الأخبارالإقتصاديةالعالمية

الثورة المالية القادمة.. هل اقتربت نهاية سيطرة البنوك والحكومات على الاقتصاد العالمي؟

الثورة المالية القادمة.. هل اقتربت نهاية سيطرة البنوك والحكومات على الاقتصاد العالمي؟

في القرن الثالث عشر، شرع الإمبراطور الصيني قوبلاي خان في تجربة جريئة. كانت الصين مُقسَّمة في ذلك الوقت إلى مناطق مختلفة، أصدر العديد منها عملات معدنية خاصة به، مما أدَّى إلى تثبيط التجارة داخل الإمبراطورية، لذلك أصدر خان مرسوما يقضي بأن المال سيأخذ شكل الورق من الآن فصاعدا. لم تكن فكرة أصلية بالكامل، حيث كان الحكام السابقون يأمرون باستخدام النقود الورقية، جنبا إلى جنب مع العملات المعدنية، التي كانت موجودة منذ قرون.

 

كانت فكرة قوبلاي الجريئة هي جعل النقود الورقية (التشاو) الشكل السائد للعملة. وعندما زار التاجر الإيطالي ماركو بولو الصين بعد فترة وجيزة، اندهش من مشهد الأشخاص الذين يتبادلون عملهم وبضائعهم مقابل مجرد قطع من الورق، كان الأمر كما لو أن القيمة تنشأ من فراغ، لكن قوبلاي خان كان سابقا لعصره: لقد أدرك أن ما يهم في المال ليس شكله، أو حتى ما يدعمه، ولكن ما إذا كان الناس يؤمنون به بما يكفي لاستخدامه. (1)

 

اليوم، يُعَدُّ هذا المفهوم هو أساس جميع الأنظمة النقدية الحديثة، التي لا تقوم على أكثر من دعم الحكومات للعُملات وإيمان الناس بقيمتها. بعبارة أخرى، المال هو تجريد كامل لجميع الأشياء ذات القيمة المادية، لكن انتشار العملات الورقية أو ما يُعرف بـ “Fiat Money” بيننا اليوم لم يتوقف بالتأكيد عند ما أنجزه قوبلاي خان، هناك الجديد دائما.

 

الوعد الكاذب

النقد هو العُملات المعدنية والورقية، هذا ما قد يخطر على بالك، لكن ما يهمنا هو المعنى الأكثر تجريدا؛ النقد هو المال الذي تدين به الحكومة لك. قديما، كان هذا دَيْنا حقيقيا على الدولة، ولا تزال صيغة الدَّيْن هذه موجودة على عُملات بعض الدول مثل بريطانيا. في عصرنا الحالي، هذا الضمان النظري لحقك تحوَّل إلى ضمانة مجردة، تكفل لحامل العُملة حق استخدامها في عمليات البيع والشراء. على النسق ذاته، تُشير الأرقام في حسابك البنكي إلى ما يدين البنك به لك.

(وعد الدَّيْن على إحدى العملات)(وعد الدَّيْن على إحدى العملات)

يلعب المال عادة ثلاثة أدوار رئيسية في الاقتصاد: أولها أنه مخزن للقيمة، بما يعني أن المال يسمح لك بتأجيل الاستهلاك حتى تاريخ لاحق. وثانيها أنه وحدة حساب، مما يعني أنها تسمح لك بتعيين قيمة لسلع مختلفة دون الحاجة إلى مقارنتها، لذا بدلا من القول إن ساعة رولكس تساوي ستة أبقار، يمكنك فقط أن تقول إنها (أو الأبقار) تُكلِّف 10000 دولار. وأخيرا، هو وسيلة سهلة وفعالة لك وللآخرين لتبادل السلع والخدمات مع بعضكم بعضا.

 

ومن أجل منع التضخم في النظام النقدي، كان لا بد في البداية من معيار يحكم كمية النقد الذي يمكن لأي دولة أن تصدره تفاديا للتضخم وفقدان الثقة في العملة، وكان هذا المعيار هو الذهب، بمعنى أن أي كمية من العملة تصدرها الدولة ينبغي أن تمتلك غطاء موازيا لها من الذهب في البنوك المركزية، من أجل تفادي انهيار النظام النقدي.

 

لذا، نعم، لم يكن المعيار الذهبي مثاليا لهذه الحكومات، لكنه على الأقل جعلها تحت المراقبة. (2) لكن على جانب آخر، أدَّى التقيد الصارم بالمعيار الذهبي في النهاية إلى تحجيم المعاملات الاقتصادية وانكماش الاقتصاد. لذا، كانت قابلية الالتزام بمعيار الذهب قضية مُلِحَّة بالنسبة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت خلال فترة الكساد الكبير، بعدما حدَّت من المعروض النقدي. في النهاية، أصدر روزفلت أمرا تنفيذيا جعل امتلاك الذهب أمرا غير قانوني وطالب الجميع بتحويله إلى دولارات أميركية، وقد نجحت هذه الخطوة في زيادة الميزانية العمومية بأكثر من 70%.

 

ومع ذلك، ظلَّت الدول واثقة جدا في مزايا المعيار الذهبي لدرجة أنه في عام 1944، حين وقَّعت 44 دولة على اتفاقية بريتون وودز التي قيَّمت جميع العملات الوطنية مقابل الدولار الأميركي وجعلت الدولار العملة الاحتياطية السائدة، فقد ظل الدولار نفسه قابلا للتحويل إلى ذهب بسعر ثابت قدره 35 دولارا للأونصة، لذلك يمكنك التفكير في الأمر على أنه معيار ذهبي جديد، ولكن بشكل غير مباشر. على أي حال، كان نظام بريتون وودز يعمل بشكل لائق حتى عام 1971، وفي ذلك الوقت ارتكب ريتشارد نيكسون أول مخالفة له استوجبت عزله، بعدما وضع الأساس لنظام النقود الورقية الذي نعرفه اليوم. وكان النظام الجديد عبارة عن لعبة ورق تعتمد على الثقة المدعومة باللا شيء، حرفيا لا مجازا. (3)

 

ما حدث كالآتي، في أغسطس/آب من عام 1971، قال نيكسون إن الولايات المتحدة سوف تُعلِّق مؤقتا قابلية تحويل الدولار إلى ذهب أو أصول احتياطية أخرى. في النهاية، أصبح هذا التعليق المؤقت دائما، وأنهى أي نوع من الوهم بأن الدولار الأميركي، وبالتالي 43 عملة أخرى، مدعوم بالذهب. منذ ذلك الحين، كان للمال قيمة فقط لأن الاحتياطي الفيدرالي والحكومة الأميركية قالا إنه يمتلك قيمة، لقد كان قطعة من الورق اتفق الناس فيما بينهم على أن لها قيمة معينة. لم يكن من قبيل المصادفة إذن أنْ أفرز ذلك النظام فترات من التضخم المرتفع في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. حسنا، ما يهمنا الآن أن نعلم أن النقود الورقية، منذ ذلك الحين، لم يكن لها أي قيمة جوهرية في ذاتها. (2)

 

لعبة الثقة

دعنا نُكرِّر ما قلناه مجددا: لقد تحوَّل النظام المالي العالمي بعد نيكسون إلى لعبة ثقة كبيرة، يتعيَّن فيها على الشعب تصديق وعود الحكومة. لكن الشيء الصادم حقا في هذا الأمر هو أن معظم الأموال المتداولة لم تعد موجودة حقا. نعم، هل تعرف أن مالك الذي تعتقد أنه موجود في حسابك في البنك ليس موجودا بالفعل؟

 

لقد أُقرضت هذه الأموال للعديد من البنوك، والعملاء الآخرين، والبنوك مسموح لها بالقيام بذلك بسبب نظام الاحتياطي الجزئي، الذي يخبرهم أن عليهم فقط الاحتفاظ بقدر معين من الودائع ويسمح لهم بالتصرُّف بحرية في بقيتها. هذا صحيح، أنت تعطي أموالك للبنك لحفظها، لكنه يستخدمها لأغراض أخرى، وهذا ما يسمى إعادة الترسيب (الترقيم).

 

ما تأمله البنوك في هذه الحالة هو أن نسبة صغيرة فقط من مستخدميها سوف تسحب أموالها بالفعل. وبالتالي، فإنها تحتفظ بمخزون صغير من النقود لتلبية حاجات السحب. الآن أعلم أنك تفكر أن هذا محفوف بالمخاطر بشكل لا يُصدَّق. ماذا يحدث إذا جاء جميع المودعين وطلبوا أموالهم دفعة واحدة؟ حسنا، ساعتها سنكون دخلنا في حالة تُعرف بـ “الذعر المصرفي”، وفيها لن يكون البنك قادرا على توفير السيولة اللازمة لعملائه. (4)

الأمر المخيف حقا بشأن عمليات الذعر المصرفي هو أن كل بنك مُعرَّض لهذا الخطر، ليس فقط أولئك الذين يفتقرون إلى السيولة، ولكن أيضا أولئك الذين هم في وضع قوي نسبيا. كل ما يحتاج إليه الأمر هو شائعة واحدة لإثارة الذعر. كان الذعر المصرفي شائعا خلال فترة الكساد الكبير، فما إن يسمع الناس عن مواجهة أحد البنوك لمشكلة، حتى يتوافدوا إلى البنوك الأخرى لسحب أموالهم، وهكذا تنتقل المشكلة.

 

هذا هو ما أدَّى في الواقع إلى تشكيل مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية (FDIC) في أميركا، حيث كانت الحكومة الفيدرالية ترى أنه إذا ضمنت قدرا معينا من الودائع، فسيشعر الناس بالراحة. الآن، على الرغم من أن هذا قد جلب الاستقرار للذعر البنكي الطاحن، فأنت بحاجة إلى أن تفهم أن المؤسسة تؤمن فقط ما يصل إلى 250000 دولار من الودائع لكل شخص، ولا يزال أولئك الذين لديهم أرصدة أعلى معرضين لخطر الخسارة.

 

في الواقع، يمكن للكثيرين أن يجادلوا في الواقع بأن الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008 كانت نسخة عالية التقنية لهذه الكارثة. ففي الأعوام التالية -تحديدا عام 2010- ابتُليت بلدان مثل اليونان وقبرص بعمليات الذعر البنكي، لدرجة أن الحكومة اضطرت إلى وضع قيود على الحد الأقصى على السحب اليومي بحيث يمكن للناس سحب 60 يورو فقط في اليوم من أجهزة الصراف الآلي. تخيل ذلك: لقد وضعت مدخرات حياتك في حساب مصرفي، والآن تتطلع إلى سحبها ويحدك البنك بـ 60 يورو في اليوم. بالطبع لم يكن لدى الحكومات خيار في ذلك، فمع انعدام السيولة في النظام، كان عليها تقييد هروب رأس المال وتقليل الضغط الواقع على البنوك، كل هذا لأن البنوك بُنيت على نظام غير مستقر من الاحتياطيات الجزئية. (5)

 

كما ترى، لا تُحدَّد نسبة الاحتياطي هذه من قِبَل البنوك نفسها، ولكن من قِبَل الاحتياطي الفيدرالي أو البنك المركزي المعادل. يُشار إلى هذا المخزون من المال الذي يُحتَفظ به في ودائع قصيرة الأجل عموما باسم العرض النقدي “M1″، وهو لا يشمل فقط العملات والأوراق النقدية المتداولة، ولكن أيضا معادلات النقود الأخرى التي يمكن تحويلها بسهولة.

 

حسنا، هنا يأتي السؤال الأهم، أين تذهب الأموال التي نودعها في البنوك؟ والجواب ببساطة أن النظام يسمح للبنوك بإقراض هذه الأموال لعملائها. (4) إذا كان شرط الاحتياطي هو 5% على سبيل المثال، فيجب الاحتفاظ بـ 5% فقط من ميزانيات البنك في هذه الأموال السائلة، ويمكن إقراض الـ 95% الأخرى. وهذا يعني في الأساس أنه يمكن للبنك أن يقرض 20 ضِعْف المبلغ المحتفظ به في ميزانيته العمومية. يُسمى هذا التأثير المضاعف للنقود (Money multiplier)، ويعني أن الأموال في الاقتصاد يمكن أن تكون مضاعفات عديدة للأموال الموجودة بالفعل في البنك. على أي حال (6)، يُطلق على هذا التعريف الأوسع للنقود “M2″ و”M3”.

ولإعطائك فكرة عن مقدار تضخم المعروض النقدي القائم، يمكن أن تتأمل الشكل المرفق الذي يعود إلى عام 2001 ويعرض لتضخم قيمة النقود “M2” و”M3″، مقارنة بـ “M1″، واحد فقط من هذه القضبان هي أموال حقيقية.

في هذا الشكل الآخر، يمكنك أن ترى تطور عرض النقود “M2″ و”M3” خلال السنوات القليلة الماضية. هل ترى هذا الارتفاع هناك إلى اليمين؟ لقد كان هذا في جائحة كورونا التي قلبت الأمور رأسا على عقب. (7)

 

في المعتاد، كان الاحتياطي الجزئي في السنوات الماضية يتراوح من 3% إلى 10%، بحسب النشاط العام لكل بنك ومركزه المالي. أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم في خطر، كان عليهم الاحتفاظ بمزيد من الاحتياطيات، وبالتالي أكثر تقييدا في قدرتهم على تكوين الأموال بشكل فعال. ومع ذلك، جاء الوباء العالمي، ليُقرِّر بنك الاحتياطي الفيدرالي تخفيض نسبة الاحتياطي إلى 0% لجميع البنوك العام الماضي. (8)

 

بعبارة أخرى، أُلغيت أي حاجة إلى الاحتياطيات على الإطلاق. الآن، البنوك ليست مطالبة حقا بالاحتفاظ بالاحتياطيات من أجل تلبية طلبات السحب، فيمكنها بشكل فعال إقراض المبلغ الذي تريده. على جانب آخر، طُبع ما يقرب من خُمس إجمالي المعروض النقدي في الولايات المتحدة في 10 أشهر من العام الماضي. حصيلة 107 عام من تاريخ طباعة بنك الاحتياطي الفيدرالي للنقود طُبع خمسها في أقل من عام. نعم، إنه جنون حقيقي، وبالنظر إلى أن الغالبية العظمى من ذلك المال يعتبر من فئة “M2″، فإن ذلك يعني فعليا نقودا مطبوعة في الفراغ.

 

الأدهى من ذلك أنهم لا يحاولون إخفاء الأمر، في مقابلة سيئة السمعة مع نيل كاسكاري، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس في برنامج 60 دقيقة، أقر بقدرة الفيدرالي على ضخ أموال بلا نهاية أو أي قيود (9)، في حين أكَّد رئيس مجلس محافظي النظام الفيدرالي جيروم باول قيامه بضخ كميات هائلة من المال عن طريق طباعته.

ما الذي يعطي المال الذي تمتلكه قيمة على أية حال؟ قديما كان الناس يتبادلون المال بالذهب، لكن حاليا كل ما تمتلكه هو الثقة في البنك أو الحكومة التي أصدرت هذه العملة، سواء كانت دولارا أو جنيها أو يورو أو غيرها، وهذه الثقة تتآكل مع الوقت. تطبع الحكومات الكثير من الأموال وتتلاعب بالعملة لمنافعها الخاصة ولمنافع المؤسسات التي تُموِّلها، على حساب الشخص العادي مثلك أنت، وهذا بدوره يؤدي إلى موجات طاحنة من التضخم الذي يُرجِّح كفة “الإنفاق” على كفة “الادخار” مما يؤدي إلى زيادة الاستهلاك، ويقود في النهاية إلى كوارث بيئية.

 

اللا مركزية هي الحل

هنا ظهرت العملات المشفرة بوصفها أحد الحلول الثورية لمواجهة الأزمة. العملات المشفرة قيّمة بسبب ما تُقدِّمه، القيمة تختلف طبعا باختلاف العملة التي نتحدَّث عنها، البيتكوين على سبيل المثال تمتلك نمطا يشبه الذهب، أي إن لها حدا أقصى للعرض، كما أن كمية صغير جدا من البيتكوين تُولد يوميا، بالإضافة إلى أن كميتها تنخفض إلى النصف كل أربع سنوات، والقاعدة الاقتصادية تنص على أنه كلما كان المعروض قليلا ازداد الطلب، وهذا ما يحدث بالفعل.

 

يستخدم التمويل اللا مركزي، المعروف أيضا باسم “DeFi” أو “Decentralised Finance”، تقنية العملة المشفرة و”blockchain” لإدارة المعاملات المالية. تهدف “DeFi” إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على التمويل من خلال استبدال المؤسسات المركزية القديمة بعلاقات نظير إلى نظير يمكنها أن توفر مجموعة كاملة من الخدمات المالية، من الخدمات المصرفية اليومية والقروض والرهون العقارية إلى العلاقات التعاقدية المعقدة وتداول الأصول. وهذه هي الحجج الأساسية للمستثمرين في العملات المشفرة.

blockchain (بيكسابي) (مواقع التواصل الاجتماعي)

اليوم، يُدار كل جانب من جوانب الأعمال المصرفية والإقراض والتجارة تقريبا بواسطة أنظمة مركزية تُديرها الهيئات الإدارية. يحتاج المستهلكون العاديون إلى التعامل مع مجموعة من الوسطاء الماليين للوصول إلى كل شيء، بدءا من قروض السيارات والرهون العقارية إلى تداول الأسهم والسندات. في الولايات المتحدة، تضع الهيئات التنظيمية، مثل الاحتياطي الفيدرالي ولجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، القواعد الخاصة بعالم المؤسسات المالية المركزية والسمسرة، ويُعدِّل الكونغرس القواعد بمرور الوقت. نتيجة لذلك، هناك عدد قليل من المسارات التي يمكن للمستهلكين الوصول إليها مباشرة من رأس المال والخدمات المالي، في حين لا يمكنهم تجاوز الوسطاء مثل البنوك والبورصات والمقرضين، الذين يكسبون نسبة مئوية من كل معاملة مالية ومصرفية كأرباح.

 

يتحدَّى التمويل اللا مركزي هذا النظام المالي المركزي من خلال إضعاف الوسطاء، وتمكين الأشخاص العاديين من خلال التبادلات بين الأقران. يقول رافائيل كوزمان، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لـ “TrustToken”، إحدى الشركات المتخصصة في هذا المجال: “التمويل اللا مركزي هو تفكيك للتمويل التقليدي. تأخذ “DeFi” العناصر الأساسية للعمل الذي تقوم به البنوك والبورصات وشركات التأمين اليوم -مثل الإقراض والاقتراض والتداول- وتضعها في أيدي الأشخاص العاديين”، وإليك كيف يمكن أن يحدث ذلك.

 

اليوم، أنت تضع مدخراتك في حساب توفير عبر الإنترنت وتكسب 0.50% معدل فائدة على أموالك، ثم يستدير البنك ويقرض تلك الأموال لعميل آخر بفائدة 3% ويحصل على ربح 2.5%. مع “DeFi”، يقرض الأشخاص مدخراتهم للآخرين مباشرة، ويكسبون عائدا كاملا بنسبة 3% على أموالهم. قد تقول: “أنا أفعل ذلك بالفعل عندما أرسل أموالا إلى أصدقائي باستخدام “PayPal” أو “Venmo” أو “CashApp””، لكنك لا تفعل. لا يزال يتعيَّن عليك امتلاك بطاقة خصم أو حساب مصرفي مرتبط بهذه التطبيقات لإرسال الأموال، لذلك لا تزال مدفوعات الند للند تعتمد على الوسطاء الماليين المركزيين للعمل. (10)

 

تقنية البلوكتشين (Blockchain) والعملات المشفرة هي التقنيات الأساسية التي تُتيح التمويل اللا مركزي. عند إجراء معاملة في حسابك الجاري التقليدي، تُسجَّل هذه المعاملات في سجل الحسابات (ledger) -سجل معاملاتك المصرفية- الذي تملكه وتديره مؤسسة مالية كبيرة. أما البلوكتشين فهو دفتر حسابات عام لا مركزي وموزع حيث تُسجَّل المعاملات المالية في الأكواد.

كيف تعمل تقنية البلوك تشين؟

يسمح هذا النظام للمستخدمين بإخفاء هوياتهم، بالإضافة إلى التحقق من المدفوعات وسجل ملكية الأصول الذي (يكاد يكون) من المستحيل تغييره عن طريق النشاط الاحتيالي. كون هذه التقنية لا مركزية فهذا يعني أنه لا يوجد وسيط يدير النظام. حسنا، إذا كانت الهوية مخفية والسجل عام لجميع الناس، كيف يُتحقَّق من هذه المعاملات بدون رقيب كالبنك؟ يُتحقَّق من المعاملات وتسجيلها من قِبَل الأطراف التي تستخدم البلوكتشين نفسه، وهو عبارة عن شبكة حواسيب تؤكد المعاملات من خلال عملية رياضية معقدة، وتضيف كتلا جديدة من المعاملات إلى السلسلة. يؤكد المدافعون عن “DeFi” أن تقنية البلوكتشين اللا مركزية تجعل المعاملات المالية آمنة وأكثر شفافية من الأنظمة الخاصة غير الشفافة المستخدمة في التمويل المركزي. إذن، هل سنشهد قريبا نهاية البنوك على يد الاقتصاد اللا مركزي؟

 

نهاية البنوك.. والحكومات أيضا

وفقا للبروفيسور “إسوار برساد”، أستاذ سياسة التجارة الدولية بجامعة كورنيل في نيويورك، في حديثه مع “ميدان” فنحن في خضم ثورة مالية جديدة، هذه المرة أطلقها الابتكار الخاص. جاءت الشرارة من عملة البيتكوين في عام 2009، وهي أول عملة رقمية لا تحتاج إلى طرف ثالث موثوق به، سواء كانت حكومة أو بنكا تجاريا أو معالج مدفوعات مثل “Visa”. يجادل “برساد” في كتابه “مستقبل النقود” (The Future of money) أن العملات المشفرة ستجلب نظام مدفوعات أرخص وأكثر كفاءة.

 

في كتابه، يتصوَّر “برساد” حقبة من الفصل النقدي بين الدولة والقطاع الخاص. بينما تتكوَّن النقود الحديثة، في الغالب، من ودائع بنكية، تعتمد البنوك التجارية على البنوك المركزية لتوفير الاحتياطيات التي تدعمها وإدارة نظام المدفوعات بين البنوك. التقنيات الجديدة ستفكك هذه الشراكة. وفي حين أن أموال الدولة ستوفر مخزنا للقيمة، غالبا ما ستُستخدم العملات الخاصة لإجراء الدفع.

كتاب

خذ على سبيل المثال العملة المشفرة المطروحة من فيسبوك، والمعروفة الآن باسم “Diem”، يجادل برساد بأنها يمكنها أن تُغيِّر عالم المدفوعات الدولية المليء بالصعوبة والتكلفة. في الوقت الحالي، تنتقل المدفوعات عبر الحدود من بنك إلى آخر مع إضافة رسوم في كل خطوة وتكرار شيكات مكافحة غسيل الأموال المكلفة. بدلا من ذلك، يمكن أن تتم جميع عمليات التحويل عن طريق شراء “Diem” ثم إرساله، وهذا من شأنه أن يُنقذ المهاجرين الفقراء في كثير من الأحيان من الاضطرار إلى تسليم جزء كبير من التحويلات إلى النظام المالي في طريقها إلى أوطانهم.

 

يُراد لـ “Diem” أن تكون “عملة مستقرة”، لذا فإنها صدرت مدعومة باحتياطي من العملات الورقية، مثل الدولار الأميركي. يجادل براساد بأن هذه هي العملات الرقمية الوحيدة التي تعمل فعليا كأموال. تُسهِّل التكنولوجيا الكامنة وراء عملة البيتكوين مدفوعات أرخص، لكن العملة متقلبة للغاية، حيث ترتفع في يوم من الأيام وتنخفض في اليوم التالي.

عملة رقمية

عكسيا، توفر مرونة العملة الورقية استقرارا أكثر من الندرة المصطنعة لعملة البيتكوين، وهو ما يجعلها أكثر جاذبية للشركات في الأوقات السيئة. في النهاية، يمكن للبنك المركزي التدخل وطباعة المزيد، وهذا يعني أن البنوك المركزية ستظل مركزية، لكن دورها سيقتصر على إدارة الاقتصاد الكلي وجلب الاستقرار للعملات الرقمية الجديدة بدلا من الإشراف على نظام من المؤسسات الوسيطة. الأمر مسألة وقت أيضا قبل أن تقرر البنوك المركزية إطلاق العملة الرقمية الخاصة بها، فقد أطلقت جزر البهاما عملة رقمية، بينما لا تزال البنوك المركزية الكبرى مثل البنك المركزي الأوروبي تستكشف خياراتها.

 

في ظل هذا النظام، “يمكن أن تواجه المؤسسات المالية التقليدية، وخاصة البنوك التجارية، تحديات لنماذج أعمالها، حيث تسهل التقنيات الجديدة دخول المنصات القائمة على الويب القادرة على التوسط بين المدخرين والمقترضين. كما ستجد البنوك صعوبة في الاستمرار في تحصيل الإيجارات الاقتصادية (أرباح ضخمة بسبب مركزها المهيمن) على بعض الأنشطة، مثل إنشاء القروض والمدفوعات الدولية، التي تُولِّد رسوما كبيرة”، هذا ويخبرنا إسوار برساد، أستاذ سياسة التجارة الدولية بجامعة كورنيل في نيويورك، حول احتمالية اختفاء البنوك مستقبلا، لكنه يتابع مُحذِّرا من أن “التوافر الواسع للعملات الرقمية للبنك المركزي من شأنه أن يفتح الباب أمام خطر هروب هائل للودائع من البنوك التجارية أثناء الذعر المالي، مما يجعل النظام المصرفي يركع على ركبتيه”. في النهاية، فإن مجرد وجود عملة رقمية للبنك المركزي، في ظل ظروف معينة، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى التعجيل بالنتيجة التي تهدف إلى تفاديها، وهي عدم الاستقرار المالي.

 

إذن، هل يعني هذا أن اتخاذ البيتكوين وعاء للقيمة ينطوي على مخاطرة؟ يُجيب برساد “ميدان”: “لقد تحوَّلت البيتكوين إلى حدٍّ ما إلى أصل مالي بشكل متناقض، نظرا لأن البيتكوين تفتقر إلى القيمة الجوهرية”. لكن أنصار العملة يعتقدون أن ندرتها هي أساس سعرها المرتفع، حيث تفرض الخوارزمية التي تحكم عملية إنشاء العملة المشفرة حدا أقصى قدره 21 مليون بيتكوين (أُنشِئ نحو 18.5 مليونا حتى الآن) تصدر وفقا لجدول زمني محدد (نحو واحدة كل عشر دقائق) على أن يتوقف الإنتاج بمجرد الوصول إلى الحد الأقصى. لكن برساد يجادل أن الندرة في حد ذاتها “لا يمكن أن تكون مصدرا دائما للقيمة، خاصة بالنسبة للعنصر الرقمي الذي يفتقر إلى أي قيمة جوهرية. في هذه المرحلة، يبدو أن الأسعار المرتفعة للغاية لعملة البيتكوين والعملات المشفرة المماثلة تعكس عمليات المضاربة البحتة، حيث تعتمد قيمتها كليا على إيمان المستثمرين”.

 

المستقبل اللا مركزي

الأموال الورقية و الرقمية

رغم العوائق العديدة التي تواجهه، يرى برساد أن الاقتصاد اللا مركزي هو الثورة القادمة في عالم الاقتصاد حسب ما أفضى به إلى “ميدان”، فهو يتخطى المؤسسات التقليدية مثل البنوك التجارية، ولديه القدرة على إحداث تحوُّلات كبرى في الأسواق والمؤسسات المالية من خلال تمكين أشكال جديدة من الوساطة المالية.

 

منتجات “DeFi” المبتكرة متوفرة بالفعل. ضع في اعتبارك القروض السريعة، وهي نوع من العقود الذكية التي تتضمَّن عادة الاقتراض بدون ضمانات، واستخدام تلك الأموال في المعاملات، ثم إعادة المبلغ المقترض، كل ذلك مقابل رسوم رمزية. يتم البدء في القرض السريع وتنفيذه وإتمامه حرفيا في ومضة عين وبدون مشاركة أي مؤسسة مالية.

منتجات "DeFi" المبتكرة

يتميز “DeFi” كذلك بإمكانيات لا محدودة للتطوير بدون إذن، مما يعني أنه يمكن للمطور بسهولة، ودون الحاجة إلى الحصول على أذونات، الاتصال ببعض التطبيقات المبنية على تقنية مفتوحة المصدر لإنشاء منتجات وخدمات مالية جديدة. هذا يخلق فرصا مثيرة، بعضها بدأ يؤتي ثماره بالفعل، وفقا لـ “برساد”.

 

في الوقت نفسه، تخلق مثل هذه الهندسة المالية غير المقيدة مخاطر جديدة وغير معروفة. لدى اللا مركزية ثغراتها الخاصة، التي تخلق سبلا للمتسللين المتطورين للغاية لإدارة النظام واستغلال نقاط الضعف. مثل هذه الثغرات لن يكون من السهل إحباطها على وجه التحديد بسبب الطبيعة اللا مركزية للنظام، وهو ما يُذكِّرنا دوما بحقيقة أن التكنولوجيا تخلق بعضا من المخاطر الخاصة بها. ورغم ذلك، من المؤكَّد أن الانتقال قد بدأ الفعل، وعلى الحكومات والمؤسسات المالية والمستثمرين وحتى الأفراد الاستعداد للثورة الجديدة التي ستُغيِّر كل ما عرفناه عن المال طوال تاريخنا.

——————————————————————————-

المصادر

  1. A Brief history of money 
  2. Nixon Ends Convertibility of U.S. Dollars to Gold and Announces Wage/Price Controls
  3. Bretton Woods Agreement and System
  4. Reserve Ratio Definition
  5. The European Sovereign Debt Crisis
  6. Multiplier Effect
  7. المصدر السابق
  8. The ballooning money supply may be the key to unlocking inflation in the U.S.
  9. Neel Kashkari unlimited Fed printing: Neel Kashkari unlimited Fed printing
  10. Decentralized Finance Is Building A New Financial System
المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى