الأخبارالإقتصاديةالعالميةتحقيقات

التصميم الحضري يغير حياتنا.. كيف تؤثر المدينة على سعادتنا؟

التصميم الحضري يغير حياتنا.. كيف تؤثر المدينة على سعادتنا؟

من أهم العوامل التي تفيد المدن وجود فضاءات عامة مشتركة. قد تشكّل الأرصفة العريضة -وعلى طرفها صفان من الأشجار- جزءا من هذه الفضاءات، بيد أننا نحتاج إلى أماكن للأطفال ومناطق اجتماع وحدائق خضراء، لكن غير معزولة. فالحدائق المعزولة التي لا تحوي داخلها نشاطات وفعاليات لجذب الناس تتحول مع الزمن إلى بؤر مخيفة.

يلاحظ تقرير السعادة العالمي أنّ للعلاقات الشخصية ولتحسين مستوى المؤسسات الاجتماعية تأثير إيجابي على السعادة أكثر من تأثير كسب المزيد من النقود مثلا، وانطلاقا من فكرة هذا التقرير تصل كلاوديا كارول في مقالها “التحضّر والسعي نحو السعادة” إلى نتيجة مفادها أن السعادة في المدن تعتمد على سعادة الأشخاص أنفسهم، وليس على أعمالهم ومستوى دخلهم فحسب.

وتعتمد السعادة على إحساس سكان المدن بالانتماء وتفاعلاتهم مع بعضهم ليشعروا أنّ المدينة ليست مجرد مكان، بل فضاء مشترك مشاع للجميع، ويربط العديد من الباحثين بين السعادة والمدينة وشكلها. فكيف تؤثر المدينة على سعادتنا؟

السعادة في المدن

كان الفيلسوف اليوناني أرسطو أول من وضع فلسفة للسعادة. والمدن اليونانية معروفة بتركيزها على البعد الروحي لسكانها في تصميمها، فهي مدن تهتم براحة قاطنيها ومشاركتهم جميعا في المجال العام. ولذلك نجد في المدن اليونانية القديمة -كأثينا مثلا- أن الـ”أغورا” أو الساحة العامة، عادة ما كانت كبيرة ودائرية وتتجمع على أطرافها الأبنية المهمة، ويتركز فيها البازار واجتماعات الفلاسفة وغيرها من الأمور.

في أغورا أثينا، ناقش أرسطو معنى السعادة. وانطلاقا من كلامه، يحاول الكاتب والخبير الحضري الكندي تشارلز مونتغومري في كتابه “المدينة السعيدة” تحديد ما الذي يجعل المدن سعيدة، أو بالأحرى ما الذي يجعل سكان مدينة ما يقولون إنهم سعيدون فيها؟ فهو ينقل في كتابه عن أرسطو أن السعادة لا تتحدد بالشعور بالبهجة فحسب، بل تتعلق بكون الشخص فردا فعالا في مجتمعه.

مرّ تطور المدن عبر التاريخ بالعديد من الفترات المختلفة، ويمكن القول إنّ فترة التحول الصناعي هي الفترة التي غيرت شكل المدن من “مدن موجهة للمشاة” (Walkable cities) غالبيتها ذات شوارع وأزقة ضيقة متعرجة إلى مدن موجهة نحو المركبات وتعتمد عليها.

كما مرّ التصميم الحضري بتطورات متنوعة، ساد في فترة منها موضوع المزج بين هدوء الريف وحياة المدن، لتتشكل مناطق كثيرة، سكنية في أغلبها، حولها حدائق كبيرة وملاعب أطفال ومفصولة عن ضجيج المدن. وترافق ذلك مع الزحف الحضري، حين بدأت المدن بالتوسع نحو الخارج والاتجاه نحو الضواحي، التي بدأ الترويج لها بوصفها مكانا يجلب السعادة، والراحة، ومستقبلا أكثر أمانا للأطفال.

Histoirical center of the Dresden Old Town. Dresden has a long history as the capital and royal residence for the Electors and Kings of Saxony.Saxony, Germany.المركز التاريخي لمدينة درسدن القديمة التي كانت عاصمة ومقرا لملوك ساسكسونيا الألمانية (شترستوك)

الضواحي

وفي هذا السياق، يناقش مونتغومري في كتابه فكرة أن الضواحي لا تجلب السعادة، بل تعاسة وقلقا ووقتا طويلا على الطرقات. بالطبع قد لا ينطبق هذا الكلام على جميع الضواحي، إذ يدور كلامه حول أميركا بالتحديد، حيث تبتعد الضواحي كثيرا عن مراكز المدن، بيد أنّه يمكننا عكس كلامه على المجمعات السكنية الكبيرة المغلقة المعزولة عن المدينة وسكانها مثلا.

وتشاطره الراحلة جين جاكوبس (وهي مؤلفة وناشطة أميركية، لكتبها تأثير كبير في مجال تخطيط المدن وغيرها) في كتابها الشهير “حياة وموت المدن الأميركية الكبرى” الرأي ذاته، حين تلاحظ أنّ الجرائم تزداد في المناطق المعزولة عن الشوارع وضجيجها، والمحاطة بالحدائق التي لا يدخلها سوى سكان المجمعات التي تتبع لها.

