الإمام زيد الهاشمي.. ثار على الأمويين فصلبوه أربع سنين ومهّد لنجاح العباسيين وأسس مذهبا فقهيا يتبنى “الثورة المستمرة”
الإمام زيد الهاشمي.. ثار على الأمويين فصلبوه أربع سنين ومهّد لنجاح العباسيين وأسس مذهبا فقهيا يتبنى “الثورة المستمرة”
محمد الصياد/ العهد اونلاين / مواقع الكترونية
إنّ إمعان النظر في رجالات “أهل البيتِ” وأفكارهم ومبادئهم التي حملوها وجاهدوا من أجل تجسيدها في الواقع؛ جزءٌ لا يتجزأ من أي جهد جادّ يسعى لمعرفة قراءة مهمّة للإسلام في ينابيعه الأولى، قبل أن تتكاثر القراءات وتتداخل الأوهام وتتشاجر الأهواء.
كما أن التمعن في تراجم رجالات “أهل البيت” الأوائل يمكّن من إدراك أسباب التشظي الذي أصاب الأمة فيما بعدُ، لما يوقفنا عليه من علاقاتهم مع مثلث بالغ التعقيد تتألف أضلاعه من: أنظمة الحكم وجماهير علماء الأمة والرأي العام فيها.
ومن هؤلاء الرجال العظماء الإمام زيد بن عليّ الهاشمي (ت 122هـ/741م) الذي نخصص هذا المقال للوقوف على تجربته في التعاطي مع هذا المثلث الحيوي؛ راصدين موقفه من الشأنِ العام اشتراكا واشتباكا، ومُبْرزين علاقته بعلماء عصره تلمذةً ومحاورةً، ومقارنين أفكاره السياسية بما راج في زمنه من مبادئ وأفكار تضاهيها.
ثم إن هذه السطور تسعى -خلال ذلك- إلى فهم سياقات حركة الأحداث في أيام زيد وإسهامه فيها، لما نراه من أن هذا الإسهام ما زال يصلح نموذجا لإلهام أبناء زماننا وهم يخوضون ميادين السياسة الشرعية العملية؛ فقد ركّب زيد نظريا مشروعه السياسي من رؤية تجمع بين الواقعية المرنة والمثالية الطامحة ليلائم هذا المشروع الجميع، وإن جانبه التوفيق في اختيار الجغرافيا الثورية المناسبة.
والذي يعنينا -في هذا المقام- إنما هو موقع شخصية الإمام زيد في الأُمّة لا في الفِرقة، وفي الشأن العام لا في الشأن الخاص، أما أمر “الزيدية” فرقةً كلامية ومذهبا فقهيا فله مقام آخر.
تنشئة خاصة
وُلد زيد بن عليّ سنة 80هـ/700م ونشأ في بيت إمامة في العلم واستقامة في الدين؛ فأبوه هو عليّ -المعروف بزين العابدين (ت 94هـ/714م)- بن الحسين (ت 61هـ/682م) بن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م).
ولم يكمل زيدٌ سنته الرابعة عشرة حتى فُجع بوفاة والده زين العابدين الذي اشتُهر بكونه من أوعية العلم وأئمة الزهد والتعبد، حتى قال عنه الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- إنه كان “ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورِعا”.
ونقلَ ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- عن الإمام المحدِّث ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) قولَه: “أصح الأسانيد كلها الزُّهري (ت 124هـ/743م) عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جده” النبي ﷺ. ثمّ ذكرَ بعض الروايات التي تدلّ على علاقته الوثيقة بعلماء عصره من التابعين.
أخذ زيدٌ العِلمَ -كما يقول الذهبي في ‘السِّيَر‘- “عن جماعة يأتي في صدارتها أبيه زين العابدين، وأخيه [الأكبر محمد] الباقر (ت 114هـ/733م)، وعُروة بن الزبير (ت 94هـ/714م)” الذي كان أحد فقهاء المدينة النبوية السبعة الكبار.
ومن هؤلاء الأئمة استمد زيد حصيلته المعرفية ونال تكوينه العلمي المتين؛ تلك الحصيلة التي ينقل عنه طرفا من تفاصيلها المؤرخ الفقيه المقريزي (ت 845هـ/1441م)، حين يروي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أن زيدا خاطب يوما أتباعه الثائرين معه قائلا: “والله ما خرجتُ ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السُّنَن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل..، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ولا غنى لها عنه، وإني لعلى بينة من ربي”.
روافد متنوعة
يقول أبو الفتح الشهرستاني (ت 548هـ/1153م) -في ‘المِلَل والنِّحَل‘- أن زيداً “أراد أن يحصِّل الأُصول (= العقائد) والفروع (= الفقه) حتى يتحلى بالعلم؛ فتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء (ت 131هـ/750م).. رأس المعتزلة ورئيسهم..، فاقتبس منه الاعتزال وصارت أصحابه كلهم معتزلة”.
ويذكر المقريزي أن الزيدية “يوافقون المعتزلة في أصولهم كلها إلا في مسألة الإمامة، وأُخِذَ مذهبُ زيد بن علي عن واصل بن عطاء”.
وهذا التنوع في التلقي المعرفي والتعدد في المأخذ جعله منصهراً مع كافة أطياف الجماعةِ العلمية ومنخرطا في الشأن العام غير منعزلٍ، كما أدى إلى إنضاج موقفه الإيجابيّ من الصحابة والسلف، والمتوازن في توسطه بين الفِرَق والجماعات التي كانت لا تزال في طور التبلور والتمايز.
ولذلك ينقل الذهبي قائلا: “عن زيد بن علي، قال: كان أبو بكر (الصدّيق ت 13هـ/635م) -رضي الله عنه- إمامَ الشاكرين، ثم تلا: ﴿وسيَجْزِي اللهُ الشاكرين﴾؛ ثم قال: البراءةُ من أبي بكر هي البراءة من علي”.
ويقول الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) -في ‘مناهج السُّنّة النبوية‘- إن الغُلاة من أتباع آل البيت يكفّرون بعض أئمتهم، “وهم أهل السُّنة منهم المتولون لأبي بكر وعمر كزيد بن علي بن الحسين وأمثاله من ذرية فاطمة (ت 11هـ/633م)”.
إذن لم يكن زيدٌ العالِمُ مفترقا عن جماهير علماء الإسلام حينئذ، ولم تكن الفرقة المنتسبة إليه والمسماة بـ”الزيدية” قد نشأت بعدُ بعقائدها وأصولها التي عُرفت بها لاحقا، ولذا ظل -قبل استشهاده وبعده- معدوداً ضمن أئمة الإسلام المجمع على إمامتهم، وهو ما أهله لأن تكسب ثورته دعم كل من الفقهاء والمحدِّثين والمفسرين على حد السواء، واعتمد على آرائه العلمية حتى أئمة المذاهب وأساطين المحدِّثين.
مكانة محترمة
فقد روى عنه الإمام الشافعيُّ (ت 204هـ/820م) بسنده إليه أحاديث في عدة أبواب من كتابه ‘مسند الشافعي‘، منها حديث: «وَكُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ». وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) في مواضع كثيرة من كتابيْه: ‘المُسْنَد‘ و‘فضائل الصحابة‘، منها ما رواه بسنده أن أحدهم سأل زيد بن علي عن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق (ت 23هـ/645م) “فقال: تولَّهما، قال: قلتُ: كيف تقول فيمن يتبرأ منهما؟ قال: أبرأ منه حتى يتوب”.
وروى عنه أيضا ابنُ أبي شيبة في كتابه ‘المصنَّف‘ وأصحابُ كتب السُّنن الأربعة؛ وفقا للإمام المزيّ (ت 742هـ/1341م) الذي يقول -في ‘تهذيب الكمال‘- إن زيداً “روى له أبو داود (ت 275هـ/888م)، والترمذي (ت 279هـ/892م)، والنَّسائي (ت 303هـ/915م) في ‘مسند علي‘، وابن ماجه (ت 273هـ/886م)”.
وقد أكثر شُرّاح الحديث والمفسرون من ذكر آراء زيد بن علي الفقهية وأقواله في وجوه قراءات القرآن؛ فنقل عنه ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) كثيرا في ‘فتح الباري‘، وكذلك فعل قبله في تفاسيرهم كل من الزمخشريّ المعتزلي (ت 538هـ/1143م)، والإمام فخر الدين الرازي الشافعي (ت 606هـ/1209م)، والقرطبيّ المالكي (ت 671هـ/1272م)، وابن كثير الشافعي.
أما تصانيف الإمام زيد العلمية؛ فإنه يجدر التذكير بأنه توفي -وهو في الثانية والأربعين من عمره- قبل عصر التدوين ووضع التآليف، لكن ينسب إليه “كتاب المجموع” الذي تضمن كثيرا من آرائه العلمية، وإن كان الراجح أنه صُنّف بعد وفاته بزمن على يد بعض تلامذته، كما حصل مع كثير من التراث العلمي لغيره من الأئمة الكبار.
سياق التشكل
لكي نفهم دوافع ثورة زيدٍ على الدولةِ الأمويّة؛ ينبغي أن ندرك بداية أنّه وُلد في المدينة المنوّرة التي أجبر الأمويون أهلها ورموزها -من الصحابة وأبنائهم وكبار التابعين- بادئ أمرهم على البيعة ليزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م)، إذْ “جعله أبوه وليّ عهده وأكره الناس على ذلك”؛ طبقا لعبارة الإمام السيوطي (ت 911هـ/1505م) في ‘تاريخ الخلفاء‘.
وكان من تفاصيل ذلك أن معاوية كتب إلى واليه على المدينة مروان بن الحكم (ت 65هـ/686م) أن يأخذ البيعة لابنه الشاب يزيد، فجمع مروان قادة أهل المدينة وخطب فيهم قائلا: “إن أمير المؤمنين رأى أن يستحلف ولده يزيد عليكم، سنّةَ أبي بكر وعمر”! فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (ت 53هـ/674م) فقال: “بل سنّة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما، ولا في أحد من أهل بيتهما”!!
ثمّ ذهب معاوية بنفسه إلى المدينة فأخذ البيعة لابنه يزيد بغير رضا من الناس، فاحتجّ عليه ابن أبي بكر قائلا فيما يرويه السيوطي: “إنك والله لوددت أنا وَكَلْناكَ (= تركناك) في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردنّ هذا الأمر شورى في المسلمين أو لنفرقنَّها عليك جذعة”!!
فقد كانت الشورى إذن قيمة مركزية حاضرة بقوة في العقل الجمعي للصحابة والتابعين، ولذا غضبوا جميعا من صنيع معاوية ورأوا فيه سابقة مؤسِّسة لما ترسَّخ بعد ذلك من ضياع لقيمة الشورى وإهدار لسيادة الأمة، حتى إن الحسن البصري (ت 110هـ/729م) علق لاحقا على توريث معاوية الحكم لابنه فقال: “فمن أجل ذلك بايع هؤلاء [الأمراء] لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة”!!
وكان من نتائج خطوة معاوية تلك أن ولاية يزيد نفّرت عنه قلوب الصالحين، فخرج عليه الحسين بن علي في العراق سنة 60هـ/681م، وأطلق أهل المدينة أنفسهم ثورة الحَرَّة سنة 63هـ/684م، وتبعها إعلان عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) توليه الخلافة في مكة المكرمة، ثم تلت ذلك ثورة عارمة أطلقها المئات من علماء العراق بزعامة القائد العسكري عبد الرحمن بن الأشعث الكِنْدي (ت 84هـ/704م)، وتوالت أحداثها بين سنتيْ 81-83هـ/701-703م.
جيل ناقم
لا شكّ أن هذه التقلبات السياسية والثورات المتوالية على بني أمية طوال نحو ربع قرن أثرت على الأجيال الجديدة آنذاك مثل جيل الإمام زيد الذي تزامن ميلاده مع اندلاع آخرها وهي ثورة الفقهاء وابن الأشعث.
وهكذا ورث الجيل الجديد نقمة جيل الآباء من الصحابة والتابعين الكبار على بني أمية، واستبشاع أفعالهم واحتكارهم منصب الخلافة، خاصة أن أهم مطالب الثائرين كانت تتلخص في: الرجوع إلى الشورى في تولية الخلفاء، وإشراك الناس في اختيار ولاة الأقاليم.
وفي ضوء تداعيات هذه الأحداث التي ظلت تعتمل تحت السطح، بعد أن تمكنت آلة القوة الأموية من إخضاعها للضغط والضبط نحو أربعة عقود؛ جاءت ثورة زيد بن عليّ سنة 122هـ/741م على حكم هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/744م)، فموْقَع الإمامُ زيد مشروعَه بين المسار الثوري الفاشل والسابق عليه بتلك الثورات، والمسار الثوري الثاني الناجح اللاحق عليه والذي نفذه العباسيون.
والحق أن زيدا نفسه هو من أدرج ثورته في سياق تلك الثورات العارمة؛ فقد قال حسبما يرويه عنه عبد القاهر الجُرْجاني (ت 429هـ/1039م) في ‘الفَرْق بين الفِرَق‘: “وإنما خرجتُ على بني أمية الذين قاتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحَرَّة، ورمَوْا بيت الله بحجر المنجنيق والنار” في قتالهم لابن الزبير.
ولذلك كانت ثورة الإمام زيد -في دوافعها ومنهجها وحتى نتائجها- امتدادا للثورات السابقة؛ إذْ رَفعت -كما سنرى- المطالبَ نفسها ممثلة في ضرورة: اعتماد الشورى آلية للوصول إلى السلطة، واحترام إرادة الرأي العامّ المسلم في اختيار الخلفاء والولاة، وإقامة العدل برفع المظالم الواقعة على الناس.
تأسيس نظري
تختلف الأفكار الكلامية الزيدية عن نظيرتها لدى عموم الفرق الشيعية -ولاسيما الاثنا عشرية- في مسألتين مهمتين، يحددهما لنا الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ/936م) بقوله في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘: “غير أنهم (= الزيدية) خالفوهم (= الاثنا عشرية) في شيئين: أحدهما أنهم يزعمون أن علياً تولَّى (= أيّد) أبا بكر وعمر على الصحّة وسلّم بيعتهما، والآخر أنهم لا يُثْبتون العصمة لجماعة أهل البيت كما يُثبتـ[ـها] أولئك”.
وعن موقف زيد من أبي بكر وعمر وعموم الصحابة؛ يقول الأشعري: “وكان زيد بن عليّ يفضّل عليَّ بن أبي طالب على سائر أصحاب رسول الله ﷺ، ويتولَّى [مع ذلك] أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور”.
وموقف زيد هذا من أبي بكر وعمر مما يُحمد له؛ ففي أوْج معركته مع الأمويين وحاجته لشيعة آل البيت صرّح لهم بموقفه المعظّم لهما، ولم يستعمل معهم “التقيّة” لكسبهم إلى صفه، ولذا حين سمع بعضَهم يطعن في أبي بكر وعمر شنّع عليهم، فانفضوا عنه فقال لهم: “رفضتموني”! فسُمّوا لذلك “الرافضة”.
وفي رواية ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- أن جماعة من رؤساء الشيعة جاؤوا إلى زيد “وقالوا: رحمك الله، ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يقول فيهما إلا خيرا، وإن أشد ما أقول -فيما ذكرتم [من الإمامة]- أنا كنا أحق بسلطان رسول الله ﷺ من الناس أجمعين، فدفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، وقد وَلُوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة”.
ويبين الشهرستاني -في ‘المِلَل والنِّحَل‘- رأي زيد في من يتولى الخلافة عامة؛ فيقول إنه “كان من مذهبه جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، فقال: كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فُوِّضتْ إلى أبي بكر لمصلحة رأوْها، وقاعدة دينية راعوْها، من تسكين نائرة (= عداوة) الفتنة وتطييب قلوب العامة”.
دافع مصلحي
فتسكين نار الفتن وتطييب قلوب العامة كانا من المصالح المعتبرة في الفقه السياسي عند الإمام زيد؛ إذ لا يجوز تجاهل رأي العامة ورضا الناس، وهو هنا يتفق مع سياسةِ جدّه عليّ ابن أبي طالب الذي رفض -كما سيأتي- أن يتولى الخلافة دون بيعة علنية من الناس، تتجسد فيها الشورى بحرية وشفافية.
فإذا كان زيدٌ يُجوّز إمامة المفضول مع وجود الفاضل أو الأفضل، فإنّه لا يرى العصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ، ويرى مركزية قرار الأمة وحق المؤمنين في الاختيار، حتى ولو اختاروا المفضول، ويضرب لذلك مثلا بجده عليّ ابن أبي طالب الذي لم تختره الأمة بعد وفاة النبي ﷺ، بل نصّبوه خليفة إثر مضيّ الخلفاء الثلاثة من بعده.
ويعلل زيدٌ -فيما يرويه عنه الشهرستاني- عدم تولي جدّه عليّ الخلافة لحظة وفاة الرسول ﷺ؛ فيقول إن “عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبا، وسيف أمير المؤمنين عليّ -عليه السلام- عن دماء المشركين من قريش لم يجفَّ بعدُ، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي؛ فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عُرفوا باللين والتودد، والتقدم بالسنّ، والسبق بالإسلام، والقرب من رسول الله ﷺ”.
ويكشف لنا هذا النصّ أهم مبادئ زيد الرئيسية المتعلقة بتولي الشأنِ العام؛ فهو هنا يؤمن بأولوية رضا الناس في شروط تولية الحاكم. ومن هنا يُمكن القول إن نظرية زيد في “جوازِ إمامةِ المفضول مع وجود الفاضل” كانت بمثابة كلمة سواء ونقطة التقاء بين عدد من التيارات المتنازعة بشأن مسألة الخلافة.
رؤية توافقية
ونظرية زيد التوافقية هذه تعدّ سابقة تاريخية مؤسِّسة لنظائرها من النظرَات التوفيقية التي جمعت لاحقا اتجاهات معظم الأمة بمواقف وسطية حاسمة قدمها أصحابها بشأن قضايا منهجية كبرى؛ كما فعل الإمام الشافعي بتوفيقه البارع بين مدرستيْ الرأي والأثر في الفقه، والإمام الأشعري بجمعه الناجح بين علماء الكلام وأهل الحديث في العقائد، والإمام الغزالي (ت 505هـ/1111م) بمصالحته التاريخية بين الفقهاء والمتصوفة في التربية والسلوك.
وبذلك يكون زيد قدم حلا عمليا لأزمة النزاع التاريخي حول الإمامة بين تيار العلويين (الشيعة لاحقا) وغيرهم من مُعظِّمي شأن الصحابة جميعا (أهل السُّنة لاحقا) لتجاوز الاستقطاب الذي كان يقسم الناس ساعتها، وبذلك أيضا ضمن زيد دعم الجميع لثورته، وإن كانت نتيجة محاولته تلك يبدو أنها انعكست في بدء تبلور ظهور من سمّاهم هو “الرافضة”، كما سبق القول.
وأهم تلك التيارات -التي أراد زيد توحيدها تحت راية ثورته بمقولته التوافقية تلك- ثلاثةُ: أولها تيار رافض لولاية أبي بكر وعمر ويرى أنّ الإمامة مستحقة لعليٍّ وأبنائه دون غيرهم بنصّ ووصيّة من النبي ﷺ؛ وثانيها تيار يرى أحقية أبي بكر بل صرح بعضهم بوجود النصّ عليه أيضا؛ وثالثها فريق آخر يرى الاختيار والشورى سواء كانت نتيجتها مع أبي بكر أو عليٍّ.
لقد كان زيد بن عليّ -من الناحية العملية- أقرب إلى الفريق القائل بالشورى طريقا للخلافة، وإن اختلف معهم في تفضيل عليٍّ على غيره. وهذا لا يؤثر كثيرا في الواقع العمليّ فهو إذن أقرب إلى الخلاف النظريّ، خاصة أن الإمام الغزالي لخّص -في كتابه ‘الاقتصاد في الاعتقاد‘- موقفَ جمهور علماء الأمة القائل بأن ترتيبَ الأفضلية بين الخلفاء الأربعة إنما هو من حيث الظاهر لا في حقيقة الأمر، لأن ذلك “معناه أن محله عند الله تعالى في الآخرة أرفع، وهذا غيب لا يطّلع عليه إلا الله ورسوله إن أطلعه عليه”. ومقولة الغزالي هذه تقرّبنا كثيرا من موقف الإمام زيد بشأن الخلافة.
إذن حاول زيدٌ بفكرته تلك أن يوحّد الجماعات المختلفة حول قضية تاريخية لا ينبغي لها أن تشغلهم عن التصدي لتحديات واقعهم المحزن؛ ففرّق ببراعة بين “المعيار السياسيّ” في مسألة الإمامة/الخلافة الذي يستند إلى اختيار الناس وانتخابهم حتى ولو جاؤوا بالمفضول على حساب الفاضل، وبين “المعيار الديني” الذي هو مسألة أفضلية شخصية التي لا علاقة للناس بالفصل فيها، بل ولا قدرة لهم عليه لأن أمره موكول إلى الله تعالى المطلع وحده على ما في القلوب.
نهج متجدد
وانطلاقا من ذلك أيضا؛ يمكننا القول إنّ منهج زيد في شأن الحكم والدولة كشأن جدّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي كان يؤمن بلزوم البيعةِ العامّة من المؤمنين للحاكم؛ ولذا رفض أن يتولى الخلافة دون بيعتهم العلنية الطوعية، ولم يزعم لنفسه عصمة أو وصيّة نبوية.
فالطبريّ (ت 310هـ/922م) يروي في تاريخه عن محمد بن علي بن أبي طالب -المعروف بمحمد بن الحنفية (ت 81هـ/701م)- قولَه: “كنتُ مع أبي حين قُتل عثمان (ت 35هـ/656م) رضي الله عنه، فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله ﷺ، فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحقَّ بهذا الأمر منك..، فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فقالوا: لا، والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون [أمرا] خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين”.
وهذا كلّه يبين مدى أصالة مذهب الإمام زيد والتصاقه بمنهج أكابر الصحابة في الشورى، وفي مقدمتهم جدّه عليّ. وبهذا يستبين أنّ مقتضى مذهب زيد هو أنّه لا عصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ، لكنّ الزيدية بعد زيد قالوا بعصمة أربعة من أئمة آل البيت هم: عليّ وفاطمة والحسن (ت 49هـ/670م) والحسين، وفي الوقت نفسه حافظوا على منهج زيد الثائر على الاستبداد مؤسسين لتيار “الثورة المستمرة” في التاريخ الإسلامي.
ولذا قال زيد إنّ الخليفة -حتى ولو لم يكن مفضولا بل كان هو الأفضل- يجب أن يُختار برضا من الناس، وإن كان أبقى هذا الاختيارَ ضمن دائرة المؤهَّلين للخلافة من أولاد وأحفاد فاطمة رضي الله عنها، لكن لا فرق عنده بين ذرية الحسن والحسين، ذلك التفريق الذي تعددت بسبب الميول فيه فِرَقُ الشيعة بين حسنيين وحسينيين، بل وتعددت فيه الاتجاهات حتى داخل كل من الفريقيْن.
ويُمْعن زيد بن عليّ في قربه من منهاج الصحابةِ والتابعين؛ فيتفق مع حكم أبي بكر في ميراث منطقة “فَدَك” الذي ثارت قضيته بين الخليفة أبي بكر الصدّيق والسيدة فاطمة الزهراء جدة الإمام زيد. إذْ ينقل ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- عن الحافظ البيهقي (ت 458هـ/1067م) ما رواه بسنده من أنه “قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أما أنا فلو كنتُ مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فَدَك”.
لكن المذهب الزيدي نفسه تشظَّى فيما بعدُ وتعددت مقولاته، حتى أضحى أصحابه لا يجيزون إمامة المفضول، وصار بعضهم يطعن في خلافة أبي بكر وعمر كما تفعل طوائف الشيعة الأخرى. وقد لاحظ ذلك الشهرستاني بقوله: “وخالفوا (= الزيدية) بني أعمامهم من الموسوية (= الاثنا عشرية) في مسائل الأصول، ومال أكثر الزيدية -بعد ذلك- عن القول بإمامة المفضول، وطعنت في الصحابة طعن الإمامية”.
جدل محتدم
بعد استشهاد الحسين بن علي عاش آل البيت في المدينةِ لا يخرجون منها؛ فأقبل رجالاتهم على العلمِ تحصيلا وتوصيلا، وجنحوا -في السياسة- إلى مذهب السلم ومنابذة الثورة على الأمويين، وبادلهم هؤلاء السِّلْم بسِلْم مماثلة فلم يصلوا إليهم بسوء في أغلب الأحيان، وهو ما يؤكده ابن تيمية -في ‘مجموع الفتاوى‘- بقوله: “بنو مروان -على الإطلاق- لم يقتلوا أحدا من بني هاشم -لا آل علي ولا آل العباس- إلا زيد بن علي.. وابنه يحيى (ت 125هـ/744م)”.
وكانت تلك السلمية أيامها منهجَ جُلّ علماء المسلمين الذين ارتأوا -بعد إخفاق ثورات النصف الثاني من القرن الأول الهجري/السابع الميلادي- خيارَ الصبر على ظلم أمراء الجور، إذْ كان نجاح الثورة مستحيلاً بمعايير القوة والردع، فقد كان الحكام الأمويون لا يستنكفون عن استئصال خصومهم. لكن الملمح المهم هنا هو أنّ تلك الرؤية كانت واقعية وليست مبدئية.
وفي هذا السياق؛ جرت بين زيدٍ -وهو شاب في مطلع الثلاثينيات من عمره تقريبا- وأخيه محمد الباقر نقاشاتٌ كثيرة بسبب انعزال أهل البيت عن السياسة والثورة، وتنكُّبهم خوض غمار الشأن العام ومتطلباته، بما في ذلك الثورة ذات الشوكة متى توفرت شروطها وتهيأت ظروفها.
وينقل لنا الشهرستاني طرفا من تلك المناقشات فيقول إنه “جرت بينه (= زيد) وبين أخيه الباقر محمد بن علي مناظرات… من حيث كان يتتلمذ لواصل بن عطاء ويقتبس العلم ممن يُجوِّز الخطأ على جَدِّه (= عليّ بن أبي طالب) في قتال الناكثين (= الغادرين) والقاسِطين (= الجائرين)…، ومن حيث إنه كان يشترط الخروج (= الثورة) شرطا في كون الإمام إماما؛ حتى قال له يوما: على مقتضى مذهبك [فإن] والدك (= زين العابدين) ليس بإمام، فإنه لم يخرج قَطُّ” على بني أمية!!
ونفهم من تلك النقاشات أن الباقر لم يقتنع بموقف أخيه زيد الميّال إلى الثورة، خاصة أنه لم يجد لها من الحواضن الشعبية سوى أنصار آل البيت من أهل الكوفة بالعراق، ولهم سوابق متعددة في استدراج رجالات آل البيت إلى المواجهة المسلحة مع الحكام الأمويين، ثم التخلي عنهم في مراحل فاصلة من مسار الثورة!
فالمؤرخ المسعوديّ (ت 346هـ/957م) يذكر -في ‘مروج الذهب‘- أن زيدا شاور أخاه الباقر في اعتماده على الكوفيين “فأشار عليه بألا يركن إلى أهل الكوفة، إذْ كانوا أهل غدر ومكر، وكان بها قُتل جدك عليّ، وبها طُعن عمك الحسن، وبها قُتل أبوك الحسين (= جده)، فأبى [زيد] إلا ما عزم عليه من المطالبةِ بالحقّ”.
مضامين ثورية
حفظ لنا المؤرخان الطبريّ وابن الأثير -في تاريخيهما- صيغة البيعة التي أخذها زيدٌ من أتباعه وأنصار ثورته؛ فكان نصها حسب ابن الأثير: “إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه -ﷺ- وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسْم هذا الفيء بين أهله بالسَّواء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت؛ أتبايعون على ذلك؟”.
وهكذا نرى أن بنود البيعة كانت عميقة الدلالّة فتضمنت ما يمكن وصفه بـ”برنامج الثورة”، وتمثلت مضامين هذا البرنامج في الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ بتفعيل ما تضمناه من كليات كبرى كالعدل والشورى والحرية والمساواة، ووقْف استبداد الحكّام الظالمين الذين كانت بيعة الناس لهم كرهاً فلا تسلم من المآخذ الدينية والسياسية، والدفاع عن حقوق الطبقات الضعيفة المحرومة التي تضم جميع الطوائف، ونصرة أهل البيت على من بغى عليهم.
وهو ما تؤكده أيضا مخاطباته الأخرى للمترددين من أتباعه، كقوله لمن سأله منهم عن سبب مقاتلته للحكام الأمويين: “هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ وإلى السُّنَن أن تحيا، وإلى البِدَع أن تُطْفَأ؛ فإن أجبتمونا سعدتم، وإن أبيتم فلستُ عليكم بوكيل”.
وكان نص البيعة مشفوعا بإقرار شخصي مؤكَّد من المبايعين المنخرطين في الثورة؛ فكان يسأل كل من بايعه: “أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن في السر والعلانية؟ فإذا قال: نعم مسح يده على يده، ثم قال: اللهم اشهد”! واحتراما من زيد لتلك العهود كان يرفض أقوال المشككين في جدية أصحابها، وظل يجيب هؤلاء المشككين قائلا: “قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم”!
ومما يلفت الانتباه هنا خلوُّ نص البيعة من أي ادعاء لاستحقاق الخلافة بالوصية أو عصمة إمام الثورة أو مَهْدَويَّته، كما نرى توفيقا آخر ذكيا في بنودها بين مطالب “أهل السُّنة” ورؤية “الشيعة”؛ إذْ تعهد زيد بأمرين متزامنين: رفع راية السعي للثأر لدماء العلويين لاستقطاب أشياعهم، وإعلان عزمه إزالة مظالم بني أمية عن الناس لكسب دعم كافة المتضررين من سياساتهم أيا كانت مواقفهم ومواقعهم.
ويبدو أيضا أنّ الشق المتعلق بآل البيت في البيعة كان موجَّها إلى أنصار ابن أخيه الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ/766م) الذين رفضوا الخروج معه أو مبايعته بسبب خشيتهم من بطش الأمويين، وكأنه يقول لهم إنّ هذه الثورة جاءت من أجل وضع الأمور في نصابها، خاصة أن زيدا حتى تلك اللحظة “كانت الشيعة تنتحله (= تناصره)” وتُجِلّه؛ وفقا لابن تيمية في ‘منهاج السنة النبوية‘.
ولذلك نجد زيدا يذكِّرُ هؤلاء الشيعة بمحلّه وموقعه في قريش؛ فإذا كانت قريش أشرف العرب فإنّ آل البيت هم أشرف قريش، وهو في صدارة رجالات هذه العائلة الكريمة إذْ “كان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم”؛ كما يقول ابن تيمية الذي يستدرك قائلا إن “زيد بن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام -وطلب الأمر لنفسه- كان ممن يتولى أبا بكر وعمر”.
وينقل لنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- وصْف جعفر الصادق لمكانة زيد في أهل البيت، حيث يقول مدافعا عنه أمام مُبْغضيه من الغُلاة: “كان والله أقرأَنا لكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم، ما تركنا وفينا مثله”!!
ولا شك أن هذا رصيد آخر في توافقية الإمام زيد السياسية يعزّز إمكانية التقاء التيارات حوله: “أهل السنة” باعتباره إماما تابعيا له جلالته ومكانته، و”الشيعة” عامة من خلال انتمائه إلى البيت الشريف، و”المعتزلة” لعلاقته القوية بمؤسس مذهبهم واصل بن عطاء، و”الخوارج” حين لجأ إلى السيف مثلهم لإحداث التغيير السياسي المنشود.
حشد زاحف
على هذه الأرضية الصلبة سياسيا وأخلاقيا؛ باشر زيد حشْد المبايعين لمشروعه الثوري “حتى أحصى ديوانُه (= سجلّ المقاتلين) خمسة عشر ألف رجل، فأقام بالكوفة بضعة عشر شهرا.. كان منها بالبصرة نحو شهرين”؛ وفقا للطبري.
وقد اضطُرّ الإمام زيد إلى تعجيل ساعة الصفر -وكانت فاتح صَفَر سنة 122هـ/741م- عن موعدها المتفق عليه خشية الانكشاف الأمني أمام جهاز الاستخبارات الأموية، ثم “أمر أصحابه بالاستعداد والتهيؤ.. فشاع أمره في الناس”.
انطلقت إذن معارك الثورة فكانت جولاتها الأولى في صالح زيد ومعسكره بحيث “جعلت خيلُهم لا تثْبتُ لخيله” لقوة مقاتليه وجراءتهم؛ حسب ابن الأثير. لكن تخلِّي معظم الكوفيين عنه -جرّاء موقفه المصحِّح لخلافة أبي بكر وعمر الفاروق- جعله يخسر نتيجة الحرب، خاصة أنه لم يلتزم له بعهد البيعة من جنوده سوى “مئتيْ رجل وثمانية عشر رجلا” هم الذي قاتلوا معه حتى النهاية.
واصل زيد القتال بمن معه حتى استشهد بسهم أصابه وصلب والي العراق يوسف بن عمر الثقفي (ت 127هـ/746م) جسدَه لاحقا على أطراف الكوفة “ثم أنزِل بعد أربع سنين من صَلْبه”؛ طبقا للصفدي (ت 764هـ/1363م) في ‘الوافي بالوفيات‘.
وإثر استشهاد زيد؛ سار ولده يحيى على نهج أبيه مواصلا ثورته على الأمويين لكن من على أرض أخرى ووسط حاضنة شعبية جديدة؛ فقد تمكن أنصار أبيه من إخفائه عن عيون السلطة الأموية المتربصة به في كل مكان، “فلما سَكَن الطَّلَبُ (= البحث عنه) سار في نفر من الزيدية إلى خراسان”؛ حسبما يرويه ابن الأثير في ‘الكامل‘.
ثورة مستأنفة
وفي منطقة خراسان استأنف يحيى بن زيد ثورة والده؛ فتمكن -بعد فترة تهدئة مع الأمويين- من إعادة رصّ صفوف أنصار والده، فجذب الناس إلى البيعة “واجتمعت عليه جماعة كثيرة”؛ طبقا للشهرستاني.
وعندها أعلن يحيى الثورة في سنة 125هـ/744م مستغلا -على الراجح- الاضطرابات المصاحبة لتبدُّل نظام الحكم الأموي مع وفاة الخليفة هشام بن عبد الملك، وتنصيب خليفة جديد مكانه هو ابن أخيه الوليد بن يزيد (ت 126هـ/745م) الذي أثار عليه نقمة الأمة “لِمَا انتهك من حرمات الله واستهتر بالدين”؛ حسب الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
لم يختلف مصير ثورة يحيى في خراسان عما لقيته نظيرتها بالعراق، رغم أنه -كما يقول الذهبي في ‘السِّيَر‘- بلغ من الظَّفَر أنه “كاد أن يملِك” البلاد هناك بعد “حروب شديدة وزحوف”، إلا أن ميزان القوة خذل يحيى -كما صنع مع أبيه- حين تناقص عدد أنصاره إلى “سبعين رجلا” فقط؛ حسب ابن الأثير.
وقد واصل والي خراسان الأموي نصر بن سيار (ت 131هـ/750م) قتاله للثائرين عليه، حتى “أصاب يحيى بن زيد سهم في صدغه فقتله.. وصُلبت جثته بجُوزْجان” التي تقع اليوم شمالي أفغانستان.
ورغم هزيمة يحيى عسكريا؛ فإننا نجد في موقف العامة بعد مقتل يحيى دلالات عميقة بشأن الدعم الشعبي الكبير لهذه الثورة حتى بعد فشلها، ذلك أنه “ما وُلد -إذْ ذاك- وَلَدٌ بخراسان من العرب والأعيان إلا سُمِّي يحيى”؛ وفقا للذهبي الذي يخبرنا بأنه بعد انتصار قائد ثورة العباسيين بخراسان أبي مسلم الخراساني (ت 137هـ/755م) طالب “بديوان بني أمية (= سجلّ مقاتليهم) فجعل يتصفح أسماء قتلة يحيى ومن سار.. لقتاله، فمن كان [منهم] حيا قتله”.
بريق مستمر
عزّز استشهادُ زيد وابنه يحيى لدى الكثيرين وجاهةَ مقولة أخيه الباقر وابن أخيه جعفر الصادق الذي حذّره من إطلاق ثورته، كما نصح ابنَه يحيى لاحقا بالتخلي عن مواصلة الثورة.
وقد علَّل الصادق نصيحته تلك للرجلين -حسبما ذكره الشهرستاني في ‘المِلَل والنِّحَل‘- بأنّ “بني أمية يتطاولون على الناس حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، وهم يستشعرون بغض أهل البيت، ولا يجوز أن يخرج واحدٌ من أهل البيت حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم”.
ورغم إخفاق الثورة الزيدية وما تلاه من إحباط لدى معظم أنصارها؛ فإن المسار الثوري لم يفقد بريقه لدى جزء كبير من أنصاره، بل باتت الثورة على الحكام الجائرين مبدأ أصيلاً عند كثير من معاصري زيد وخاصة بعض رجالات آل البيت، بعد أن أوصى يحيى بن زيد بقيادة الثورة من بعده إلى اثنين من أبناء عمه، فـ”فوَّض الأمر بعده إلى محمد وإبراهيم الإماميْن”؛ وفقا للشهرستاني.
والموصَى إليهما بقيادة الثورة هما: محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية (ت 145هـ/763م) وأخوه إبراهيم بن عبد الله (ت 145هـ/763م)، اللذان انخرطا في النشاط السري الساعي لتقويض الدولة الأموية، وهو نشاط كان مشتركا بين مجموعة من الهاشميين بفرعيْهم العلوي والعباسي.
على أن ذلك النشاط الثوري ظل الجهد الأكبر فيه من نصيب العباسيين بعد عزوف معظم العلويين عن النهج الثوري، وحسبما يُفهم من مقوله جعفر الصادق: “إنا لا نخوض في الأمر حتى يتلاعب به هذا وأولاده، وأشار إلى المنصور (أبي جعفر ت 158هـ/776م)”؛ حسبما يرويه الشهرستاني.
ثم أطلق الرجلان العلويان بعد سقوط الأمويين وقيام الدولة العباسية ثورتهما -في كل من المدينة والبصرة- على نظام ابن عمهما الخليفة الهاشمي المنصور، وذلك بأن أعلنا إمامة النفس الزكية فـ”بويع له في الآفاق”؛ وفقا للإمام الأشعري في ‘مقالات الإسلاميين‘. ويفيدنا الطبري بأنه كان ضمن مبايعيه “جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم”.
تمهيد حاسم
على أن النص الذي أوردناه أعلاه عن جعفر الصادق -متنبئا فيه بوصول العباسيين إلى السلطة قبل العلويين- يلفت الأذهان إلى الإسهام الظرفي الكبير والمحفِّز الذي قدمته ثورة زيد وابنه يحيى فسرّع حركة أحداث الثورة العباسية، بعد ركود هيمن طوال أربعة عقود على المشهد السياسي العام فيما يتعلق بالثورات ذات المنحى الإصلاحي وخاصة تلك المدعومة من العلماء.
ومما يؤيد ذلك أن الدعوة العباسية حين انطلقت سراًّ -مع بداية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي- أمَرَ مخططوها كلّ من دعا لنصرتهم “أن يدعوَ إلى الرضا من آل محمد ﷺ ولا يسمي أحدا” بعينه من الهاشميين؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
وظل الصف الهاشمي موحَّدا إلى ما بعد نجاح الثورة العباسية وقيام دولتها، فـ”كان المنصورُ أولَ من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبل شيئًا واحدًا”؛ حسب السيوطي في ‘تاريخ الخلفاء‘.
ولعل هذا الربط الظرفي -بين الانطلاقة الميدانية لثورة العباسيين سنة 129هـ/748م وما تمهّد لهم من مناخ ثوري متأجج حصل بفضل زخم ثورة زيد وابنه- هو ما قصد الإشارةَ إليه عَرَضاً الإمامُ المعتزلي القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت 415هـ/1025م) حين تطرق -في ‘تثبيت دلائل النبوة‘- إلى ذكر هذه الثورة.
فقد قرن الهمذاني -في سياق واحد- اندلاعَ ثورة العباسيين “بصنيع الوليد بن يزيد بن عبد الملك وما أتى من شرب الخمور والمجاهرة بذلك، فأثار بنو العباس ودعاتُهم أهلَ خراسان بذلك، فقدم بنو العباس على أمر مُمهَّد وجندٍ مُجنَّد”. كما ربط المقريزي بين أحداث ثورة زيد ونهاية الدولة الأموية، فقال إنه “بعد قتل زيد انتقض ملك بني أمية وتلاشى إلى أن أزالهم الله تعالى ببني العباس”!!
دعم علمائي
كان لمعظم علماء أهل السنّة موقف سلبيّ انتقادي من تصرفات أمراء بني أمية، رغم ما كان لدولتهم من فتوح كبيرة نشرت الدين مشرقا ومغربا، وما عاشه المسلمون من وحدة جامعة.
ولعل خير معبِّر عن تلك المواقف الانتقادية ما نقله الطبري عن الإمام التابعي سعيد بن جبير (ت 95هـ/715م) من تحريض لنظرائه من العلماء في ثورتهم مع ابن الأشعث: “قاتلوهم ولا تأثَّموا (= تتحرجوا) من قتالهم -بنية ويقين- على آثامهم، قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبّرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة”!!
وكذلك قول عامر الشَّعْبي (ت 106هـ/725م) فيهم بالمناسبة نفسها: “يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فَوَالله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعملَ بظلم، ولا أجْوَرَ منهم في الحكم، فليكن بهم البدار”!!
ومما زاد حدَّةَ هذه الانتقادات أن أمراء بني أمية لم يعدموا من علماء السلاطين من يقلل لهم من شأن انحرافاتهم في الحكم، بل إن بعضهم منحهم العصمة من المساءلة الأخروية عليها؛ فالذهبي يحكي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنّ يزيد بن عبد الملك (ت 105هـ/724م) لما تولى الخلافة سنة 101هـ/720م “قال: سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م)..، فأُتِي بأربعين شيخاً فشهدوا له: ما على الخلفاء حساب ولا عذاب”!!
وفي سياق هذا التذمر الجامح من الحكم الأموي تتنزّل مواقف علماء كُثُر (فقهاء ومحدثين) وفِرَق عديدة دعموا ثورة زيد بن علي وابنه يحيى، ثمّ وصيهما على ثورتهما محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم.
وفي هذا الدعم ما يؤكد أن هذه الثورات نالت قبولا لدى العلماء من كل الفرق، ولم تكن ثورات طائفية أو مذهبية، بل كانت ثورة الأمة والجماعة المسلمة ضد جور الحكام الأمويين، وبالتالي كانت ثورته من نمط ثورات الحسين وابن الزبير وابن الأشعث وغيرهم، متحررة من أي انحياز طافي “فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة”؛ وفقا لابن تيمية في ‘منهاج السُّنة‘.
كان الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ/768م) في طليعة الفقهاء المناصرين لهذه الثورة بالفتوى والمال لكونه من فئة العلماء التجار؛ وفي ذلك يقول الإمام أبو بكر الجصّاص الحنفي (ت 370هـ/981م) في تفسيره ‘أحكام القرآن‘: “وقضيته (= أبو حنيفة) في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمْله المال إليه وفتياه الناس سرًّا في وجوب نصرته والقتال معه…، وكان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور”.
ثم يضيف الجصّاص أن مذهب أبي حنيفة الثوري هذا “إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين بهم فُقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام”!!
وهو ما نجد تأكيده أيضا -بعبارات متطابقة- عند الزمخشريّ الحنفي والفخر الرازي الشافعي في تفسيريْهما عند قوله تعالى: ﴿لا ينالُ عهدي الظالمين﴾؛ يقول الزمخشري في ‘الكشاف‘: “وكان أبو حنيفة رحمه اللَّه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ.. وحمْل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمَّى بالإمام والخليفة”.
تفهم وتحفظ
ويبدو أن مقتل زيد لم يجعل أبا حنيفة يتخلى عن ميراثه الثوري؛ إذ يروي الزمخشري أنه “قالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابنيْ عبد اللَّه بن الحسن حتى قُتل! فقال: ليتني مكانَ ابنِكِ”!! وقد نال أبا حنيفة -بسبب موقفه الثوري هذا- الأذى الشديد من المنصور العباسي حتى “قيل إنه قتله بالسمّ لكونه أفتى بالخروج عليه”؛ طبقا للسيوطيّ في ‘تاريخ الخلفاء‘.
ولا ريب أن في موقف أبي حنيفة وغيره من أئمة الفقهاء ما يدحض مقولة أن “أهل السُّنّة” كانوا في وادٍ وأهل البيت في وادٍ آخر؛ بل إنه يمكن القول إنّ جُلّ من ساند زيداً هم من فقهاء التيار الذي تبلور أكثر لاحقا وعُرف بـ”أهل السُّنّة”، بخلاف بعض “الشيعة” ممن عارضوه فسمّاهم “الرافضة”. ولذا كانت ثورة الإمام زيد لحظةَ مفاصلةٍ بين صفوف الشيعة أنفسهم، إذ “مِنْ زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى: رافضة وزيدية”؛ طبقا لابن تيمية في ‘منهاج السنة‘.
واقتداءً بصنيع أولئك الفقهاء؛ آزرت طائفة من المحدِّثين زيدا في ثورته، فدعمَه الإمام التابعي منصورُ بن المُعْتمِر (ت 133هـ/752م) الذي يصفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأنه “الحافظ، الثبْت، القدوة..، أحد الأعلام..، كان من أوعية العلم، صاحب إتقان وتألُّه (= عبادة) وخير”. وكان منصور هذا مع مكانته العلمية جنديا منتظما في المؤسسة العسكرية الأموية “فكان إذا دارت نوبته لبس ثيابه وذهب فحَرَسَ.. في الرباط”!!
ثم يحدثنا الذهبي عن مساهمة منصور -وهو العالم ذو الخلفية العسكرية النظامية- في حشد العلماء لثورة زيد؛ فيقول: “كان منصور بن المعتمر يأتي زبيد بن الحارث (اليامي التابعي ت 122هـ/741م).. يريده على الخروج أيام زيد بن علي”.
ولما اتهم بعضُ العلماء منصورَ بن المعتمر بالتشيع؛ علّق الذهبيّ على ذلك مدافعا عنه: “قلتُ: تشيُّعُه حُبٌّ وولاءٌ فقط” لآل البيت وليس فيه طعن في الصحابة. ونقل عن أئمة أهل الجرح والتعديل أنه كان أوثق أهل الكوفة.
كما تعدد ثناء العلماء -في عصر زيد وبعده- على ثورة زيد لرفع المظالم وإقامة العدل، حتى إن الإمام ابن تيمية قال -في ‘منهاج السُّنة‘- إن زيداً “لما صُلب كانت العُبّاد تأتي إلى خشبته بالليل فيتعبدون عندها”!!
وهذا الإمام الذهبيّ -مع تسجيله تحفظه على الثورة من حيث ظنية أسبابها وواقع مآلاتها- يصف في كتبه زيداً بـ”الشهيد” مرات عديدة، بل إنه تفهَّم قصْدَه بثورته من جهة الأهداف والغاية، فقال معلقا عليها: “قلتُ: خرج متأوِّلا، وقُتل شهيدا، وليته لم يخرج”!!
المصدر : الجزيرة