السر في “ماسكيروفكا”.. لماذا تتفوق الاستخبارات السوفياتية على الغرب؟
مقدمة الترجمة:
كثيرا ما يوصف الرئيس الروسي بوتين بأنه وريث لعرش القيصرية الروسية، والحقيقة أن هذا الوصف لا يخلو من وجاهة، فحين يتعلق الأمر بعمل الاستخبارات تحديدا، فإن موسكو تتوارث نفس التقاليد وتطورها منذ زمن القيصرية، وهو ما ضمن لها تفوقا تاريخيا على الغرب في هذا المضمار. يتناول هذا المقال أهم التقاليد الاستخباراتية الروسية، المعروف باسم “ماسكيروفكا”، وكيف يوظفه بوتين اليوم في حربه ضد أوكرانيا.
نص الترجمة:
يحلو لفلاديمير بوتين أن يربط بين الاتحاد الفيدرالي الروسي اليوم والإمبراطورية الروسية القديمة، وهو في الحقيقة مُحِق بوجه من الوجوه، فقد كانت الإمبراطورية أكثر الدول قمعية في زمانها بما حازته من جهاز شرطة صنعته على عينها، والمعروف باسم “أوخرانا”. وقد تعلَّم الثوريون والثوريات الروس، الذين دشَّنوا فيما بعد الدولة السوفياتية، من أساليب “أوخرانا” الذي لم يطاردهم فحسب، بل وورَّطهم في شباكه دون علمهم في لُعبة مُعقَّدة ألصق فيها التهم بزملائهم، ومن ثم نجح في تنفيذ ما أراده بواسطة أعدائه أنفسهم.
يتمحور عمل الاستخبارات حول الكشف عن المعلومات، أما عمل الاستخبارات المضادة فهو جعل تلك المهمة عصيبة على من أراد القيام بها. وفي رُكن بعيد من عالم الاستخبارات المضادة تقع العمليات المُصمَّمة، لا لإرباك العالم فحسب، بل ولتغيير مجريات الأحداث فيه أيضا، وهو ما يُعرَف بالروسية باسم “ماسكيروفكا” أو “بروفوكاتسيَّا”. لقد اشتهرت المؤسسة الأمنية البلشفية، المعروفة اختصارا باسم “تشَيكا”، بتبنِّي أساليب “أوخرانا” والتوسُّع فيها، حيث منحتها الأيديولوجيا الشيوعية حياة جديدة. ووفقا لهذا المزيج الأمني-الشيوعي، ليس هناك أبرياء على الإطلاق، إذ اتصل الجميع بالصراع الطبقي بطريقة أو بأخرى، ومن ثم فإن استخدامهم ضد بعضهم بعضا كان أمرا مشروعا.
التحريض والاستخبارات المُعقَّدة.. تقليد روسي طويل
بفضل التقاليد المؤسسية والأيديولوجيا، تفوَّقت الأجهزة السوفياتية على نظيرتها الغربية، ففي مطلع العشرينيات من القرن الماضي، حين كانت الدولة السوفياتية مُعرَّضة للضغط الخارجي، نفَّذ “تشَيكا” عملية اسمها “الثقة”، وأرسل عملاءه إلى الخارج على هيئة أعضاء في منظمة سرية تعمل داخل الاتحاد السوفياتي، وقد أخبروا الأجهزة الأمنية الأوروبية بأنهم معارضون للنظام السوفياتي ويستطيعون إسقاطه، وأنهم يحتاجون إلى الأموال ليس إلا. وأثنى وجود تلك المنظمة (المعارضة كما يُفترض) دول أوروبا عن التدخُّل مباشرة ضد الاتحاد السوفياتي، في لحظة أمكن فيها لتدخُّل استخباراتي أوروبي أن يؤثر سلبا بالفعل على موسكو؛ كما جلب العملة الصعبة بطبيعة الحال إلى خزانة “تشَيكا”.
بالمثل، تفوَّق جهاز الشرطة السوفياتي أثناء الحرب العالمية الثانية على نظيره الألماني المعروف بـ”الغِستابو”، وبعد الغزو الألماني والسوفياتي المشترك لبولندا عام 1939، انقسمت بولندا بين القوتين، وتحوَّلت أراضيها إلى ساحة لاختبار الأساليب الأمنية والاستخباراتية لدى البلدين. وفي حين مارس الغِستابو الاعتقال والقتل والتعذيب، فإن المقاومة البولندية تواصلت. أما تحت الاحتلال السوفياتي، فلم تكُن هناك مقاومة بولندية، إذ إن جهاز الشرطة السوفياتي ما إن اعتقل أحدهم حتى نجح في قلب ولائه لصالح موسكو، ثم أرسله من جديد عميلا سوفياتيا. وقد انتهجت موسكو ذلك الأسلوب حتى باتت لها جماعات سرية كاملة تنفِّذ ببساطة ما أراده السوفيات، وحينها فقط بدأت روسيا في اعتقال الجميع وإعدامهم أو إرسالهم إلى معسكرات العمالة القسرية المعروفة بالجولاج.
تكرَّر النهج نفسه أثناء الحرب الباردة، ولو أن الحرب كانت محض نزال استخباراتي بين القوتين، لتضاءلت فُرَص الولايات المتحدة في الفوز بها، إذ إن الأميركيين مثلهم مثل الأوربيين من قبلهم، لا يملكون حسِّ الارتياب الغريزي، ولا العادات الخلَّاقة التي جُبِلت عليها الأجهزة السوفياتية، ولا السنوات الطويلة من الخبرة الكافية للكشف عن عمليات التحريض الموجَّهة لهم.
بيد أن “ماسكيروفكا”، أو الخديعة، أتت بأثمان باهظة، فما إن يصبح العمل الوحيد لأحدهم هو أن يحرِّض على أعدائه، حتى يرى شُبهة التحريض في كُل ما يحيط به، وهذا بالضبط ما حدثت حين أدت سياسة التنظيم الجماعي لستالين (توحيد ملكية الأراضي الزراعية ضمن مزارع جماعية خاضعة لسيطرة الدولة)* إلى مجاعات كبرى في أوكرانيا السوفياتية، وجَّه الرجل اللوم إلى عملية استخباراتية بولندية، وكان هذا مُضحكا، لكن الناس صدقوه. وقد صدَّق “آرثر كوستلر”، الروائي والناقد البريطاني الهنغاري*، الموجود في مدينة “خاركيف” الأوكرانية آنذاك؛ تلك الدعايا، حتى إنه اتهم الفلاحين الجوعى ذوي البطون المنتفخة بأنهم مُحرِّضون.
استطاعت السلطات السوفياتية إجراء المحاكمات الصورية الشهيرة في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان أحد أسباب ذلك هو أن القصص المروية عن المُتهمين، ورغم استحالة تصديقها، انسجمت مع مسرح واسع من العرائس قاد فيه كُل خيط إلى تشكُّك الجميع في الواقع الظاهر المحيط بهم، تماما مثلما يحدث في غُرفة مليئة بالمرايا. وفي أثناء حملات “التطهير”، سرت دعوات “لنزع الأقنعة” عن أشخاص كُثُر رُغم أنه لم تتوفَّر أدلة قانونية تقليدية ضدهم، وهي طريقة تفكير تصبح منطقية حين تسود “ماسكيروفكا” حياة الجميع.
في النهاية، استغرق ستالين في التفكير المُفرِط حيال الواقع، حتى إنه أخفق في قراءة بعض سماته الجوهرية، فقد بات جليا بحلول ربيع عام 1941 أن ألمانيا تستعد لخيانة حليفها السوفياتي والبدء في الغزو، حيث احتشدت القوات الألمانية على الحدود المشتركة بين القوتين منتصف بولندا. وقد تلقَّى ستالين أكثر من مئة تحذير استخباراتي، لكنه تجاهلها جميعا، وآثر أن ينظر إليها بوصفها تحريضا بريطانيّا صُمِّم لتأليب السوفيات والألمان على بعضهما بعضا، وهو خطأ أفضى إلى مقتل ملايين الضحايا.
ماسكيروفكا إلكترونية.. بوتين يرث التقليد في القرن الجديد
يُعَد بوتين، الضابط السابق بجهاز الاستخبارات السوفياتي (KGB)، وريثا لذلك التقليد الاستخباراتي الروسي. لقد كان بوتين مجهولا تماما حين اختاره “بوريس يلتسين” خليفة له في أغسطس/آب 1999، واقتصرت نسبة الرضا الشعبي عنه على 2% فقط. بيد أن سلسلة من التفجيرات بعد شهر واحد في عدة مدن روسية، دفعته سريعا لتوجيه اللوم إلى إرهابيين من الشيشان، ومن ثم البدء في حرب لإخضاع إقليم الشيشان الروسي الراغب في الانفصال. حينئذ، أصبحت نسبة الرضا الشعبي عنه 45%، ولكن لم تظهر دلائل عن ضلوع أي شيشاني في الهجمات الإرهابية، في حين وُجدَت أدلة من جهة أخرى على أن ما جرى كان عملية داخلية قام بها جهاز الاستخبارات، حتى إن بعض ضباطه اعتُقِلوا بوصفهم مشتبها بهم من جانب زملائهم (الذين لم يعلموا بالعملية). هذا وواصل بوتين مسيرته ليفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2000، ليبقى معنا على مسرح السياسة الدولية منذئذ.
ساعدت القفزات التكنولوجية للقرن الواحد والعشرين بوتين على تحقيق أهدافه، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، يُعَد غزوه أوكرانيا عام 2014 انتصارا “للتحريض ما بعد الحداثي”. فإن كُنت يساريا قيل لك إن أوكرانيا دولة نازية، وإن كُنت يمينيا قيل لك إنها تدعم المثلية، وإن كنت يمينيا متطرفا قيل لك إنها يهودية. وقد أعاقت تلك الروايات العامة الناس في الغرب عن رؤية الحقيقة الواضحة، وهي أن بلدا قد غزا آخر واستحوذ على أرضه ثمَّ قتل وشرَّد المدنيين فيه. وبفضل نجاحها في أوكرانيا، طبَّقت روسيا الأساليب نفسها أثناء استفتاء الشعب البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي وعلى الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، وحققت نتائج مماثلة فيما يُمكن وصفه بالنسخة الإلكترونية من “ماسكيروفكا”.
لقد حفل غزو أوكرانيا عام 2014 بأساليب التحريض التقليدية، حيث أرسلت روسيا قواتها الخاصة بعد احتلال شبه جزيرة القرم إلى 8 مقاطعات أوكرانية أخرى لتنظيم حرب عصابات. وفي مارس/آذار من ذلك العام، أفصح بوتين دون قصد عن طبيعة الحرب التي خطَّط لها قائلا: “دعونا نرى القوات الأوكرانية وهي تحاول التصويب على شعبها ونحن واقفون من خلفها -لا أمامها، بل خلفها”. وبحلول 5 يوليو/تموز، انسحبت القوات الخاصة الروسية إلى مدينة “دونِتسك”، وبعد 6 أيام بدأ الجيش الروسي في قصف الجيش الأوكراني من وراء حدوده، بيد أن الأوكرانيين لم يردوا بقصف روسيا، بل حاولوا أن يقصفوا الروس في دونِتسك. وكانت تلك المحطة المنشودة، فقد نجحت روسيا في تحريض الجيش الأوكراني على قصف مدينة أوكرانية، ومن ثم استمالت المزيد من المقاتلين الغاضبين من كييف إلى صفوفها من بين المتضرِّرين من القصف الأوكراني، الذين لاموا أوكرانيا على كل شيء.
يُمكن أن يصبح التحريض شرطا ضروريا من شروط التحرُّك. لقد حشد بوتين القوات الروسية على الحدود الأوكرانية قبل أيام، لكن ذلك لن يكون كافيا دون حكاية عن أسباب الغزو، لأن الكثيرين من الروس أنفسهم لن يدعموا التحرك إن اعتقدوا بأن بلادهم هي المُعتدية. بعبارة أخرى، إذا ما أراد بوتين النجاح في الغزو، فسيكون عليه أن ينسج رواية فعَّالة تُقنع الروس بأن هناك عملية تدور في الخفاء إلى جانب الحرب.
هنا تحديدا يأتي دور الأسطورة التي صنعها بوتين حول الوحدة الروسية-الأوكرانية، ولعله مقتنع بالفعل بأنه سيحوز مجدا أبديا بغزو أوكرانيا بحُجة أنها توءم روسيا، وأن الأوكرانيين بحاجة إلى تذكرة عنيفة بعض الشيء بتلك الأخوّة. ويُمكن لنا أن نتخيَّل قناعة بهذه السذاجة باعتبارها أمرا لصيقا بمشواره الطويل في عالم التحريض. بيد أن تقاليد التحريض تلك قد تصعِّب على بوتين قراءة العالم الخارجي بوضوح، فمن يصنع قصرا مليئا بالمرايا، قد يعجز في الأخير عن إيجاد مخرج منه.
يتحتَّم علينا جميعا أن نعي أن التحريض جزء بالفعل من الحرب الجارية، وأنها تعمل على مستويات عدة. لقد نجحت إدارة بايدن في الكشف عن سيناريوهات التحريض الروسي في إقليم “دونباس”، ومن ثم صعَّبت تنفيذها بنجاح، وهو ما حرم الروس من إحدى نقاط تفوُّقهم التكتيكي وإحدى مساحات الدعايا الخاصة بهم، وجعلت الحرب بالفعل أكثر كُلفة. بيد أن مستويات التحريض لن تتوقف هُنا، وقد يكون هناك المزيد منها في قادم الأيام.
هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: نور خيري.