار فإنه ينبغي أن يكون في الإسلام حل لكل قضية، وهذا الحل ينبغي له أن يستجيب للحياة، والواقع، ويتفاعل معها، وعليه فإن الاستجابة تحتاج إلى فهم الواقع، وتيسير التعامل المعاصر مع القضايا، والمقولات.
والفرضية الثانية المهمة أيضا هي الوسطية، ووسطية القرضاوي تميزت بالتعبير عنها بأساليب مختلفة، وطرق بلاغية، فالتمسك بالأصل، والاستجابة للعصر، شعارات غدت ترددها مدرسة القرضاوي الفقهية، وبسبب القرضاوي راج مفهوم الوسطية، وانتشر، وغدا من أبرز شعارات الصحوة.
وبين هاتين الفرضيتين ولدت مقولات القرضاوي الأخرى من التيسير، ومراعاة المقاصد، والمصالح، والحقيقة المهمة أيضا أن القرضاوي لم يغير مصطلحاته، ولم يجار “موضة” معينة، فلم يكن من ذلك النوع الذي يركب الموجة، وينطلق معها، بل كان يحافظ على مصطلحاته، وكلماته، واختياراته فيها، فلما كثر الاهتمام بالمقاصد لم يغير القرضاوي كلامه، ولم يدندن حول المقاصد تاركا المصطلحات الأخرى كما يفعل كثيرون، بل وضعها في موضعها، بخاصة أنه كان من المنادين بها.
القرضاوي فقيه سياسي، تناول مسائل السياسة، ونظّر لكثير من القضايا، وقدم طروحات سياسية، وربما كان من أوائل من أكد أنه ليس في الإسلام نظام بمعنى الوسائل السياسية، بل هناك نظام بمعنى القواعد المنظمة للعمل السياسي.
ولكن هل تغير موقف القرضاوي من المذاهب؟
في البلد ذاته في جنوب شرق آسيا عاد القرضاوي زائرا قبل 12 عاما، وكانت الدولة قد انقلبت إلى شيء آخر، وغدت دولة قوية، ناهضة، فقال لهم: “حافظوا على عقيدتكم، ومذهبكم الشافعي”، ربما كان هذا استصحابا لتحديات معينة حذر منها في تلك الحقبة.
ومن جانب آخر، فالقرضاوي فقيه سياسي، تناول مسائل السياسة، ونظّر لكثير من القضايا، وقدم طروحات سياسية، وربما كان من أوائل من أكد أنه ليس في الإسلام نظام بمعنى الوسائل السياسية، بل هناك نظام بمعنى القواعد المنظمة للعمل السياسي، ورحب بالديمقراطية، لكن بقي موقفه غامضا إزاء كثير من التفاصيل، وتمسك برؤية المواطنة لغير المسلمين، لكن ماذا عمّا يحلّونه هم؟ وتحرمه شريعتنا؟ فكان صاحب القول بقصر ذلك على مناطقهم هم، وفي هذا مخالفة بيّنة لمنطق المواطنة، ولكن هذا بعض ما قاله، فبقي كلامه في هذه النقطة دائرا حول حمى النموذج التاريخي الذي كان سائدا في زمن الخلافة التي صرح طويلا بالحاجة إليها بصورة أو بأخرى، متغنّيا بالماضي طويلا.
على أي حال، ربما كانت شخصية القرضاوي الفقهية هي أبرز مجالاته، ومحاوره، وهي الطابع الخالد الذي سيبقى مصاحبا له.
القرضاوي سعى لرأب الصدع بين البشير والترابي في خصومة السيف مع القلم، وخصومة التلاميذ مع شيخهم.
القرضاوي حركيا
وبمناسبة حديثنا عن الربيع العربي، ينبغي الحديث عن الجانب الحركي في القرضاوي أولا، فهذا الجانب أكثر ما يثير الجدال في حياة القرضاوي، وربما لو لم يكن القرضاوي منتميا للإخوان لذهب نصف الجدال، ولخفت ربعه، وبقي ربعه قويا، فأغلب الجدال حول القرضاوي ينصبّ في كونه أحد أكبر الأدمغة التي عملت في الإخوان، وآمنت بفكرهم، وانهمكت في خدمتهم زمنا ليس بالقصير، ولم يتخلّ عنهم، أو يتنكر لهم مهما بدا الوضع صعبا، والمحن كبيرة، بل بقي خطابه الديني العام خطاب الإخوان، وإن ترك بصمته بدوره في فقههم، وأعمالهم، وأفكارهم، والمقولات التي يرددونها.
والقرضاوي بهذا المعنى لم يعد منتميا لتنظيم الإخوان انتماء فعليا، بل هو انتماء فكري، فهو يدافع عن عبد المنعم أبو الفتوح رغم خروجه من تنظيم الإخوان، وينافح عن حق الترابي الإخواني المخالف للإخوان، وإن خالفه القرضاوي نفسه، ولكن القرضاوي في الوقت ذاته، وبحكم انتمائه للإخوان، كان يبحث عن كل ملمح إسلامي في أي زاوية، ليعمل على تلميعه، ونشر الإيمان بأمل قادم في الربوع.
والقرضاوي بهذا المعنى سياسي، تكلم في هدم مسجد بابري، ومحاصرة مجموعة من المسلمين في حضرت بال بالهند، ويدعو على صرب البوسنة، وكرواتها، ويخطب ضد الأنظمة السياسية التي تطارد الإسلاميين، وهكذا دواليك.