كما يذكر مونتغومري مثالا عن شخص يعيش في هذه الضواحي، التي انتقل إليها ليكون سعيدا مع عائلته. بيد أن زواجه ينتهي بالطلاق ومن الأسباب الرئيسية بعده عن المنزل وواجباته. فاضطراره للخروج من الصباح الباكر ليصل إلى مركز المدينة حيث يوجد عمله، والعودة متأخرا، ألقى بأعباء المنزل كلها على زوجته، ليزداد التوتر، إضافة إلى بعدهما عن أصدقائهما وأي نشاطات اجتماعية لهما أو لأطفالهما.

بالنسبة لمونتغومري، واعتمادا على تعريف أرسطو للسعادة، يمكن أن تكون المدينة سعيدة حين تكون كثافتها عالية، وأبنيتها ليست بعيدة عن بعضها أو معزولة، وحين تشجع التفاعل بين الناس بأن تكون الاستخدامات فيها متنوعة، وتسهّل الشوارع وتقسيمها ذلك. أي أن تكون الشوارع قصيرة مثلا، فيها الكثير من التقاطعات مع شوارع أخرى، وفيها متاجر وأشغال متعددة (مصبغة، ملحمة، حلاق، خياط، ورش خياطة، معاهد موسيقية، مشفى، مكاتب، شركات صغيرة وكبيرة… إالخ) ولا سيما عند التقاطعات، لكي تمنح استمرارية بالحركة من شارع إلى آخر، كما تكتب جين جاكوبس.

ألفة المكان

وتستفيد هذه الشوارع من الأعمال التي تستقر فيها، بزيادة التفاعل بين سكانها، وتعطيهم مساحة أكبر للاختلاط وتنمية علاقاتهم الاجتماعية، ليزيد شعور الألفة لديهم للمكان ولبعضهم، وهذا ما سمته جاكوبس “رقصة باليه” الشارع أو الرصيف، حيث لكل شخص وقت دخول ودور محدد.

وتقول جاكوبس إن دخولها إلى ساحة “الباليه” يبدأ حين تخرج لرمي القمامة، وفي الوقت ذاته يمر طلاب المدارس من أمامها، ويخرج جارها إلى عمله، وتجلس إحداهن مع فنجان قهوتها في شرفتها ملقية التحية ومراقبة الشارع، ويفتح آخر أبواب محله الصغير، الذي يترك عنده قاطني الشارع مفاتيحهم عند الحاجة. وهذا كما تقول يمنح شعورا بالانتماء الذي يبعث على الطمأنينة والسعادة.

إضافة إلى ذلك، من الأمور المهمة للمدينة -وفقا لمونتغومري وجاكوبس كذلك- أن تكون الأبنية خليطا بين قديمة وحديثة، وذلك لكي تستقبل المنطقة سكانا من مستويات دخل مختلفة، ولكي تجد دائما الشركات الجديدة برأس مال صغير مكانا رخيصا للاستئجار والبدء بعملها، وذلك كله من أجل الحفاظ على التنوع والكثافة في شوارع المدينة وبالتالي الحفاظ على شعور الأمان.

فحين تكون الأرصفة عريضة مليئة بالناس في كل الأوقات، تقل نسب الجرائم بشكل كبير، كما تبرهن جين جاكوبس في كتابها السابق ذكره. وتؤكد على أنه من الأفضل دائما أن تتجاور الاستخدامات المختلفة في الشوارع، لكي تكون المدينة حية ومفعمة بالحيوية باستمرار.

مدن المشاة التي تشجع المشي في شوارعها تساهم في تقليل التلوث (شترستوك)

مدن المشاة

ولدعم هذه الأمور، ينبغي أن تكون المدينة موجهة للمشاة. وهذا أمر تناقشه جين جاكوبس وكذلك مونتغومري؛ إذ يتوجب على المدن عرقلة سهولة استخدام المركبات، وتشجيع المشي في شوارعها واستخدام مواصلاتها العامة. ففي ذلك زيادة للتفاعل بين سكانها، ومساهمة في الاقتصاد، كما أن ذلك يساهم في التخفيف من التلوث بتقليل عدد المركبات، وبناء نظام نقل عام فعال، بحيث لا يشعر المرء بأنه معزول عن محيطه، أو بحاجة سيارة.

وطرحت خبيرة الدراسات الحضرية حلولا مثل زيادة الضرائب على استخدام السيارات الخاصة (رسوم استخدام الطرق مثلا)، وعدم السماح بوقوفها وتوقفها في الشوارع العامة، والتقليل من مواقف السيارات (وهذا ما بدأت كوبنهاغن بعمله، في مشروع تجريبي، إضافة إلى فانكوفر التي اختيرت كأفضل مدينة موجهة للمشاة في كندا)، وتضيف جاكوبس، مع فعل ذلك ستتغير عادات السكان لوحدها بالتدريج ويعتادون على المواصلات العامة، والدراجات الهوائية.

