إبراهيم شقلاوي يكتب: ..وجه الحقيقة..ملامح حكومة التأسيس والانتقال

إبراهيم شقلاوي يكتب: ..وجه الحقيقة..ملامح حكومة التأسيس والانتقال
يأتي تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء في لحظة سياسية مفصلية في تاريخ السودان، إذ يواجه مهمة إعادة تأسيس الدولة من جديد. فبعد سنوات من الانهيار، والانقسامات السياسية ، تبدو مهمة الحكومة الجديدة أشبه بعملية إنقاذ شاملة تتطلب قرارات شجاعة، وهيكلة عقلانية لمؤسسات الحكم، مع تحقيق توازنات جديدة تحكمها مصلحة السودان.
منذ سقوط نظام البشير في 2019، ظل السودان يترنح تحت وطأة أزمات متداخلة: فراغ تشريعي، تدهور اقتصادي، هشاشة أمنية، وتفكك اجتماعي، بلغت ذروتها مع الحرب الأخيرة التي عمّقت الجراح وأعادت طرح أسئلة الانتقال والتأسيس.
جاء تعيين إدريس في ظل غياب مجلس تشريعي فاعل ، وانكفاء القوى السياسية على صراعاتها الصفرية الداخلية، مع محاولات الحركات المسلحة الاحتفاظ بوزارات مؤثرة رغم انتهاء التفويضات وفق اتفاق جوبا، وهو ما يطرح سؤالًا حول مدى إمكانية تحقيق التوازن بين إعادة تأسيس الدولة وتمثيل هذه الأطراف.
يبرز إدريس وسط هذه التحديات كشخصية ذكية، ومستقلة، وتوافقية، ذات بعد دولي، قادرة على التحرك في المساحات المتاحة لبناء مسار جديد، ولو بشكل تدريجي.
من المؤشرات اللافتة على منهج الحكومة المرتقبة ما تسرّب من تعديلات هيكلية في الجهاز التنفيذي، تمثّلت في دمج وزارات النفط والكهرباء والسدود في وزارة موحدة، بما يعكس توجهًا نحو تكامل قطاع الطاقة وتحقيق كفاءة في إدارة الموارد، وهو توجه ضروري في ظل التدهور الاقتصادي وتراجع خدمات الطاقة التي تُعد من ركائز إعادة الإعمار ومدخلًا لجذب رأس المال الأجنبي.
كذلك دمج وزارات الري والموارد المائية والزراعة تحت مظلة واحدة، ما يعكس إدراكًا لأهمية العلاقة بين إدارة المياه والأمن الغذائي، خاصة بعد التدهور الذي شهدته البلاد في بنيات الري وغياب الاستراتيجيات الحاكمة، إلى جانب النزاع على الموارد الطبيعية وتراجع الإنتاج الزراعي.
ثمة حديث أيضًا عن عودة وزارة الموارد البشرية والعمل، في إشارة واضحة إلى نية الحكومة معالجة مسألة إصلاح الخدمة المدنية وتنظيم سوق العمل، كجزء من استراتيجية أوسع لتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقرار الوظيفي.
ويرجح استحداث وزارة للتكنولوجيا والبيئة والطاقة المتجددة، ما يمثل تحوّلًا نوعيًا في رؤية الدولة السودانية لما بعد الحرب، إذ تسعى الحكومة — لأول مرة — إلى مواءمة التنمية الاقتصادية مع التحول الرقمي والتحديات البيئية، بما يعزز التوجه نحو بناء اقتصاد معرفي مستدام.
أما وزارة حقوق الإنسان والشؤون القانونية، فتجسّد استجابة تعبر عن التزام الدولة بإصلاح يعالج الانتهاكات، يعيد بناء الثقة مع المواطن، ويربط العدالة بالسيادة والقانون. تعكس هذه التعديلات مقاربة عقلانية في إدارة الدولة، تتجاوز منطق التضخم الوزاري والمحاصصة التقليدية، وتتجه نحو الترشيد والتكامل الوظيفي، وهي خطوة ضرورية في ظل محدودية الموارد وتآكل البنية الإدارية.
رغم هذا الطموح في إعادة هيكلة الجهاز التنفيذي، لا يزال المشهد السياسي معقدًا. فالحكومة المنتظرة ستمنح، وفق التسريبات، سبع وزارات للحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، دون أن تشمل وزارة المالية التي كانت محورًا للجدل طيلة السنوات الماضية. تعكس هذه الخطوة محاولة للموازنة بين إشراك هذه القوى في الحكم وضرورة تحرير المؤسسات المالية من ضغوط المصالح الحزبية.
في هذا السياق، جاءت تصريحات رئيس حركة العدل والمساواة، د. جبريل إبراهيم، لتؤكد أهمية منح التشكيلة الوزارية وقتًا كافيًا لضمان التمثيل الفعّال، حيث قال عقب لقائه مع إدريس: “بحثت معه كيف يمكن أن تسير الأمور العامة بطريقة سريعة وجادة. رئيس الوزراء بذل مجهوداً كبيراً في الإحاطة بالجوانب المختلفة، ويمضي في الاتجاه الصحيح”، بحسب ما نقلته “شبكة الخبر”. يعكس هذا التصريح تقاربًا بين الحركات المسلحة ورئيس الوزراء، ويفتح بابًا لمزيد من التفاهمات في المرحلة المقبلة.
في ظل هذه المعادلة، يبدو واضحًا أن الدكتور كامل إدريس ربما يعتمد نهجًا تكتيكيًا في إعلان التشكيل الوزاري، في محاولة لكسب الوقت وبناء توافقات أوسع مع الكتل السياسية للتأكيد على فكرة استقلالية الحكومة. وقد أشارت مصادر مطلعة إلى أن بعض الحقائب لا تزال محل تفاوض، حيث برزت أسماء ذات خبرات واسعة في عدد من المجالات المهنية، مما يبرر هذا التأني في تشكيل الحكومة.
اللافت أن تحركات إدريس لم تكن محصورة في الغرف المغلقة، بل امتدت إلى الميدان، حيث قام بزيارات لمؤسسات أمنية سيادية، مثل جهاز المخابرات، والشرطة، والقوات المسلحة، إضافة إلى لقاءات مع أعضاء مجلس السيادة من عسكريين ومدنيين. كما أجرى زيارات للمواطنين، وأدى صلاة العيد وسطهم، في دلالة على رغبته في كسب الشرعية الشعبية المباشرة بعيدًا عن النخب المتصارعة.
نجاح رئيس الوزراء في مهمته مرهونٌ بقدرته على تجاوز منطق المحاصصات، وفرض منطق الدولة على منطق الغنيمة. كما أنه مرهون بإطلاق إصلاحات حقيقية تُعيد بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم، وتضع السودان على سكة التعافي.
في ضوء ما تقدمه “وجه الحقيقة”، يمكن القول إن حكومة كامل إدريس تمثل محاولة جادة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. عبر تقليص عدد الوزارات، واستحداث أخرى تعكس أولويات ما بعد الحرب، ويبقى نجاح هذه التجربة رهينًا بقدرة رئيس الوزراء على بناء
فريق عمل متجانس ومتماسك، قادر على ترجمة هذا الطموح إلى سياسات عملية. فإما أن تكون هذه الحكومة بداية لتأسيس جديد، أو محطة أخرى في مسار الانتقالات الفاشلة التي أرهقت الوطن واثقلت كاهل الشعب.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 9 يونيو 2025 م Shglawi55@gmail.com