القرضاوي سعى لرأب الصدع بين البشير والترابي في خصومة السيف مع القلم، وخصومة التلاميذ مع شيخهم، وذلك بعد أن كان يدعو الله لتوفيق حكومة البشير، ولا يزال السودانيون عاتبين على القرضاوي في هذا الجانب عتابا يطول، وتطول أسبابه، على أنني أتوقف عند أمر مهم، فوساطة القرضاوي بين الخصمين، كانت منصبة على وحدة الحركة، والحزب، بينما غاب الوطن في الحديث بطوله.. فكان هذا عجبا.. كأنما الحركة والحزب هما الوطن بذاته، فإن صلحت الحركة صلح الوطن، وهذا ما يدعو للعجب.
القرضاوي على الصعيد الحركي واجه متاعب أخرى بعد عقد الألفية الثالثة الأولى، فقد تأخر في إدانة الطائفية ضد السنّة في العراق، وإن اتخذ موقفا حادا لاحقا، حتى إنه توقف عن دعوة التقريب مع الشيعة بسببها، وبسبب أحداث سوريا لاحقا.
لكن الربيع العربي يحتاج إلى وقفة مطولة.
علينا الإقرار بأن القرضاوي وجد متنفسا لخطابه السياسي بكل ما فيه بعد الربيع، فانطلق منظّرا، ومتحدثا، ومحاولا المواكبة، والسعي بخطواته الثمانينية، حتى أجهده ذلك الأمر.
القرضاوي والربيع العربي
هل كان القرضاوي سبب الربيع العربي؟ أم كان الموجّه الأبرز له؟ في الحقيقة إن الحركات التاريخية لا تنتظر أشخاصا ليوجّهوها أو يقودوها، بل المجتمعات تقود المثقفين، والفقهاء، والمفكرين، فمن لم يستجب سينحّى جانبا.. هكذا التاريخ، وهكذا حكايته.
فالربيع العربي حركة أكبر من كونها مؤامرة لتفكيك الدول العربية، وتحطيم مقدراتها، بل هو حركة جماهيرية، أدت إلى نتائج في الفكر، والممارسة على الجميع، فاضطر الجميع إلى تأييدها من أيمن الظواهري اليميني المتشدد، وحتى حمة الهمامي اليساري المتطرف، وعلينا الإقرار بأن القرضاوي وجد متنفّسا لخطابه السياسي بكل ما فيه بعد الربيع، فانطلق منظّرا، ومتحدثا، ومحاولا المواكبة، والسعي بخطواته الثمانينية، حتى أجهده ذلك الأمر، وما يعتب عليه السودانيون الإدانة على استحياء لوقائع سبتمبر/أيلول 2013 في السودان، إذ لم يعل صوته بإدانتها كما حدث في بلدان أخرى، وذلك ما ترك مرارة في النفوس، وعلى أي حال فإن الربيع كانت يحتاج إلى مفكرين أكثر من حاجته للفقهاء، وهذا ما سأناقشه لاحقا.
القرضاوي.. وماذا بعد؟
كان القرضاوي فوق ما ذكرته، شاعرا، وأديبا، كما يكون الفقهاء شعراء، فله قصائد بسيطة التصوير، تركز على الوحدة العضوية الفكرية، لا على الصورة، والخيال، تعبر عن الأفكار أكثر من المشاعر، وعن تطلعات الروح أكثر من انكسارات العاطفة.
والقرضاوي أب أنجب أولادا رزقوا كثيرا من ذكائه، وقليلا من تمرده، فقد اتجهوا لاتجاهات أكاديمية هادئة، وانطلقوا فيها عدا عبد الرحمن المتمرد، تمرد الشعراء، والثوريين..
إن ما يجعل المرء مدرسة ليس غزارة الإنتاج فحسب، ولا الإتيان بالجديد في الأقوال، بل تراكم ذلك، واتضاح المنهجية، واستمرارها، ثم استقرارها، وإيجاد من يسير بها للأمام، لكن في الغالب لن نجد فقيها ينتسب لمذهب القرضاوي، فذلك شأن بعيد، وأخشى ألا يتم تفريغ فتاواه، وضبط اجتهاداته الأصولية، فتبقى أقواله في الفقه الوسيع، وفقه المعاصرين وحسب، وقد ترك وراءه آثاره مكتوبة منظمة، وفيها قواعده التي سار عليها، وارتضاها، وترك وراءه تلاميذ كثيرين يحملون أفكاره، وإن اختلفت رؤاهم، ومشاربهم هم أيضا.
أما القضايا الأخرى فقد تجاوزت الأسئلة من حيث العمق، والتحليل، وزوايا التناول اجتهادات القرضاوي وآراءه، فالسائد الآن أن الإسلام قدم في بعض الجوانب نظما مفصلة، وفي بعض الجوانب أصولا قيمية، وجوانب معينة تاركا للناس التصرف بحرية في أغلب الجوانب، والنقاش الفكري اليوم يطرح أسئلة كثيرة، ربما لم يكن القرضاوي قادرا على الإجابة عنها، لكن على الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التصدي لها، والتعامل معها.
وداعا أيها القرضاوي، إذ لا يمكن تجاوز أثرك، أو تركه غفلا.