ويمكن ملاحظة ذلك في مدينة مثل إسطنبول، حيث بدأ الاهتمام بموضوع وجود ممرات لسير الدراجات الهوائية واستئجار سهل لها، ويتم توسيعه بالتدريج. إضافة إلى اهتمامهم بتوسيع شبكة المترو. كما يوجد فيها العديد من وسائل النقل المتنوعة مثل الباصات الصغيرة والكبيرة، والمتروبوس (أو الباص السريع كما يسمى في أماكن أخرى)، والترام، والسفن، والقطار الذي يصلها مع غيرها من المدن.

وبالطبع، من أهم العوامل التي تفيد المدن وجود فضاءات عامة مشتركة. قد تشكّل الأرصفة العريضة وعلى طرفها صفان من الأشجار -كما تقترح جاكوبس- جزءا من هذه الفضاءات، بيد أننا نحتاج إلى أماكن للأطفال ومناطق اجتماع وحدائق خضراء، لكن غير معزولة. فالحدائق المعزولة التي لا تحوي داخلها نشاطات وفعاليات لجذب الناس، وفقا لجاكوبس، تتحول مع الزمن إلى بؤر مخيفة، قد تشهد جرائم وسرقات وتجمعات غير مرغوبة وما إلى ذلك. وتعني بالنشاطات والفعاليات وجود ألعاب للأطفال مثلا، أو مقهى صغير، أو أماكن تأجير دراجات وما إلى ذلك.

الحنين والثقة

يمكن أن نلاحظ أن ذلك النموذج أقرب للنسيج العضوي للمدن والشوارع القديمة التي يتجه الكثير منا إليها، حين نرغب بالاسترخاء والترفيه عن النفس، أو مجرد الشعور بالحنين إلى شيء ما. مثل المدينة القديمة في دمشق، أو أزقة إسطنبول التاريخية أو القاهرة القديمة وغيرها من الأماكن التي تعكس النسيج العضوي للمدن.

وأغلب تلك المدن حركة السيارات فيها صعبة، والسير فيها أجمل وأسهل، يبعث على الراحة النفسية، ويمنح شعورا بوجود ألفة اجتماعية وطمأنينة، فهي -كما ينبغي أن تكون المدن- نابضة بالحياة ومفعمة بالحيوية بأزقتها التي لا تخلو من المحلات المختلفة والمقاهي والمارة، كلّ يلفت نظره أمر يختلف عن غيره ويسجل صورا عنها لا تشبه صور غيره.

بالطبع ليس من الضروري أن تكون الأزقة ضيقة وملتفة لكي تمنح المدينة شعور الألفة والراحة والسعادة. فقد ركز كل من جاكوبس ومونتغومري على موضوع التفاعل بين الناس في المدينة، وهذا برأيهم يرتبط بتنوع النسيج المديني وتشجيعه على اجتماع الناس ووجود مساحات عامة للقاء والحصول على حياة اجتماعية.

وبالطبع هناك عوامل أخرى تجعل الإنسان سعيدا، مثل قدرته على تأمين دخل يكفيه، وطبابة جيدة، وعدم الخوف من المجهول، لكن الحديث هنا عن شكل المدن، التي وإن توفرت كل عوامل السعادة الأخرى، يبقى دورها أساسيا ومحوريا ويحمل أهمية كبيرة.

ذكر مونتغومري سؤالا يُستخدم عادة لقياس مدى ارتياحك في محيطك، وعلاقتك بعائلتك وجيرانك وأصدقائك والمجتمع الذي يحيط بك. وهو “إن أضعت محفظتك في الشارع فهل هناك احتمال أن تستعيدها إن وجدها جارك أو شخص غريب أو الشرطة؟”، أغلب من يعيش في الضواحي التي صمّمت من أجل حياة سعيدة كما يقولون، أجابوا بـ”لا”. قد يكون الجواب خاطئا، قد تعود المحفظة، ولكن ما يعكسه هذا الجواب، هو شعور الإنسان بعدم الثقة في محيطه، وبالتالي من غير الممكن أن يكون سعيدا. وكما يقول مونتغومري في كتابه “بصرف النظر عن مدى اعتزازنا بالعزلة والخصوصية. العلاقات القوية والإيجابية هي أساس السعادة. والمدينة هي مشروع مشترك في نهاية المطاف”.

ويمكن أن نختم بالعبارة التي بدأ بها مونتغومري كتابه، وهي اقتباس من كريستوفر ألكسندر (مهندس ومنظر معماري بارز بريطاني أميركي) “هناك أسطورة منتشرة في بعض الأحيان، مفادها أن الشخص يحتاج إلى القيام بعمل داخلي فحسب، من أجل أن يكون على قيد الحياة؛ إن الرجل مسؤول مسؤولية كاملة عن مشاكله الخاصة، ولكي يعالج نفسه، يحتاج فقط إلى تغيير نفسه… والحقيقة هي أن الشخص يتكون من محيطه، وحالة الانسجام لديه تعتمد كليا على انسجامه مع محيطه”.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى