إبراهيم شقلاوي يكتب: مسوا نوركم شوفوا المن جبينها صباح
تظل أم درمان عاصمة الفن والدهشة والجمال، لأنها تجمع بين أهل السودان في محبة وانسجام يفوق جمال ساحل فينيسيا ، ويضاهي عمق كرمكول الذي أبدعه الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال . هذه المدينة الوادعة
تحتضن روح المجتمع السوداني وتعبر عن هويته الفريدة . تحوّل سوق أم درمان في هذه الحرب إلى أنقاض كئيبة تكشف عن مرارة الخيانة والخذلان في من ظننا أنهم سيعبرون بنا إلى بر الأمان .
لكن بفضل الله وبإرادة التجار وأهل أم درمان وحكومة الولاية بدأت عودة الحياة إلى المكان. بالأمس عاد تجار السوق بشوق ومحبة لمهنتهم بعد نظافة وإزالة الأنقاض وتطهيره من التمرد ، الذي لا يعرف ماذا يعني الانتماء للمكان والناس والذكريات ، ولا يفهم أصل المعاني التي يجتمع عليها الأسوياء من الناس . هذا التمرد الظالم لم
يسمع بالعبادي أو قهوة العمال أو يوسف الفكي أو جورج مشرقي ، ولم يزاحم في المكتبة الوطنية لشراء الكتب أو متابعة الإصدارات الدورية التي تأتي من لبنان والقاهرة ولندن عاصمة الضباب .
لا يعرف شيئًا عن سينما كلوزيوم أو دار الرياضة أم درمان ، ولم يتذوق باسطة الدانوب ولا الطيب سيد مكي أو بقلاوة وآيس كريم برعي المصري . لم يجلس أفراد الميليشيا المغتصبة في ميدان البوستة ، ولم يستمتع
أفرادها (الخوارج) بالوجبات الشهية في مطعم الرياضيين ، ولم يستمتعوا بمعلبات العم جادو التي على وشك انتهاء صلاحيتها . لا يعرفون شيئًا عن المدرسة الأميرية، أو محلات آغا ، أو العم الطيب خوجلي ، ولا أبو مرين صانع الجمال وأدوات الزينة التي تزف بها الحسان إلى بيت الحلال .
لا يعرفون مهدي الشريف والأناقة والبدلة الاشتراكية . إنهم لا يعرفون أي شيء غير الحريق وطمس الهوية ومعالم الحياة . في هذه الأيام، بدأ أهل أم درمان في إعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية. لذلك السوق المركب من عدد من الأسواق ، من الصاغة ولأناتيك والأحذية والملبوسات
والعناقريب وحتى الطواقي والمقاشيش لها مكان في هذا السوق التاريخي العجيب . فهو ملتقى أهل أم درمان والزوار الأجانب بما يمثله من تراث ثقافي واقتصادي .
تكتسب الجهود التي ظل يبذلها والي الخرطوم أحمد عثمان حمزة وطاقمه الإداري والشرطة والخلية الأمنية أهمية خاصة لتعزيز الاستقرار وإعادة الأمن لإنعاش الاقتصاد . الجميع الآن يجتهدون رغم أنف الدمار الذي
لحق بالمكان، ويوحدون الجهود لإعادة الحياة إلى هذا السوق الذي يمثل جزءً مهمًا من تاريخ السودان وتراثه الإنساني . يعلم أهل أم درمان أن مدينتهم واحدة من أقدم وأهم مدن السودان ، احتضنت الناس جميعًا دون تصنيف أو جهويات .
ظل سوقها ملتقى للمثقفين والمفكرين وحاضنة للذكريات والتاريخ . شكل مسرحًا للقصائد والأغاني التي تبرز الانتماء لامدرمان دون جنسية أو جواز . عبر الشاعر خليل فرح عن جمالها ومعالمها بطريقة رائعة ، مؤكدًا أنها رمز للأنس الجميل ، من “فتيح للخور للمغالق قدلة يا مولاي حافي حالق بالطريق الشاقي الترام”.
تتمتع أم درمان بموقع جغرافي فريد يميزها عن سواها ، حيث احتضنت مقر المسرح والتلفزيون والإذاعة وأندية الهلال والمريخ والموردة ومقر البرلمان والمستشفى العسكري ومسجد النيلين . أنجبت أم درمان العديد من الشعراء المبدعين مثل عبيد عبدالرحمن وعمر البنا ومصطفى بطران، الذين مجدوا بقصائدهم تراث المدينة،
وأبرزوا مشاعر الحنين والفخر بها . يمثل الأدب في أم درمان جسرًا يربط بين الأجيال ويعكس التحديات المستمرة التي ظل يعيشها أهل السودان . ظل شعراء أم درمان والأدباء يمثلون وحدة السودان وتنوعه ، وعبروا عن ذلك بالأدب والشعر والمسرح والغناء .
يذكر أهل أم درمان وقطاعات المبدعين مداعبة سيد عبد العزيز لتلك الجميلة في وقار حين قال: “مسوا نوركم شوفوا المن جبينها صباح والصباح إن لاح لا فائدة في المصباح ، هل أتاك حديث الكوكب النضاح، قمرة تمطر خمرة حارسها الفضاح لو تعيرنا محاسن شمس للإيضاح”.
بفضل الله وجهد أهل أم درمان الصامدين المحتسبين بدأت الحياة تعود تدريجيًا إلى سوق أم درمان بعد أن طهّر الجيش المدينة من الميليشيات في ملحمة بطولية سيذكرها التاريخ لأنها فاتحة خطة استعادة الأرض والسيطرة على السودان.
بالأمس بدأ النشاط التجاري بصورة متقطعة، حيث ظهرت بوادر العودة في سوق الخردوات والأواني المنزلية وسوق المنتجات الجلدية والخزف، بالإضافة إلى الجزارين وباعة
الخضار . بالأمس القريب عاد رابح عمر وعاد المادح وغيرهم وكانت أولى رسائلهم التي وجهوها لأهل الفضل والخير هي: “أعينونا لإحياء مساجد السوق التي تجمع الناس في لحظات الرهق والدعاء بالأمن وبركة الأرزاق”. لا أرى وجهًا للحقيقة أصدق و أمتع من محبة أهل أم درمان لأم درمان .
دمتم بخير وعافية .Shglawi55@gmail.com