الشيخ والسلطان.. هكذا أسهم الصوفيون في بناء الدولة العثمانية
نعلم اليوم من خلال المئات من الدراسات والمؤلفات والمصادر التي لا تزال تكشف المزيد من الأضواء على تاريخ الدولة العثمانية، بجميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية، أن التصوف لعب دورا كبيرا في مسيرة تطور هذه الدولة منذ نشأتها وحتى آخر لحظات سقوطها. لقد كان التصوف موجودا من قبل مجيء العثمانيين، بل من قبل السلاجقة في الأناضول، فضلا عن مجيء الأتراك إلى الشرق الأوسط.
وقد أدى الصوفية الأقدمون أدوارا أرحب من الأدوار التي حصرها بعض القراء أو الباحثين في الزهد والتقشف والبعد عن زينة الحياة الدنيا، حيث رأينا مشاركة واسعة منهم في مقاومة الأعداء بالنفس والمال، وفي نشر الأخلاق الحميدة في المجتمع، وفي مقاومة الظلم. لذلك، حين أُنشئت رباطات الثغور لمقاومة هجمات الدولة البيزنطية المسيحية الشرقية في الأناضول وشمال أفريقيا، تحولت هذه الرباطات بمرور الزمن إلى أماكن تجمُّع للمتصوفة.
كان هذا هو الحال مع فرق الصوفية في الأناضول السلجوقية والعثمانية، والتي عُرفت باسم “الأخيَّات” أو “الأخويات”، حيث كان لها تأثير كبير لا في نشر الأخلاق الحميدة بين طبقات الحرفيين والصناع والزرّاع وغيرهم من أبناء الطبقات الوسطى في تلك الحقب فحسب، بل كان تأثيرها جليا كذلك في إطار اتساع رقعة الدولة العثمانية، لتنطلق من طور الإمارة إلى السلطنة إلى الإمبراطورية العالمية.
فما هي “أخويات” الأناضول؟ ومن أين استقت معارفها الصوفية والأخلاقية؟ وما أبرز هذه الأخويات التي استطاعت المساهمة بجانب الجيوش العثمانية النظامية في توسيع رقعة الإسلام ونشره في غرب الأناضول/تركيا فضلا عن أوروبا الشرقية (الرومللي)؟
مؤسسة “الفُتوَّة”
ثمة من يُرجع بدايات مفهوم التصوف إلى أهل الصُّفة من فقراء الصحابة الذين كانوا يبيتون في المسجد النبوي لا يكادون يعثرون على ما يُقيم أودهم، ويلبسون من الثياب أخشنه، وهو الصوف، ليتخذ بعض التابعين ذلك سنة في العبادة والتقشف. وقد كان تطور الحركة الصوفية متوازيا مع تطور المذاهب الفقهية والعلوم الإسلامية من القرن العاشر الميلادي إلى الرابع عشر، حيث أذاب الصوفية فكرهم وممارستهم في بوتقة صيغ أخرى من الإيمان والعبادة، صحيح أن الفعل الصوفي فعلٌ فرداني، لكن لقاءات الصوفية في الأربطة والزوايا أضفت عليهم هوية جماعية.
ثمة آراء مختلفة حول ظهور أخويات الأناضول التي عملت على شد عُرى الأخلاق والتضامن الاجتماعي طيلة قرون، وكان لها دورها في توسيع رقعة الدولة العثمانية فيما بعد، فالرأي الأشهر يقول إن هذه الأخويات ارتبطت تاريخيا وثقافيا بحركة الفتوة التي أشرف عليها الخليفة العباسي الناصر لدين الله (575-622هـ)، وهي حركة أراد منها السلطان الناصر العباسي استغلال الدعوة الصوفية لتقوية منصب الخلافة السياسي.
فالفتوة في اللغة صفة “الفتى” اشتُقّت منه كالرجولة من الرجل، والفتى في اللغة هو الشاب الحدث، واستُعيرت الفتوة منذ أيام الجاهلية للشجاعة واستُعير الفتى للشجاع، وقد علق بـ”الفتى” معنيان أصيلان، هما الشجاعة والسخاء، ثم اتسعت معاني الفتوة بمرور الزمن حتى أصبحت علامة على المروءة والإيثار، حتى اشتُهر عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قوله: “الفتوة أن توسع على أخيك من مال نفسك ولا تطمع في ماله، وتنصفه ولا تطالبه بالإنصاف، وتكون تبعا له ولا تطلب أن يكون تبعا لك، وتحتمل منه الجفوة ولا تجفوه، وتستثقل قليل برّه وتستقل ما يصل منك إليه”.
وإذا كانت الفتوة قد انقسمت إلى طوائف فيما بعد، لا سيما فتوة الشطّار والعيارين والأحداث، وهم أشبه ما يكونون بجماعات المهمشين من المجرمين الذين اختلط بإجرامهم روح من التسامح والمرحمة فيما بينهم، فإن فتوة الصوفية استمرت على حالها القديمة من حُسن السُّمعة والمسالمة والمصافاة، وهم الذين آمن بهم ورعاهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وانتمى إلى طريقتهم، وكان يُرسل إلى ملوك وأمراء البلدان المجاورة له بضرورة الانتماء إلى مذهب الفُتوة، إذ أخبرنا ابن أبي الدم الحموي (ت642هـ) في تاريخه المعروف بـ”التاريخ المظفري” أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله تفتَّى له -أي اتبع طريقة الفتوة لأجله- “خَلقٌ من الملوك والأكابر”.
وإذا كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله قد أراد من وراء فتوّته أن يقوي من موقفه السياسي في العراق والعالم المحيط به من خلال إعادة تعريف علاقات التعاضد والأخوة والتراحم بين أفراد المجتمعات الإسلامية، فإن أخويات الأناضول ظهرت بفضل السفارة التي أرسلها الخليفة العباسي الناصر للسلطان السلجوقي غياث الدين كيخسرو الأول الذي قبل هذه الدعوة، وفتح المجال للفتوّة والأخويات في بلاده.
ثمة رأي يقول إن هجوم المغول على الأناضول منذ عام 643هـ/1245م بعد وفاة الخليفة العباسي بعشرين عاما فقط، قد أدى إلى إحداث نوع من البلبلة والتشظي والتناحر الداخلي بين التركمان أنفسهم، فضلا عن ضعف سلاجقة الروم أو الأناضول وتبعيتهم فيما بعد للمغول، وهم الذين قضوا على الدولة العباسية في العراق سنة 656هـ/1258م، فكان دخول الصوفية وإنشاء هذه الأخويات من خلال الزوايا والأربطة هو عامل القوة الذاتي لإعادة اللحمة الأخلاقية والأخوية بين أبناء الأناضول. في القرن التالي، وتحديدا في العقد الرابع من القرن الثامن الهجري، زار الرحالة الشهير ابن بطوطة بلاد الروم “الأناضول”، وكان نزوله عقب انفراط عقد السلاجقة وتفتت الأناضول بين الأسر التركمانية أو “بكوات الأناضول”.
السلاطين والأخويات
خلال رحلته، قدم لنا ابن بطوطة معلومات مهمة عن هذه الأخويات وتعريف الـ”الأخي” الذي صار بمثابة المرشد والأب الروحي لأصدقائه من أرباب المسلك الصناعي أو الحرفي أو التجاري، يقول ابن بطوطة: “واحدُ الأخيةِ أخيّ، على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلّم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التّركمانيّة الروميّة (الأناضول)، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظّلمة. والأخيُّ عندهم: رجل يجتمع عليه أهل صناعته وغيرهم من الشبّان الأعزاب والمتجرّدين ويقدّمونه على أنفسهم، وتلك هي الفتوّة أيضا، ويبني زاوية ويجعل فيها الفُرش والسُّرج، وما يحتاج اليه من آلات… ويسمّون بالفتيان، ويُسمّى مقدّمهم كما ذكرنا الأخي، ولم أر في الدنيا أجمل أفعالا منهم”.
وقد ارتبط أرطغرل غازي والد عثمان غازي، مؤسس الدولة العثمانية، على الأرجح بالأخية، وخصّ لها تقديرا واحتراما مبالغا فيه، ويبدو أن ولده عثمان ارتبط منذ نعومة أظفاره “بأخية” منطقته التي كان شيخها رجل جمع بين اللسان العربي والتركي والفارسي، وهو الشيخ “إده بالي” الذي وُلد في منطقة كرمان جنوب قونية، وتلقى علومه في بلاد الشام في النصف الأول من القرن السابع الهجري، ثم جاء واستقر في منطقة “بيله جيك” في غرب الأناضول، واتبع الطريقة الوفائية التي أسسها الشيخ أبو الوفاء البغدادي، وكان في الوقت عينه يترأس منظمة الأخية أو الأخوية في تلك المنطقة، بل ارتبط عثمان بعلاقة نسب بهذا الشيخ حين زوّجه ابنته، وكان ملهمه الروحي وأستاذه الأخلاقي وموجّهه السياسي أيضا.
لم يكن الشيخ “إده بالي” وحده هو الشخصية الصوفية الفذة التي قامت على أسسها العلاقة المتينة بين السلطان والشيوخ طوال الدولة العثمانية، فقد كان من حظ الأناضول أن جاءها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي -ولا سيما من خراسان- شيوخ من كبار الصوفية كان لهم تأثير لربما ناهز تأثير الشيخ “إده بالي” في مسيرة الدولة العثمانية، مثل: الشيخ “صدر الدين قونوي”، و”مولانا جلال الدين الرومي”، و”طورسون فقيه”، و”آخي إفران”، والشيخ “بابا إلياس”؛ وقد أدرك الغازي عثمان ومن جاء من بعده من السلاطين مدى تأثير هؤلاء في السياسة والمجتمع، وبمساندتهم أتم أورخان بن عثمان فتح مدينة بورصة، ثم توجه إلى روم إيلي (أوروبا الشرقية والبلقان). وقد كان للعلماء والمشايخ أمثال “الملا داوود القيصري” و”جاندرلي قره خليل” و”قراجه أحمد” و”كيكلي بابا” نصيب كبير من هذه الفتوح.
وعندما سجل السلطان مراد البطولات الكبيرة في معركة “قوصوة” (كوسوفا)، فإنه استند علاوة إلى قواده من أمثال “أورانوس” و”قطلو بك”، وإلى كبار “الأخيان” أو “الأخية”، والعلماء أمثال “ملا محمد جمال الدين آق صرايلي” و”ملا فناري” و”قوجا أفندي”، ومثله حفيده السلطان بايزيد الذي استطاع فتح المزيد من بلدان البلقان، فحين كسب معركة “نيغبولو” لم يكن يشاركه فقط قواده العسكريون الكبار أمثال “علي باشا” و”تيمورطاش باشا”، بل وشاركه كبار الأخيان والصوفية والعلماء، وعلى رأسهم “الشيخ حامد بن موسى القيصري” و”الشيخ محمد بخاري” و”يونس إمره” وغيرهم.
طوائف الأخويات.. ومشاركة النساء
يؤكد المؤرخ الكبير محمد فؤاد كوبريللي (ت1966م) في كتابه “قيام الدولة العثمانية” أن الأخية الفتيان، من بين كل طوائف الأناضول الصوفية والاجتماعية الأخرى، كانت لهم أدوار كبيرة ومؤثرة في تأسيس الدولة العثمانية، بل وفي إنشاء الجيش الإنكشاري. ويقدم لنا كوبريللي اعتمادا على تاريخ عاشق زاده باشا (ت1484م)، المعروف بـ”مناقب تواريخ آل عثمان”، أربع طوائف من هذه الأخويات كان لها الفضل الكبير في الانضمام إلى الجيوش العثمانية أثناء عمليات التوسع والفتح، سواء في غرب الأناضول أو الرومللي، حتى فتح إسطنبول وما تلاها.
وبالعودة للمؤرخ العثماني “عاشق باشازاده” سنجد أن هذه الطوائف الأربع هي: “غازيان روم” أو أبطال وغزاة الروم، وكانوا يُعرفون قبل عصر العثمانيين بلقب “آلب”، وجمعهم “آلبلار” وتعني الأبطال، وهم الذين نذروا أنفسهم في سبيل وطنهم وأمتهم ودينهم ولم يترددوا في التضحية بأنفسهم وأموالهم في هذا السبيل. ثم “آخي تشكيلاتي” أو “تنظيمات الإخوة”، وهي التي ظهرت بعد احتلال المغول للأناضول في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، وقامت هذه التنظيمات الصوفية على لم شمل الناس ونشر الإخاء والمحبة بينهم، وكان على رأسها الملهم الصوفي الكبير “مولانا جلال الدين الرومي” والشاعر الصوفي الشهير “يونس إمره” و”آخي إفران”، وهذا الأخير أسهم بقوة في إنشاء زوايا الأخويات في طول البلاد وعرضها.
ثمة طائفتان أخريان ذكرهما عاشق زاده باشا في تاريخه، وهما طائفة “باجيان روم” أو “روم باجيلاري”، وتعني “أخوات الروم” أو “أخوات الأناضول”، وهي مؤسسة جمعت نساء الأناضول في أواخر عصر السلاجقة وأوائل العصر العثماني تحت مظلة التصوف والزوايا، واللافت أن هذه الفئة أسهمت عسكريا في حروب العثمانيين المبكرة ضد البيزنطيين، ويصفها العلامة فؤاد كوبريللي بـ”المنظمة النسائية” التي ارتبط بها قطب الطريقة البكتاشية في الأناضول الحاج بكتاش، وقد أشار المؤرخ عاشق زاده باشا إلى هذا صراحة في تاريخه.
أما الطائفة الأخيرة فكانت “أبدلان الروم” أو “أبدال الأناضول”، وأُطلقت على صوفية ودراويش خراسان الذين جاؤوا واستوطنوا الأناضول، واشتركوا بأنفسهم -رغم فاقتهم وفقرهم- في حروب العثمانيين وتوسعاتهم في غرب الأناضول أو تركيا وأوروبا الشرقية وحتى الوسطى، وقد عُرف هؤلاء بالدراويش المجذوبين، وقد أخبرنا عصام الدين طاشكبري زاده في تاريخه المعروف بـ”الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية” عن بعض هؤلاء الأبدال أو الدراويش ممن اشتركوا في معارك السلاطين العثمانيين، ومنهم الشيخ المجذوب موسى أبدال الذي “حضر مع السلطان أورخان فتح بروسا (بورصة)، وقبره مشهور هناك”.
وهكذا أدى التصوف والمتصوفة، رجالا ونساء من كل مختلف الطرق الصوفية آنذاك من الخلوتية والرفاعية والمولوية والوفائية والبكتاشية وغيرها، والتي كان عمادها صغار الدراويش المخلصين الذين انضووا تحت طوائف مختلفة ضمتها جميعا “أخويات” وزوايا وأربطة الأناضول؛ دورا مفصليا ومحوريا في توسيع رقعة الدولة العثمانية، ونشر الإسلام في غرب تركيا وأوروبا الشرقية والوسطى، ولعله لهذا السبب ظلت العلاقة بين الدولة العثمانية والتصوف، أو بين الشيخ والسلطان، وثيقة الصلة حتى أيامها الأخيرة.
____________________________
المصادر:
- إيرا ميرفن لابيدوس: تاريخ المجتمعات الإسلامية 1/260.
- ابن الفوَطي: تلخيص معجم الألقاب 4/386.
- مقدمة مصطفى جواد لكتاب الفتوة لابن المعمار البغدادي ص52.
- ZİYA KAZICI, AHİLİK
- رحلة ابن بطوطة 2/163.
- شميشيرغيل: تاريخ سلالة آل عثمان 1/50.
- الدولة العثمانية المجهولة ص55.
- السابق ص56.
- محمد فؤاد كوبريللي: قيام الدولة العثمانية ص162.
- الدولة العثمانية المجهولة ص57.
- AŞIKPAŞAZADE, OsmanOğulları’nın Tarihi, s 571.
- طاشكبري زاده: الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية ص12.