إشتياق الكناني تكتب : حديث لم ينتهي… من تجليات حمى الضنك

إشتياق الكناني تكتب : حديث لم ينتهي… من تجليات حمى الضنك
في **مستشفى التهامي**، حين تدخل عيادة د. صلاح، أخصائي الباطنية، تمرّ عبر ممراتٍ ضيقة وصالات صغيرة تفوح منها رائحة الدواء والمحاليل الوردية.
المرضى في كل زاوية، أجسادهم أنهكها التعب، ووجوههم تشهد على صراعٍ طويل مع الحمى — الضنك، الملاريا، التيفوئيد… كلها ضيوف ثقيلة على أجسادٍ أنهكتها الحرب قبل أن تضعفها الأوبئة.
كلما دلفتُ نحو تلك الصالة، شعرت أن حمى الضنك التي في جسدي تُلقي التحية على أسرتها الكبيرة هناك؛ على الوجوه المتعبة والأجساد التي خذلها الإرهاق.
كنتُ أتساءل في نفسي:
لماذا يهاجمنا المرض نحن فقط؟
نحن الذين خرجنا من القذائف والمسيرات والصواريخ وما زلنا مهددين بها كل يوم!
لماذا تطاردنا الأوبئة أيضًا؟ أجسادنا مرهقة يا حمى الضنك… فارفقِي بنا قليلًا.
—
### **من الطبيب العمومي إلى د. صلاح**
تبدأ الرحلة بمقابلة الطبيب العمومي، ثم تنتهي سريعًا حين يُحال المريض إلى الأخصائي.
كان طبيبي العمومي يافعًا، قليل الخبرة، متسرعًا في قراراته. لم يهتم بتاريخي الطبي، فازدادت حالتي سوءًا بسبب أدوية كتبها دون تمعّن، كادت تكلّفني حياتي.
لكن كما تقول المقولة الشعبية: *«عُمر الشقي بقي».*
حين وصلت إلى عيادة د. صلاح، جلست أنتظر دوري، وإلى جانبي كانت تجلس طفلة هادئة حينًا، مشاغبة أحيانًا أخرى.
كانت تعدّ الأرقام بصوتٍ خافت، لكنها في كل مرة تتوقف عند الرقم خمسة، ثم تعيد العد من البداية.
قلت لها بلطف:
– بعد خمسة يأتي ستة.
فقالت بابتسامة واثقة:
– ستة مافي هنا!
نظرتُ حولي حائرة، فاقتربت وقالت وهي تشير بيدها الصغيرة:
– احسبي معي: الحائط واحد، الستائر اثنين، المقعد الثالث، نحن الجالسون أربعة، و«الكانيولا» الخامسة عندنا كلنا.
ضحكت وقلت:
– وماذا عن خلف هذه الأبواب؟
أجابت بثقة طفولية:
– نحن أيضًا.
عندها فهمت… في مخيّلة تلك الطفلة نحن جميعًا «خمسة» فقط — نتشارك نفس الألم، نفس الوريد المثقوب، ونفس الرجاء في الشفاء.
—
### **الطفلة التي لم يرها أحد**
غادرت الطفلة وهي تواصل العد: واحد، اثنان، ثلاثة… ثم اختفى صوتها بين الزحام.
قبل أن تغيب، التفتت نحوي وابتسمت ابتسامة وداعٍ لم تُمحَ من ذاكرتي.
ابتسمتُ بدوري، فضحكت أمي وقالت:
– مع من تضحكين؟
قلت:
– مع الطفلة التي كانت تجلس بجواري!
فقالت بدهشة:
– أي طفلة؟ لم أرَ أحدًا بجانبك!
تجمدت في مكاني…
هل كنت أُهذي؟ هل وصلت الحمى إلى رأسي فصرت أرى ما لا يُرى؟
تلفّتُّ حولي، لكن لم ينتبه أحد، فالكل غارق في ألمه.
—
### **النداء**
قطع شرودي صوت الممرضة:
– اشتياق!
رفعت رأسي. حان دوري.
تساءلت: أي مفاجأة تنتظرني خلف هذا الباب؟
كنت أعلم أنني إن دخلت، فلن أخرج كما أنا.
رحلة جديدة تنتظرني — مع الأدوية، المسكنات، رائحة الدم، والمحاليل التي تغزو الوريد كجنودٍ لا ترحم.
لكنّي تمسكت بأرقام تلك الطفلة.
كلما اقتربت من الباب كنت أهمس لنفسي: واحد، اثنان، ثلاثة…
وانفتح الباب.
وانفتحت معه رحلة أخرى من الألم… والأمل.
—
**يتبع…**





