الأديب الليبي منصور بوشناف خريج السجون الثلاثة
طرابلس- منصور بوشناف أديب ومسرحي وروائي ليبي (69 عاما)، من مواليد بلدة بني وليد جنوب العاصمة الليبية طرابلس في 1954، لفت الأنظار إليه منذ كان في المرحلة الإعدادية حين بدأ الكتابة بمسرح المدرسة في مدينة مصراتة، حيث تلقى تعليمه المتوسط، ليسطع نجمه في المرحلة الجامعية على المستوى الوطني من خلال مسرحياته “الإنسان والشيطان”، و”تداخل الحكايات في غياب الراوي”، وصولا إلى مسرحيته الأشهر “عندما تحكم الجرذان” التي عرضت على مسرح جامعة بنغازي منتصف السبعينيات، وعدّها كثيرون لاحقا نبوءة بوشناف بثورة فبراير/شباط 2011.
المسرحية ذاتها تسببت في سجن طالب السنة الأولى بقسم الفلسفة لمدة 12 سنة بين عامي 1976 و1988، قبل أن يفرج عنه بعفو عام برفقة مجموعة من السجناء السياسيين في القضية التي عرفت بـ”أحداث السابع من أبريل”، ليستأنف نشاطاته الأدبية ويصدر أولى رواياته بعد سجنه الطويل متنقلا بين 3 من أشهر السجون السياسية في البلاد (الكويفية، الحصان الأسود، أبو سليم) قضى في كل منها 4 سنوات كاملة دون محاكمة أو تهمة واضحة.
الرواية الأولى بعد سنوات السجن -والتي حملت اسم “العلكة”- منعتها الرقابة لتناولها مرحلة السنوات العشر للحصار الجوي والاقتصادي الأميركي لليبيا، المرحلة التي غابت فيها الكثير من السلع عن الأسواق، منها العلكة التي صار التجار الليبيون يجلبونها من تركيا بالباخرة “وكان المواطنون يلوكونها بمتعة كونها خير معبّر عن الزمن الضائع الذي مضغهم خلاله حكم القذافي ورماهم في قمامته” كما حاول بوشناف أن يوحي لقرائه، قبل أن يحول بينهما مقص الرقيب.
وإضافة إلى تناولها جانبا تاريخيا من الحياة الليبية خلال فترة مهمة وحساسة يعتبرها بعض النقاد عملا روائيا تاريخيا وتوثيقيا يرصد عقدا من حياة الليبيين -تحديدا في العاصمة طرابلس- فإن الرواية ظلت ممنوعة من النشر والتوزيع في ليبيا حتى سقوط نظام القذافي في 2011.
والغريب أنها منعت مجددا في 2012، لكن المنع هذه المرة أحدث جدلا كبيرا وشد الأنظار إلى الرواية لتترجم عام 2014 إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والتركية، وتشهد انتشارا عالميا وتكتب عنها كبريات الصحف والمجلات الغربية، وتعقد حولها الندوات في عواصم أوروبية وصولا إلى الهند واليابان والولايات المتحدة.
بوشناف ابن الصبر “المعلوك” سجنا والمعجون أدبا لديه حكمته الإبداعية والسياسية عن تجربة تجرعها من مرارة السجن وتأمل الحرية، يرى معاول التنمية بديل الانتقام، ويقول إن الثارات انتحار للمستقبل، وأرسى دعائم معماره الأدبي الخاص ونقشه بإبداعه الفريد.
قبل كل شيء كيف تعرّف المثقف؟ وما الدور الذي يجب أن يقوم به في الوضع الراهن؟
أنا خريج السجون الليبية التي أمضيت فيها زهرة شبابي، تعلمت خلالها الصبر والحفاظ على الوجود في أسوأ الظروف، كما تعلمت الضحك والسخرية، أما المثقف كما أراه فهو منتِج المعرفة وناشرها، ودوره الآن وغدا هو إنتاج المعرفة وتوطين التفكير العلمي، وتصحيح الأخطاء المعرفية والتعبير والدفاع عن حق الناس في المعرفة والحياة الكريمة.
أمضيت 12 سنة في سجون ليبيا، وكانت تجربة قاسية، بل ومدمرة بالنسبة لي على كافة الأصعدة، وتعلمت منها أن القمع يولد قمعا والثأر يولد ثارات، وأن نموذج “المهلهل” و”ثارات كليب” يهلهل أي كيان ويمزقه إلى ما لا نهاية ويحوّل الضحايا إلى جلادين لتستمر المجزرة وانتحار المستقبل
سجنت 12 سنة وخسرت الكثير على الصعيدين المادي والمعنوي إبان حكم القذافي، لكنك لم تأخذ موقفا حادا من أحد، في الوقت الذي جنح فيه كثيرون للانتقام حين أتيحت لهم الفرصة.. فما السبب؟
أمضيت 12 سنة في سجون ليبيا، وكانت تجربة قاسية، بل ومدمرة بالنسبة لي على كافة الأصعدة، وتعلمت منها أن القمع يولد قمعا والثأر يولد ثارات، وأن نموذج “المهلهل” و”ثارات كليب” يهلهل أي كيان ويمزقه إلى ما لا نهاية، ويحوّل الضحايا إلى جلادين لتستمر المجزرة وانتحار المستقبل، ولأنني أرى أنه لا مستقبل لي ولا لأبنائي وأهلي وشعبي إلا بإيقاف الهلهلة وثارات “كليب” ورتق الكيان بمعاول التنمية وليس برؤوس الإخوة الأعداء.
كنت من أشد المعارضين لقانون العزل السياسي الذي أقره المؤتمر الوطني العام في 2012، ولم تتقلد مناصب رسمية بعد سقوط النظام عكس كثير من المعارضين السياسيين، لماذا؟
العزل السياسي كان من خطوات الغباء والجهل السياسي الليبي، وكان قانون موتورين جهلة كانوا أشبه بثيران هائجة لا ترى من المشهد إلا لون ستارة أحمر، نطحوا الحائط ففقدوا نصف قرونهم وفتحوا ثغرات في سور الوطن لفتنة أكبر ومجزرة مهلكة، وأنا لم أعمل في الدولة ولا خبرة لدي لتقلد أي وظيفة حكومية، ولا أصلح أن أكون حاجبا على بوابة مؤسسة، وما أنا إلا كاتب فقط لا غير.
تاريخنا وتجاربنا الطويلة أنتجت لنا معمارا لسرد الحكاية، وحضورا للراوي وحوارا مباشرا مع المتلقي، وامتدادا أفقيا وتشظيا لعناصر الحكاية وهوامش تحاول أن ترفد السرد، وفراغات في تاريخنا لا بد أن تنعكس في معمار سردنا، لذا كنت أحاول أن أخرج عن معمار أوروبا السردي وأن أبني معماري الخاص
رغم أنك تتناول التاريخ والسياسة بل الفانتازيا أيضا في نصوصك فإنك صنعت أسلوبا مغايرا ولم تقع في فخ التقليد، هل يرجع ذلك إلى كفرك بالقواعد الصارمة للرواية من حيث الشكل والأجناس والمقومات؟
لقد ظللت طوال رحلتي أفتش عن خصوصية ليبيا وعن خصوصيتي، الخصوصية في كل مناحي الحياة والتاريخ وفي الفن والأدب، واكتشفت أن الخصوصية لا تعني المواضيع أو المضامين الخاصة بمجتمع ما، بل بمعمار وإيقاع وألوان ورائحة هذا المجتمع الذي أكتب منه وعنه.
إن تاريخنا وتجاربنا الطويلة أنتجت لنا معمارا لسرد الحكاية، وحضورا للراوي وحوارا مباشرا مع المتلقي، وامتدادا أفقيا وتشظيا لعناصر الحكاية، وهوامش تحاول أن ترفد السرد، وفراغات في تاريخنا لا بد أن تنعكس في معمار سردنا.
لذا، كنت أحاول أن أخرج عن معمار أوروبا السردي وأن أبني معماري الخاص، وهذا الذي تهيمن عليه دوائر ومساحات فارغة أنني أكتب على تخوم ميراث الرواية الأوروبية، بل وأحتفي بالخروج والتناشز معها، والأهم أنني أتكئ على إرثي المسرحي في بناء روايتي.
نوبات عدم الاستقرار المتكررة في تاريخ ليبيا الحديث أضعفت التراكمية في الإنتاج الثقافي والفني، فهل تحمل ذلك الهاجس من خلال أسلوبك الخاص وتركيزك على الكيان الليبي في كل ما تكتب؟
قلق وهشاشة وسيولة هذا الكيان المسمى ليبيا وتشظي سردياته المتعاقبة والمنقطعة التي تبدو “روافد” لا تصب في مجرى واحد، بل تتشتت على غير هدى، كل ذلك انعكس بالتأكيد على ميراثنا الثقافي وجعله واحات متباعدة ومنعزلة مكانا وزمانا، معمارا وتأثيثا، لذا ظللت أجوب هذه الواحات والصحارى أحاول جَسْر ما بينها من فراغ سردي مريع، وأن أنظِم حباتها المتناثرة عبر الخرافة والحكاية والأسطورة والتاريخ، وأن أكتب حكاية كاملة.
بالطبع ما كتبته حتى الآن كان صورة لفشل السارد في سرد حكاية ليبية كاملة، لكن رحلتي ما زالت مستمرة في النبش والالتقاط لعلني أنجز ولو شيئا صغيرا.
قلق وهشاشة وسيولة هذا الكيان المسمى ليبيا وتشظي سردياته المتعاقبة والمنقطعة التي تبدو “روافد” لا تصب في مجرى واحد، بل تتشتت على غير هدى، كل ذلك انعكس بالتأكيد على ميراثنا الثقافي وجعله واحات متباعدة ومنعزلة مكانا وزمانا، لذا ظللت أجوب هذه الواحات والصحارى أحاول جَسْر ما بينها من فراغ سردي مريع، وأن أنظِم حباتها المتناثرة عبر الخرافة والحكاية والأسطورة والتاريخ
ما حدث مع روايتك “العلكة” حدث مع كثير من الكتاب العرب، هل يجب أن تكتب أو تترجم للإنجليزية والفرنسية لكي تُقرأ في بلدك؟
بكل أسف لقد توقفنا عن الإنتاج منذ العصر الحجري الحديث، وآخر إنتاجاتنا الحضارية كان الرحى الحجرية والمحراث الخشبي والحكاية والخرافة وبعض الملاحم الصغيرة وقصائد الأطلال ونثر مدينة هشة.
لذا، فإن السلعة المستوردة والمتطورة طردت سلعة منجزنا الحجري الحديث، وصار معيار الجودة يحدده لنا الآخر، وحتى أدبنا وفننا لا يلفت نظرنا إلا إذا لفت نظر الآخر وأقر صلاحيته لاستهلاكنا.
ما السر وراء كل هذا النجاح المستمر لرواية “العلكة”؟ وكيف سيؤثر هذا النجاح في مشاريعك الروائية المقبلة؟
“العلكة” حققت بعض النجاح لدى قارئ آخر وبلغات أخرى غير لغتها، ربما لأنها قدمت نكهة مختلفة لهذا الآخر، ولكنها بالمقابل لا تزال رواية هامشية وفاشلة ومجهولة لدى القارئ العربي، ولم يلتفت لها من قراء العربية “لغتها” غير بعض النقاد والقراء الليبيين.
كيف ترى المشهد الثقافي من خلال الأصوات الصاعدة؟ وإلى أي حد أنت متفائل بالمستقبل الليبي ثقافيا على الأقل؟
ربما من أفضل ما أنتج الربيع العربي بعض الأصوات الجديدة، ورغم قلتها فإنها أكثر جرأة وتمكنا وإيمانا بقيم العدالة والنهضة، وبهؤلاء أظل متفائلا بمستقبل أفضل رغم غمامات التخلف والنكوص والنوستالجيا القبيحة التي تهيمن على المشهد.
وعلى الرغم من أنه لم تتشكل ملامح الأدب الليبي بعد الثورة بعد فإن ثمة أصواتا شابة جديدة واعدة تبدو أكثر عمقا وصدقا من أجيال “العلكة” التي أنا جزء منها.