الأخبارالعالمية

الأطفال ثنائيو اللغة.. هل يصبحون “بلهاء وفاقدين للهوية”؟

الأطفال ثنائيو اللغة.. هل يصبحون “بلهاء وفاقدين للهوية”؟

من حين لآخر تظهر، على ساحة وسائل التواصل الاجتماعي، نقاشات متنوعّة حول السن المناسب للبدء في تعليم الطفل لغة ثانية. غالبا ما يكون هناك الكثير من الأطراف في هذا الجدل، لكنك ستسمع دائما عن تلك المخاوف الواضحة من أن الأطفال ثنائيي اللغة سيصبحون أكثر تشتتا وأقل ارتباطا بهويّاتهم، خاصة حينما يدخل إلى جوقة النقاشات أب أو أم لطفل تعلم لغتين معا فيقول إن أكثر ما يخيفه هو أن طفله يمزج بين الكلمات من لغتين مختلفتين في أثناء حديثه، ثم يستكمل: “هل يعني ذلك أن طفلي يعاني شيئا ما؟”.

بل ويمتد الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يعتقد بعض الآباء أن تعلّم أطفالهم للغة ثانية في سن صغيرة يمكن أن يؤدي(1) إلى اضطراب في الشخصية، ووصل الأمر بالبعض إلى تصوّر أن ذلك قد يؤدي إلى فصام، مع درجات من القناعة -في المجتمعات الأكثر محافظة- أن ذلك قد يؤدي إلى انفصال الطفل عن هويّته وانتماءاته وربما معتقداته إن فتحنا له الباب لتعلّم لغة ثانية في سن صغيرة جدا، لكن المشكلة الحقيقية التي تدور حولها كل تلك الادعاءات تدور في نقطتين.

هل اللغة الجديدة خطرة؟

الأولى، هي تصوّر البعض أن الدماغ قد صُمم ليتحمل لغة واحدة فقط، لا أكثر، من هنا تنشأ فكرة تقول إننا -حينما نحاول إضافة لغة ثانية- نُحمّل الدماغ فوق طاقته، وهو ما سوف يتسبب في أعراض خطيرة تحدثنا عنها قبل قليل، أما الثانية فهي الثقة الزائدة في النسبية اللغوية، تلك الفرضية التي تقول إن لغتنا تؤثر على ثقافتنا وسلوكنا بشكل ملحوظ، ما دفع البعض لتصوّر أن انفتاح الطفل من سن صغيرة على لغة جديدة قد يسرق هويّته العربية، على سبيل المثال، ويفتح له تقاليد لا تشبه تقاليد مجتمعه.

لكنّ هذين الادعائين، في الحقيقة، لا يقفان على قواعد صلبة. بمعنى أوضح، فإن معظم الأبحاث في هذا المجال لم تجد(2) أي تأثير يُذكر على نمو الطفل لغويا، فمع حلول السنة الأولى كان الأطفال في المجموعات أحادية اللغة وثنائية اللغة ضمن المتوسطات الطبيعية للكلمات الأولى ولغة الأطفال الأولى (الثرثرة غير الواضحة)، بعد ذلك ومع اقتراب السنة الثانية فإنهم يبدأون في تطوير حصيلة المفردات بسرعة هائلة، ثم بحلول السنة الثالثة يبدأ الطفل في ضبط القواعد النحوية.

وكانت بعض الدراسات القديمة(3) قد أشارت إلى أن الأطفال ثنائيي اللغة كانوا أقل في الحصيلة اللغوية من أقرانهم أحاديي اللغة، لكن حتى في هذه الدراسات فإن ذلك قد استمر فقط حتّى عمر السنوات الخمس، ثم أصبحوا مثل أقرانهم، كذلك فإن أحد الدلائل(4) على السلامة اللغوية لثنائيي اللغة هي أن مزجهم للغتين معا جاء في إطار القواعد النحوية الصحيحة بعد عمر ثلاث سنوات، ما يعني أن مزج الكلمات هنا لا يشير إلى أي مشكلات لها علاقة بنمو تعلّم اللغات، ولكن فقط لأن الطفل يعرف مرادفا لها ولا يعرف الآخر، مع فصله الكامل للنحو الخاص باللغتين.

لكن في تلك النقطة سيكون من المهم أن نوضح أن الأمر بالأساس يتعلق بالسياق(5) الذي يتعلم خلاله الطفل لغة جديدة. على سبيل المثال، قد يتصوّر الآباء أن مجرد وضع الطفل أمام التلفاز لمشاهدة حلقات من لغة جديدة قد يساعده على تعلمها بالقدر نفسه، لكن الطفل لا يتعلّم اللغة بالاستماع والمشاهدة، بل بالتفاعل، لذلك فإن الحالات التي تطور لغة ثانية أصيلة غالبا ما تكون ذات علاقة بحالات زواج بين أشخاص من لغات مختلفة، يتحدث الأب مع الطفل بلغة والأم معه بلغة أخرى.

undefined

في النهاية، فإن التعرض للغة الجديدة بقدر(6) نحو 40% من اليوم وبشكل مستمر، حسب بعض الدراسات، هو ما يمكن أن يضع الطفل على خط سير متوازٍ بين اللغتين بحيث يصبح طليقا في كلتيهما، وكلما انخفض أو ازداد التعرض تأثر كل شيء آخر. بالتالي، كون طفل ما غير قادر على تطوير أداء أصيل في اللغة الجديدة غير مرتبط، بأي حال، بتأخر مراحل نمو اللغة الخاصة به، إلا في الحالات التي تعاني حالة تأخر إدراكي بالفعل، ولكن الأمر مرتبط بالسياق الذي تعلم فيه الطفل لغته الجديدة.

بل إن ذلك، بحسب فريدي جينيزي(7) أستاذ علم النفس من جامعة ماكجيل، يطرح على الباحثين في هذا المجال تساؤلا جديدا مثيرا للدهشة، فإذا كان الطفل قادرا بالفعل على تعلم لغتين أصيلتين (من اللغة الأم “Native Language”)، هل يعني ذلك أنه حينما يتعرض للغة واحدة فقط فإن ذلك يعتبر تعرضا زائدا عن الحاجة؟ يفتح ذلك النطاق الباب أمام صانعي السياسات التعليمية لبحث العمر المناسب لتقديم لغة ثانية للأطفال إذا كانت الأمور كذلك.

أضف إلى هذا أن أحد الدلائل، بحسب جينيزي(8)، والتي تطرح عقبة واضحة أمام الادعاء القائل بأن الأطفال الذين يتعلمون لغتين في سن صغيرة يصابون بدرجات من الاضطراب والتأخر، هو أن الأطفال ذوي الصعوبات في التعلّم، وهم يمثلون 6-10% من نسبة الأطفال في العموم، أو هؤلاء من المصابين بمتلازمة داون، لم تكن لديهم مشكلات أكبر أثناء تعلّم لغة ثانية، بمعنى أوضح: طالما أنك تواجه مشكلات، وراثية في الغالب، ربما ستواجه صعوبات أكبر في أثناء تعلّم لغتين مقارنة بلغة واحدة، لكن نتائج التجارب أشارت إلى أن الصعوبات واحدة.

undefined

اللغة والسلوك والتحيّز

من جهة أخرى فإن البعض يقرن تعلم لغة جديدة بتغير هويّة الطفل وانتماءاته في سن حساسة قابلة للتغيير، يعتمد هذا الادعاء على سابقه مع إضافة مهمة تقول إن اللغات المختلفة قد تمنح متحدثيها قدرات إدراكية مختلفة، وبالتالي تمنحهم سلوكا مختلفا، وهي فكرة ترجع إلى مئات السنين، لكنها ارتبطت منذ ثلاثينيات القرن الماضي بعالمي اللغويات الأميركيين “إدوارد سابير” و”بنجامين لي وورف” في بدايات القرن العشرين.

كانت تجارب(9)”وورف” ذات علاقة بالاختلافات النحوية في التعبير عن الزمن بين اللغة الإنجليزية ولغة شعب الهوبي، وهم مجموعة من 6000 فرد فقط تعيش شمال أريزونا، وهي لغة لا تحتوي على زمن، ثم حاول فحص تأثير ذلك على إدراكهم. في النهاية، يصل “وورف” للقول إن “اللغة تُشكّل طريقة تفكيرنا، وتحدد ما يمكن أن نفكر فيه”.

في الواقع، لا تجد(10) تلك الجزئية الأكثر صرامة من “فرضية سابير وورف” أي دعم في وسط علماء اللسانيات أو علم النفس، خاصة حينما تأكد فيما بعد أن لغة الهوبي تتضمن أشكالا من التعبير عن الزمن. إنها، بكل بساطة، خاطئة. لكن هناك جزء من الفرضية أقل صرامة يتحدث فقط عن درجات من التأثير الملاحظ للغة على أساليب تفكيرنا، يجد ذلك الجزء درجة من القبول تتسع يوما بعد يوم، خاصة حينما اكتسبت بعض الزخم التجريبي في العقود الثلاثة الفائتة.

الأطفال ثنائيي اللغة، مثلهم مثل الأطفال أحاديي اللغة، يفضلون التفاعل مع أولئك الذين يتحدثون لغتهم الأم بلهجة أصليةالأطفال ثنائيي اللغة، مثلهم مثل الأطفال أحاديي اللغة، يفضلون التفاعل مع أولئك الذين يتحدثون لغتهم الأم بلهجة أصلية

لكن على الرغم من ذلك، فهناك الكثير من الأسباب التي تدفعنا إلى توخي الحذر الشديد أثناء ممارسة هذا النوع من البحث العلمي الخاص بالنسبوية اللغوية ولو بدرجات ليست كبيرة أو صارمة، فهناك الكثير من المتغيرات التي قد تكون السبب في تلك الاختلافات، مع وجود العامل البشري الذي يرفع نسب الخطأ والبلبلة، يؤكد(11) “غاي دويتشر”، الزميل السابق لكلية سينت جون بكامبريدج، ومؤلف كتاب “عبر منظار اللغة”، أن ما حصلنا عليه إلى الآن هو فقط إشارات إلى وجود علاقة بين كيانات لغوية محددة وسلوك متحدثيها، لكن أن نطور تلك العلاقة فنقول إنها “سببية” هو إلقاء بحجر ثقيل للغاية، ما زلنا في حاجة إلى بحث أطول.

أضف إلى ذلك أنه رغم التغيرات الملحوظة التي تظهر في ثنائيي اللغة مقارنة برفاقهم من أحاديي اللغة، فإن الجزئية المتعلقة بالانفتاح على ثقافات أخرى ليست كما يتصور البعض. على سبيل المثال، كانت دراسة(12) أخيرة من جامعة كونكورديا الكندية، نُشرت في دورية “فرونتيرز إن سايكولوجي”، قد أشارت إلى أن الأطفال ثنائيي اللغة، مثلهم مثل الأطفال أحاديي اللغة، يفضلون التفاعل مع أولئك الذين يتحدثون لغتهم الأم بلهجة أصلية بدلا من أقرانهم المتحدثين اللغة نفسها بلهجة أجنبية.

كانت الدراسة قد اعتمدت(13) على فكرة بسيطة تتضمن تفضيل الأطفال بين صوتين على الحاسب، ليقوم معظمهم باختيار الصوت الأقرب للغتهم الأصلية، بل وقام باحثو الدراسة الأخيرة بوضع مجموعة من الإرشادات لحث الآباء على تعريف أطفالهم بالحقيقة التي تقول إن اللهجات هي طريقة سطحية للغاية للتعبير عن شخصية الإنسان، حيث بدا أن التحيز تجاه الآخر قد يبدأ مباشرة في سن صغيرة مما قد يتطور سريعا لما هو أسوأ.

undefined

اللغة الإضافية تأتي مع بونص

من جهة أخرى، فإن هذا المجال البحثي الذي يفحص فوائد تعلّم لغة ثانية في سن صغيرة يُجمع، بشكل أو بآخر، على تأثيرات إيجابية على القدرات الإدراكية لهؤلاء الأطفال، وتعتمد الفرضيات القائلة إن الأطفال ثنائيي اللغة أكثر تميزا في المهام الوظيفية الإدراكية على فكرة تقول إن استخدام لغتين معا يُمثّل تمرينا مكثفا لاستخدام “الوظائف التنفيذية” الإدراكية، لذلك فإن نقاط التميز تأتي بشكل أفضل في قدرة ثنائيي اللغة على التنقل السريع والكفء بين المهام الإدراكية المختلفة، ما يعطيهم فرصة أفضل لانتباه انتقائي أكثر حدة.

يشير اصطلاح الوظائف التنفيذية(14) (Executive functions) إلى الإدارة العقلية، أي عملية التحكم والضبط للعمليات الإدراكية الأساسية، بما في ذلك قدراتنا على التخطيط مثلا، وحل المشكلات وترتيب الأولويات، وتركيز انتباهنا على شيء بعينه أو أداء مهام متعددة، يتدخل في تلك العملية ثلاثة عناصر نشطة تتفاعل فيما بينها بشكل مستمر، الأول هو “ضبط التثبيط”، المسؤول عن التركيز، ضبط مشاعرنا، والتحكم في تصرفاتنا خلال المواقف القاسية، ثم “الذاكرة العاملة”، تلك التي تعالج المعلومات، ثم تصنف الذكريات كقطع، بذلك نتمكن من أداء وظائف معقدة وفهم أفكار عميقة، بمعنى آخر، فإن الذاكرة العاملة تؤثر على ذكائنا، وأما العنصر الثالث فهو “المرونة الإدراكية”، ويعني قدرتنا على التنقل بين مهام عدة، وقدرتنا -أو سرعتها- على تحويل وجهة نظر إدراكنا من منظور إلى آخر.

لفهم ذلك التعقيد النظري يمكن أن تتخيل موظّفا موجودا الآن في غرفة التحكم بالمطار، يجلس صديقنا، بتركيز شديد ليراقب الطائرات التي تتحرك في الجو، كذلك تلك التي تتأهب للإقلاع، والتي تتجهز للهبوط، مع عدد واسع من المعايير الأخرى كالارتفاع والضغط الجوي وسرعة الرياح، إلخ، ويقوم هذا الموظف بالتنسيق بين كل ذلك فينتظم كل شيء، لكنّ خطأ واحدا في هذا التنسيق بين موعد هبوط وصعود طائرتين مثلا، أو اقتراب أي منهما من الأخرى في الجو لمسافة حرجة، قد يتسبب في كارثة حتمية. تلعب تلك الأدوات الإدراكية الثلاث دور موظف المطار نفسه، وتؤثر جميعها في مجمل أداء الإنسان.

وجد الباحثون أن الأطفال الذين تعرضوا لبيئة ثنائية اللغة كانوا أقدر على تحويل انتباههم سريعا للقواعد الجديدة من رفاقهم.وجد الباحثون أن الأطفال الذين تعرضوا لبيئة ثنائية اللغة كانوا أقدر على تحويل انتباههم سريعا للقواعد الجديدة من رفاقهم.

على سبيل المثال، يمكن لنا تأمل دراسة(15) أخيرة صدرت فقط قبل شهر واحد، من جامعة يورك، جمع الباحثون فيها مجموعتين من الرضع، في عمر 6 أشهر فقط، الأولى لعائلة تتحدث لغتين، والثانية لعائلة تتحدث لغة واحدة فقط، وضع الأطفال من المجموعتين أمام شاشات تظهر فيها مجموعة من الصور في منتصف الشاشة، ثم إلى اليمين أو اليسار حسب لون الصورة الأولى، فإذا كانت زرقاء اللون، على سبيل المثال، ظهرت الصورة التالية إلى اليمين، وهكذا.

أما في التجربة الثانية(16) فقد تم تغيير تلك القواعد، بحيث كان لون الصورة في مركز الشاشة يدل على صورة قادمة في اتجاه مختلف، هنا قام الباحثون بتتبع حركات عيون هؤلاء الأطفال لتقييم درجات انتباههم حينما تم تغيير قواعد اللعبة، وجاءت النتائج لتوضح أن الأطفال الذين تعرضوا لبيئة ثنائية اللغة كانوا أقدر على تحويل انتباههم سريعا للقواعد الجديدة من رفاقهم، من تلك الوجهة فإن القدرة على تحقيق درجات انتباه واسعة ربما تكون مرتبطة، ليس فقط بطبيعة اللغة التي تتحدثها، بل وتلك التي تستمع إليها رضيعا قبل أن تبدأ بالكلام. لكن الأكثر لفتا للانتباه هنا هو الدور الذي يمكن أن يلعبه “الانتباه” والقدرة على تحويله سريعا بسبب اللغة، لأن الانتباه هو المصفاة التي تؤثر في كل القدرات الإدراكية الأخرى.

من جهة أخرى، كانت دراسة(17) من جامعة أوريجون قد أُجريت على مجموعة مكوّنة من 1146 طفلا، تم تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات على أساس إجادتهم للغة: الذين يتحدثون الإنجليزية فقط، والذين يتحدثون باللغتين الإسبانية والإنجليزية، ثم مجموعة ثالثة تضم الذين تحدثوا الإسبانية فقط في بداية الدراسة، ولكنهم -خلال فترة المتابعة والتي امتدت إلى سنة ونصف- كانوا قادرين على التحدث بالإنجليزية بطلاقة مع الإسبانية.

undefined

تضمّنت الاختبارات حث الطفل على ممارسة لعبة تطلب منه أن ينقر بالقلم على الطاولة مرة واحدة كلما قام المدرس بالنقر مرّتين أو العكس، هنا يمنع الطفل نفسه من تكرار ما يفعله المدرس ويضطر للتحكم في أدائه، بذلك يمكن أن يختبر الباحثون الوظيفة التنفيذية التي تحدثنا عنها قبل قليل والمسماة بـ”ضبط التثبيط”، هنا جاءت النتائج(18) لتقول إن هؤلاء الأطفال الذين امتلكوا لغتين في بداية التجربة كانوا أفضل أداء في الاختبارات، بينما طوّر الأطفال الذين تعلّموا الإنجليزية إلى جوار الإسبانية، شيئا فشيئا، نتائج أفضل في هذا الاختبار مع الزمن، ما يعني أن هناك علاقة مباشرة بين اللغة الإضافية والوظائف التنفيذية لعقل الطفل.

عالم جديد مُهاجر

في الواقع، هناك طيف واسع(19،20،21،22،23) من الأعمال البحثية بهذا المجال يشير إلى قدرة تعلّم لغتين على حث القدرات الإدراكية والمهارات غير الإدراكية على حدٍّ سواء، أضف إلى ذلك أنه قد أُشير كذلك إلى أن تلك القدرة تمتد لتشمل المرضى المصابين بالزهايمر(24)، بحيث يتصور بعض الباحثين أن للغة الثانية قدرة على حث الخلايا الدماغية للعمل بصورة أفضل ما قد يؤخر الإصابة بالمرض أو يؤخر تطوره مع الزمن، كل ذلك يسمح بوجود صورة كليّة تقول بأن تعلّم لغتين أكثر فائدة من تعلّم لغة واحدة.

لكن دعنا في تلك النقطة نوضح أن الأمر ليس سحريا(25)، في الجهة المقابلة من المجموعات التي تتشدق بضرورة الحفاظ على الخصوصيات الثقافية، والأخرى يمينية التوجه أيضا والتي تأمل أن يتحدث العرب والمكسيكيون والبرازيليون اللغة الإنجليزية طالما أنهم على أرض بريطانية أو أميركية (بحسب عدة حوادث شهيرة مؤخرا)، تتطرف بعض المجموعات بالحديث عن الفوائد الجمة للثنائية اللغوية وكأننا نتحدث عن الترياق الذي سيحيل عقولنا إلى ما يشبه سوبرمان، بعد قراءة إحدى تلك المقالات والتدوينات التي تتحدث عن روعة تلك الثنائية اللغوية قد تتصور أن ثنائيي اللغة هم نوع آخر من البشر.

ربما لا يعرف البعض أن الثنائية اللغوية تتطور يوما بعد يوم لتصبح الحالة الأعمربما لا يعرف البعض أن الثنائية اللغوية تتطور يوما بعد يوم لتصبح الحالة الأعم

الأمر أن هناك إشارات قوية إلى أن الثنائية اللغوية أمر مفيد حقا، خاصة في مرحلة من حياة الطفل تتطور فيها قدراته الإدراكية بسرعة شديدة وتنشط وصلات دماغه بطريقة غير مسبوقة، ما يساعد على دعمه مستقبلا، طبعا بجانب مجموعة أخرى من المزايا المهمة والتي تتعلق، على سبيل المثال لا الحصر، بالقدرة على حصول وظيفة مستقبلية، أو بقدرة لغة جديدة على السماح لك بالاطلاع على مصادر مكتوبة ومسموعة ومرئية أكثر، وهذا هو أمر أكثر وضوحا في المتحدثين بالإنجليزية بطلاقة من العرب، حيث يمكن لك على سبيل المثال أن تطلع عبر اللغة الإنجليزية على محتوى متميز وأكثر غزارة بفارق شاسع من المعارف.

في النهاية، نعرف أن هناك 192 دولة في هذا العالم، ونحو 7000 لغة، ربما لا يعرف البعض أن الثنائية اللغوية تتطور يوما بعد يوم لتصبح الحالة الأعم. في الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال(26)، 56% من الناس هم من ثنائيي اللغة، دول بأكملها تقريبا كسويسرا والسويد، وثلثي ألمانيا، هم من ثنائيي اللغة، أما بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية فإن النسبة تتصاعد ببطء، من 10 إلى 19% خلال ربع قرن، لهذا السبب فقد بدأ مجال بحثي جديد واسع يحاول فحص أثر الثنائية اللغوية (أو تعدد اللغات في العموم) على الأطفال والكبار، خاصة بعد حالات الهجرة الواسعة إلى دول أوروبا وأميركا الشمالية، ما زال هذا المجال البحثي في حاجة إلى المزيد من الدراسات، لكن الإشارات الأولى تدعم الفكرة بوضوح: تعلّم لغة جديدة، وإتقانها، في سن صغيرة، هو أمر مفيد حقا على كل المستويات.

المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى