مقالات

إبراهيم شقلاوي يكتب: ..وجه الحقيقة..البرهان بين الهجرة والانتقال

إبراهيم شقلاوي يكتب: ..وجه الحقيقة..البرهان بين الهجرة والانتقال

 

 

هناك محطات تحوّل كبرى في تاريخ الشعوب تصنع مجدها أو تكرّس انحطاطها، لكن وحدهم الأذكياء من يصنعون المجد ويتجاوزون الانحطاط. ارتبطت “الهجرة”، سواء كانت فعل جماعي أو فردي، بلحظات الانتقال من الانسداد إلى الانبعاث ، ومن العجز إلى العمل ، ومن الفوضى إلى إعادة التأسيس. لم تكن الهجرة يومًا مجرد مفهوم ديني أو وجودي، بل استراتيجية سياسية وأمنية تُعتمد حين ينهار مركز القرار وتتداعى المعادلات التقليدية، فتُصبح المغادرة فعلًا من أفعال البقاء، تمهيدًا لعودة مشروطة بعد إعادة ضبط الميزان .

وفي هذا السياق، يمكن قراءة انتقال الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني، من الخرطوم إلى بورتسودان بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، بوصفه قرارًا فرضته الضرورات الأمنية، ومناورة تكتيكية ذات بُعد استراتيجي في معركة صمود الدولة.

لقد شكّل هذا الانتقال لحظة فاصلة في مسار الأزمة السودانية، وفتح المجال أمام قراءة جديدة تمزج بين التكتيك العسكري، والحسابات السياسية، ومنطق الدولة الذي لا يُختزل في العاصمة أو القصر الجمهوري، بل يُعاد تأسيسه حيث تتوفر عناصر الاستقرار و السيادة والإدارة والحكم .

وإذا عدنا إلى السيرة النبوية، باعتبارها لحظة تأسيس كبرى في التاريخ السياسي الإسلامي، نجد أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت استجابة لواقع الاضطهاد والتضييق، لكنها لم تكن انسحابًا من الفعل، بل خطوة واعية لإعادة التموضع، وبناء فضاء بديل تتوفر فيه مقومات الدولة والمجتمع.

في المدينة لم يُعاد فقط إنتاج الخطاب الدعوي، بل أُسّست بنية سياسية وأمنية وإدارية، تشكّلت من قوى متعددة الهويات والانتماءات، لكنها توحّدت حول هدف مشترك: حماية الجماعة، وبناء الدولة، وتوسيع مجال العمل السياسي. هذا النمط من التحوّل الاستراتيجي يتكرر، بطريقة ما، في تجربة الرئيس البرهان عندما غادر الخرطوم – العاصمة المنكوبة المطوقة – نحو بورتسودان، التي تحوّلت إلى عاصمة بديلة أعاد من خلالها بناء الدولة التي كانت على وشك الانهيار.

في التحليل العسكري، تُعد إعادة التموضع إجراءً مألوفًا لحفظ القوى في مواجهة عدو متفوقا تكتيكيًا، لكنه حين يُنفذ في إطار مشروع سياسي، يتحول إلى إستراتيجية بناء. وقد وفّرت بورتسودان بيئة آمنة نسبيًا لإعادة تجميع مؤسسات الدولة، وتأمين القيادة، وفتح قنوات دبلوماسية، وإعادة تعريف المشهد السوداني داخليًا وخارجيًا.

استُثمرت هذه المرحلة لإعادة ضبط الخطاب الوطني، واستنهاض المعنويات، ووضع الخطط الحربية، وتحقيق مكاسب عسكرية تدريجية، بدأت بتحرير مناطق استراتيجية، مثل ولاية الجزيرة وسنار وتفكيك البنية القيادية واللوجستية للمليشيا.

في خضم هذه العاصفة، جاءت “هجرة” الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى بورتسودان.. كما هجرة النبي محمد ﷺ، إذ بدأ الحدث انسحابًا طارئًا، لكنه تحوّل لاحقًا إلى إعادة تموضع استراتيجية لإدارة الدولة من موقع أكثر أمانًا وفعالية. فقد تم إجلاؤه من القيادة العامة عبر عملية نوعية للقوات الخاصة ، منعت سقوط القيادة العليا للجيش رهينة بيد المليشيا، وضمنت بقاء رأس الدولة حرًا في قيادة المعركة السياسية والعسكرية.

في تلك الفترة، تكشفت مواقف بعض الدول والأطراف الإقليمية والدولية، ممن سعوا لفرض حلول سياسية عبر واجهات مثل “صمود”، وهي مبادرات مدنية لم تحظ بتفويض شعبي، وشكلت غطاءً سياسيًا لتغوّل المليشيا، وأداة لتعطيل أي حوار وطني شامل. لم تكن هذه الوساطات مساعي للسلام، بل محاولات لإعادة تدوير مليشيا لفظها الشارع السوداني وسقط رهانها عسكريًا.

ومع استعادة الجيش زمام المبادرة، تبرز العودة إلى الخرطوم كتحوّل استراتيجي يُنهي مرحلة إعادة التموضع، ويدشّن مشروعًا تصحيحيًا للدولة. فليست العودة مجرد استرجاع للعاصمة، بل إعادة تأسيس لمركز حكم يعكس تصورًا وطنيًا جديدًا، يتجاوز هشاشة ما قبل الحرب، ويُعيد تعريف السيادة في مواجهة مشروع تمرد مدعوم خارجيًا ومؤيد من بعض الفئات داخليًا.

ينبغي أن يحمل انتقال البرهان مشروع الدولة إلى فضاء اللحمة الوطنية، لإعادة بنائها على أسس الشرعية والمؤسسات. فعودته المرتقبة إلى الخرطوم تشبه – في رمزيتها – العودة إلى مكة، وتمثل لحظة سياسية تُكتب بشروط الواقع لا بأوهام الخارج. فالهجرة الواعية ليست هروبًا، بل تأسيس وانطلاق لإعادة البناء، والعودة المدروسة لتوحيد الناس.

كما علمتنا تجارب التاريخ، من غاندي إلى مانديلا، فإن التحوّلات الاستراتيجية تُقاس بالقدرة على تحويل المحنة إلى مشروع وطني جامع.

وفي السياق السوداني، ووفق ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن استثمار هذه “الهجرة السياسية” على نحوٍ استراتيجي، والعودة إلى الخرطوم بوعي لا بنشوة انتصار، يجب ان تشكل لحظة تأسيس سياسي جاد، يعيد تعريف المركز بوصفه فضاءً للوحدة والتعايش. إنها لحظة ليست لإعادة إنتاج السلطة القديمة، بل لبناء دولة تحتكم للمؤسسات، تحكمها قيم القانون والعدالة الاجتماعية، وتنقل السودان من منطق الغلبة إلى منطق التسامح الذي يعلي قيمة السلم، ويرسخ العيش المشترك والمستقبل الواعد لكل اهل السودان .

دمتم بخير وعافية.
السبت 28 يونيو 2025م Shglawi55@gmail.com

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى