الصادق الرزيقي يكتب: ..أما قبل..ماذا بعد الزرق ..؟
الصادق الرزيقي يكتب: ..أما قبل..ماذا بعد الزرق ..؟
زرت منطقة الزرق بولاية شمال دارفور مرتين، المرة الأولى كانت في الهزيع الأخير من العام 1987، ومفتتح العام الذي تلاه، وكنت يومئذ صحفياً مبتدئاً بلا تجربة كل عمري الصحفي لم يتجاوز بضعة أشهر في صحيفة
(ألوان) وما ادراك ما (ألوان) في ذاك الأوان، كان حسين خوجلي في شرخ الشباب، مصادماً مقاتلاً لا يضع عن كاهليه السلاح، لا يرتاح من معركة صحفية إلا وخاض غمار غيرها، وكان مدير التحرير هو الدكتور محمد
محجوب هارون بهدوئه واتزانه المهني والفكري وسمته المحبب المريح، وقد رأى هارون أن أُوفد بحكم انتمائي لدارفور، لمتابعة المعلومات التي كانت تتواتر عن تواجد قوات أجنبية دخلت إقليم دارفور المضطرب مع إشتداد أوار الحرب الليبية – التشادية، وجل المعلومات كانت
تتحدث عن وجود قوات الشيخ إبن عمر وقوات ( CDR) وبقايا فصائل من تحالف حركة فرولينا ( حركة تحرير تشاد )، وكل هذه الفصائل تمثل في تلك الأيام جزءاً من ما يسمى بالفيلق الإسلامي الذي أنشأه الزعيم الليبي معمر القذافي لمواجهة النفوذ الأمريكي والفرنسي في أفريقيا جنوب الصحراء وحربه مع جارته الجنوبية تشاد.
زرنا يومها المنطقة الشمالية من شمال دارفور، وكان قد سبقنا إلى تلك الوهاد والفيافي، صحفي نابه حاز على كل التفاصيل والمعلومات وحقق سبقاً صحفياً نادراً يومذاك وهو السفير فيما بعد الراحل العزيز الأستاذ ماجد يوسف الذي كان يعمل صحفياً بصحيفة الراية.
لم تكن منطقة وادي الزرق ذات بال و صيت، مجري و مسيل ماء موسمي جاف، خال من السكان عند الطرف الجنوبي للأراضي الصحراوية الممتدة من هناك حتى وادي هور، يمتد منها الطريق إلى الصحراء الفسيحة وواحاتها حتى جبل العوينات ومنها إلى ليبيا، تتراءى
شجيرات متوسطة الطول نبتت مع إمتداد وادي الزرق وهو ينداح سطحياً بلا حواف، لا أثر للحياة سوى معالم باهتة خطتها على الأرض الرملية إطارات الشاحنات التجارية المتجهة أو القادمة من ليبيا، بجانب آثار نوق و إبل الرعاة من قبائل العرب والزغاوة والعطوية المنتشرين في المنطقة .
قبل أن نصل إلى منطقة الزرق، وصلنا منطقة ( الوخايم ) التي جعلتها قوات الزعيم التشادي ابن عمر معسكراً لها، هناك مجرى وادٍ يشق الرمال ومبنى قديم هو عبارة عن (دونكي الوخايم ) وأكواخ و مبانٍ حكومية متهالكة، و مخزن من الزنك علاه الصدأ يطلع مع ضوء الشمس كوجه
محارب قديم، و توزعت في القرية الصغيرة الخالية أشجار من الحراز والسيسبان علت بأغصانها في ذلك الضحى عند طرف الوادي بتربته الغامقة تحيط به كثبان رملية بلا نهاية، ولم تزل طازجة في ذلك المكان المعارك التي دارت في تلك المناطق بين قوات الشيخ إبن عمر
وقوات الجيش التشادي الحكومي التابع للرئيس حسين هبري التي توغلت داخل الأراضي السودانية، وكانت حكومة السيد الصادق المهدي قد سمحت بالتواطؤ مع القذافي بدخول قوات المعارضة التشادية دارفور مناطق ( بير ميرفي – وادي هور )و (الوخايم ).
حتى تلك اللحظة لم تكن منطقة وداي الزرق يؤبه لها، ولم تظهر أية مرويات عنها ولا عن تاريخها أو النزاع حولها بين الرزيقات و الزغاوة خاصة الرزيقات الماهرية، وكثير من مناطق شمال دارفور يدور حولها لغط ومنازعات بين القبائل حول تبعيتها، تتعدد وتتباين أسماء المناطق
وتتقاطع التبريرات لدى كل طرف تتكيء كل رواية قبلية على جذر تاريخي محكي، غير أن الامور لم تتطور إلى احتكاكات ومنازعات وأطماع.
الزيارة الثانية لمنطقة الزرق كانت في منتصف سبتمبر 2018، وهي جزء من زيارة طويلة لثلاث من ولايات
دارفور ( وسط وجنوب وشمال ) رتبتها شركة الجنيد التابعة للدعم السريع، لعدد من رجال الأعمال والمال في السودان وسياسيين وقادة من دارفور وكردفان ربطتهم صداقات وعلاقات خاصة مع قيادة الشركة والدعم السريع.
والغريب أنه قبيل انطلاقة الرحلة نحو الزرق بساعة في ذاك الصباح، كنا قد تحدثنا هاتفياً حديثاً أخوياً حميماً من داخل منزل والي شمال دارفور ونحن نتأهب للمغادرة مع السيد الدكتور عبد الله أدم حمدوك صباح يوم 13 سبتمبر 2018م، لتهنئته على إختيار الحزب الحاكم المؤتمر الوطني له وزيراً للمالية، وتبادلنا الحديث معه ( سلمان سليمان الصافي، اللواء عبد الله صافي النور،
يوسف عبد المنان، الخير الفهيم المكي وكاتب هذه السطور ) وكان حمدوك متردداً رغم موافقته المبدئية، وجري بعده مباشرة اتصال آخر بين أفراد من هذه المجموعة مع الدكتور فيصل حسن إبراهيم مساعد رئيس
الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني حول ما جرى مع حمدوك وإمكانية أن يسافر إلى أديس أبابا الأخوين سلمان سليمان الصافي و يوسف عبد المنان لإتمام التفاهم مع حمدوك واصطحابه إلى الخرطوم لأداء القسم وزيراً للمالية.
تحركنا في ذلك الصباح من الفاشر عبر رحلة طويلة بالسيارات في اتجاه الشمال نحو منطقة الزرق، مررنا بمليط الجميلة وكانت عامرة مطمئنة زاهية، ثم توغلنا عبر الوديان والجبال حتى منطقة ( وادي البعاشيم ) ثم ( ساني حيي ) مروراً ب(الوخايم ) ثم وادي الزرق.
وصلنا الزرق التي كانت تنهض متعجلة كبلدة صغيرة، بدأت تطل فيها بعض المنشآت كالمدارس والمركز الصحي والسوق ومحطات المياه – أكثر من 20 دونكي ومنازل المواطنين وكلها من المواد المحلية البسيطة، وكانت توجد دراسات وبحوث مكتملة لجعل الزرق حاضرة
جديدة تنهض من الصفر ويتم استقطاب وتوطين الأهالي إليها من كل مكان خاصة الرحل مع العمل على توفير المراعي للمشاية والإبل والضأن والخيول.
زرنا محطة الجمارك حيث وجدنا مكاناً مهولاً عبارة عن
حوش ضخم مساحته تبلغ بضع كيلومترات مربعة تقف بداخله آلاف السيارات الخاصة المهربة من ليبيا (بوكوحرام) صادرتها قوات الدعم السريع وهي تخص مواطنين .
كانت هناك مشروعات أخرى لم نزرها لكن أثرها كان واضحاً وهي معسكرات القوات التابعة للدعم السريع ومنشآت عسكرية، وكانت هاك أفواج
هندسية من شركات تم التعاقد معها لبناء مستودعات الوقود ومقرات القيادة وتجهيزات اخري .
في وسط البلدة كان مقر العمدة جمعة دقلو الذي استقبلنا فيه، بجانب إدارة التعليم المدرسة والمركز الصحي، تجولنا جولة سريعة داخل الزرق التي لم تكن المكان الذي تم تحديده إقامتنا واتجهت بنا السيارات شمالاً بطريق رملي وعر استمرت المسير ليلاً ما يقارب الساعتين
والنصف في عمق الصحراء وتلوح بين التلال والظلال وأنوار السيارات نباتات صحراوية جافة حتي تجاوزنا منطقة (مجور) و(السبعاني) حيث أقيم في منطقة خالية وسط الصحراء مخيم فاخر أقامنا فيه ليلتين، تخللتها برامج ورحلات صيد ومناقشات حول زراعة القمح في
هذه الأراضي الممتدة وحفر آبار المياه للري باستخدام الطاقة الشمسية واستكشاف المعادن، هبطت في هذا المكان مرتين طائرات عمودية عسكرية قادمة من الفاشر غادر على متنها بعض المتعجلين في ثاني أيام الزيارة.
تعد منطقة الزرق مفصل مهم ومجمع طرق صحراوية
تربط بين أربعة بلدان السودان وتشاد ومصر وليبيا، وتتحكم في طرق التجارة والسفر إلى هذه البلدان خاصة ليبيا، وبعيدة عن الأنظار والتحركات الحكومية اليومية، إختارتها قيادة الدعم السريع في ذلك الوقت هذه المنطقة لتكون مقراً وحاكورة وبديلاً أو قل موئلاً شمالياً بديلاً
لمنطقة أم القرى بجنوب دارفور . بجانب أنها ستكون القاعدة العسكرية الأولى للتدريب والتسليح والمخازن والمستودعات و أغراض أخري.
في طريق العودة عن طريق الوخايم مررنا بمنطقة (رهد الجنيق) التي كانت مقر سلطنة قبيلة الخذام قبل ما
يقارب السبعمائة عام تقريباً، دارت فيها معارك بين أهل السلطنة والقبائل العربية ومعروفة في التراث الشعبي بقصة (ناقة فني) التي كانت سبباً في خراب سلطنة خذام ومقتل السلطان (شرنقو) ولدي مرورنا بتلك
المنطقة التاريخية ومعالم رهد الجنيق قال الأخ العزيز يوسف عبد المنان ساخرا وهو المنتمي لقبيلة الخزام (هنا حدثت أول إبادة جماعية في تاريخ السودان) !
مررنا بيير مزة وبعض الحواضر العامرة حتي وصلنا الى مدينة كتم ومنها الى الفاشر وكلنا يوقن أن يوماً ما وربما عن قريب سيكون هناك شيء في الزرق …!!