مقالات

إبراهيم شقلاوي يكتب:..وجه الحقيقة..حكومة الأمل: الانتقال أساسه المعلّم

 إبراهيم شقلاوي يكتب:..وجه الحقيقة..حكومة الأمل: الانتقال أساسه المعلّم

 

 

من أصعب المواقف التي يواجهها الكاتب حين يكتب عن المعلّم، أنه يشعر وكأن عينًا فاحصة تتأمله، تقرأ كلماته بعين الناقد والمربي في آنٍ واحد. فالمعلّم بطبيعته يفتّش عن جوهر المعاني وجودة التعبير ودقة الكلمة، وهو في مهنته كالصانع الماهر، يعمل بيقظةٍ وحبّ، ويبذل جهده ليُقدِّم الأفضل.

لقد تعلّمنا منهم، في بواكير حياتنا، أن نبحث عن الحق ونصنع النجاح، وأن نبني انفسنا على أسسٍ صلبة. هم قدوتنا في العمل والإصلاح، وإيمانهم بأن إصلاح الإنسان هو أسمى الغايات يجعلهم أقرب ما يكونون إلى رسل الهداية والعلم والتنوير .

من منا لا يذكر معلّميه الأوائل: أنا أذكر الشيخ عوض زايد، محمد الحسن، عبد الرحمن البر، حسن عبد الله جاد الله، محمد سيدون، الفاضل بابكر رحمة الله، صديق المهدي، إبراهيم الجوهري، عثمان اللدر، وغيرهم ممن زرعوا فينا حبّ المعلم و العلم، وجعلوا من الكلمة نورًا ومن الصبر طريقًا.

في هذا اليوم العالمي للمعلم الذي يحتفل به في الخامس من أكتوبر من كل عام، تخليداً لذكرى توقيع توصية اليونسكو ومنظمة العمل الدولية عام 1966 بشأن أوضاع المعلمين، والتي أرست المعايير العالمية لحقوقهم وواجباتهم وظروف عملهم.

وتُشارك في الاحتفال بهذا اليوم كل دول العالم عبر فعاليات وأنشطة متنوعة، تعبيراً عن الامتنان للمعلمين، وتأكيداً على جودة التعليم، لذلك نقف إجلالًا لتلك القامات التي تبني الأمم عبر بناء الإنسان.

فالمعلم لا يلقِّن المعرفة فحسب، بل يزرع في العقول حبّ السؤال وشغف الابتكار ، وفي النفوس قيم الاكتشاف والإبداع ، ويعيد تشكيل مفاهيم جودة الحياة كل يوم.

وكلمات التجاني حاج موسى المعلم صاحب الحرف النضر “متشكرين ومقدّرين يامعلمات يا معلمين ” ستظل شاهدة على أن رسالة التعليم في وعينا وفي ثقافتنا كانت – وستبقى – رمزًا للعطاء الإنساني اللامحدود.

التعليم في جوهره كما نعلم ليس تلقينًا، بل صناعة إنسان، عبر مثلث القيم: الحق، والخير، والجمال. تلك القيم التي يُبنى عليها الوطن وتنهض بها الأمم ويتمثلها الأوفياء لهذا الوطن . واليوم، ونحن نعيد التفكير في مستقبل بلادنا بعد الأزمات والحروب ومحاولات الاختطاف، يصبح التعليم هو حجر الزاوية في بناء المجتمع القادر على النهوض بعقلٍ واعٍ ونفسٍ مطمئنة ووعي متجدد.

أما المعلّم الحقيقي فهو الذي لا يكتفي بدوره داخل الفصل، بل يكون قدوة في الحياة. ومن تجربتي الخاصة، أرى أن أبي و أمي – وأمهاتنا جميعًا – كنّ أوائل المعلّمات في بيوتنا بل في كل حياتنا ، غرَسن فينا النظام وحبّ التعلّم والإصرار على النجاح.

لكن المعلّم اليوم، وسط هذه التحديات التي تمر بها بلادنا، يحتاج إلى أكثر من كلمات التكريم. يحتاج إلى سياسات عادلة وقوانين ملزمة تحفظ كرامته وتوفّر له بيئة عملٍ جاذبة، لأن كرامة التعليم تبدأ من كرامة المعلّم.

وهنا يأتي دور حكومة الأمل، التي ينبغي أن تجعل من المعلم نقطة البداية لكل إصلاح ولكل مشروع نهضوي، من خلال تحسين أوضاعه المعيشية والمهنية، وتدريبه المستمر ورفع كفاءتة، وتوفير بيئة تعليمية آمنة ومحفزة.

لقد أدركت اليابان هذه الحقيقة مبكرًا، فجعلت من المعلّم بطلًا قوميًا، ورفعت مكانته الاجتماعية والاقتصادية، واستثمرت في تطويره، فكان ذلك سرّ نهضتها، جعلت من المعلمين حجر الزاوية في واجبات الدولة . فقد خصصت الحكومة اليابانية راتبًا مرتفعًا للمعلمين وجعلت منهم أبطالًا اجتماعيين.

فالتقدير المادي والمعنوي للمعلمين كان أحد الأسباب الرئيسية وراء النجاح الذي حققته اليابان في التعليم وتقدمها على مستوى العالم. كما أنها استثمرت في تطوير مهارات المعلمين وتوفير بيئة تعليمية تشجع على الابتكار والمثابرة.

إذا كانت اليابان قد حققت هذه النهضة بفضل الاهتمام بمعلميها، فلماذا لا نُعطي المعلم في بلادنا نفس القدر من الدعم والاحترام؟ إن التقدير الحقيقي للمعلم هو الذي لا يتوقف عند الكلمات، بل يُترجم إلى أفعال عملية في السياسات العامة.

إن المرحلة التي نعيشها تستدعي مراجعة شاملة للمناهج وللسياسات التعليمية. فالحرب لم تُعطِّل الدراسة فحسب، بل أصابت العلاقة بين المعلّمين أنفسهم، وأضعفت هيبة المهنة. لذلك، فإن أولى خطوات الإصلاح هي استعادة مهنية المعلّم، وإبعاده عن الصراعات السياسية البائسة التي تنتقص من قدسية رسالته.

فالمعلّم هو صانع التغيير، وكل نجاح نحققه كمجتمع هو ثمرة يده وعقله وضميره. إن “حكومة الأمل” التي ننشدها لن تُبنى إلا على هذا الأساس: الاستثمار في الإنسان عبر المعلّم.

فكما بدأت نهضة الأمم من الفصل، يجب أن يبدأ انتقالنا من هناك أيضًا. وهذا هو #وجه_الحقيقة، المعلم هو الأرض الخصبة التي تنبت عليها شجرة الوطن، وبقدر ما نرعاه، تزدهر أجيالنا. فلنُعِد للمعلم مكانته، وللتعليم دوره، وللأمل وجهه الإنساني الأصيل ثم بعد ذلك نكون شهود فاعلين.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 8 أكتوبر 2025م
Shglawi55@gmail.com

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى