مقالات

اشتياق الكناني تكتب: خاطرة: حين عدتُ إلى غرفتي بعد عامين من الحرب

اشتياق الكناني تكتب: خاطرة: حين عدتُ إلى غرفتي بعد عامين من الحرب

 

 

عدتُ اليوم إلى غرفتي، لأول مرة منذ عامين من الغياب… عامان من الحرب، من الهروب، من الخوف الذي لا يُروى.
كان الإحساس غريبًا، كأنني أطرق باب ذاكرة لم تعُد تعرفني، أو كأنني أعود إلى مشهدٍ كنتُ بطلته، لكنه الآن يُعرض بدون روح.

يوم خرجت، كانت غرفتي جميلة كما اعتدتها…
مرتبة، دافئة، كأنها تحتضنني بصمتها.
خزانة ملابسي، مكتبي، سريري، ديكوري الذهبي، تسريحة شعري وعليها كريماتي، فرشاة شعري، مشطي الخشبي، ومرايتي…

مرايتي، حيث كنتُ أتعانق مع نفسي، أتصافح مع ملامحي، أضحك معها ونضحك معًا…
أنا ونفسي، ونفسي وأنا. لقاءٌ صامتٌ لا يسمعه غيري.

واليوم، كل شيء مكسور.

من سرق هذه التفاصيل؟
من أخذ غرفتي وترك مكانها أشلاء حطام؟
أين مصحفي؟ أين سجادتي؟ أين ركني المفضل؟

ركني ذاك… حيث كُرسيي الأصفر الخشبي، الذي كنت أجلس عليه لأفكر، لأتأمل، لأهرب إلى صمتي حين يعلو ضجيج العالم من حولي.
هو أكثر من كرسي… كان مكاني، مساحتي الخاصة، وطنٌ صغير داخل الوطن.

وأين سماعتي الحمراء؟ أين صوت مصطفى سيد أحمد حين يغني:

*”سافر…
محطات الوداع، ضجّت قدامك،
ووراكا بلقاك… سماك غناي.”*

وكنت أنا من سافرت، في رحلةٍ لم أرغب فيها، ولم أخترها.
كل شيء حدث لأن الجنود قرروا أن يتقاتلوا خارج نافذتي، ولأن بيتي لم يعد صالحًا للحياة.

فكان عليّ أن أنجو… وأترك مكاني.
ذلك المكان الذي شكّلني، وصنع يومي، وصوتي، ومزاجي، وذاكرتي.

لكن العودة ليست كما ظننت.
المكان لم يعُد مكاني…
الغرفة لم تعد غرفتي.
من تبقّى فيها ليست سوى بقايا: أوراق أكلها الفأر، أتربة غطّت الذكريات، آثار خطوات الغرباء، وبقايا الرصاص، وفوضى من مرّوا ولم ينتموا.

هكذا أصبحت منازل أهل السودان…
خرائب لها مفاتيح ولا أبواب،
ظلال بيوت لم تعُد بيوتًا،
وذكريات نازحة، تمامًا كأهلها…
تحمل في قلبها الوطن، وتبحث عن مكان يشبهه.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى