مقالات

إبراهيم شقلاوي يكتب :  النازيون الجدد وضمير العالم..!

 إبراهيم شقلاوي يكتب :  النازيون الجدد وضمير العالم..!

 

 

في مشهد يعيد إلى الأذهان أفظع صفحات التاريخ، تعيش مدينة الفاشرِ اليوم مأساة إنسانية تجعلها في مقدّمة المدن التي كُتب عليها أن تكون شاهدًا على سقوط الضمير العالمي والقيم الإنسانية.

مسرح إبادة جماعية مكتملة الأركان، مسرح يعيد إلى الذاكرة ملامح “الهولوكوست”، تلك المحرقة التي ارتكبها النظام النازي في الحرب العالمية الثانية، حين تحولت الكراهية إلى صناعة منظمة للقتل. واليوم تُستعاد تلك الفظائع في دارفور، على يد مليشيا تتجاوز كونها قوة متمردة إلى مشروع سياسي– إثني يسعى لإعادة تشكيل البلاد بحدّ السكين والنار.

ما يجري في الفاشر يشكّل أخطر تطور في مسار الحرب السودانية. فالمليشيا لم تعد تبحث عن مكاسب تفاوضية، بل عن هندسة سكانية، سياسية جديدة تمهد لسلطة موازية للدولة، تُبنى على العنف، وتدار بمنطق أمراء الحرب الذي عرفته مؤخرا افريقيا جنوب الصحراء .

حرق القرى، والتهجير القسري، والقتل على الهوية، والاغتصاب الجماعي، وحصار المدن. جميعها ليست أعمالًا عشوائية بل أدوات منهجية لتفكيك السودان وتأديب أهله وتحويله إلى جزر قبلية وجغرافية تتحكم فيها البندقية والمصالح العابرة للحدود.

تكرار الجرائم في دارفور والجزيرة وشرقي الخرطوم وشمال كردفان يكشف الطبيعة الإثنية المنحازة للعنف الذي تمارسه المليشيا. إن الهدف ليس السيطرة العسكرية، بل هدم الهوية الوطنية الجامعة للسودان وتحويله إلى خارطة من الكيانات المتنازعة التي يسهل التحكم فيها من الخارج.

أخطر ما في المشهد: تحويل الدولة السودانية من كيان سياسي إلى مساحة متناحرة، تُدار فيها المصالح الدولية عبر وكلاء محليين لا يعرفون القانون.

أمام هذا المشهد المخزي، يبدو الصمت الدولي فضيحة أخلاقية كاملة. المجتمع الدولي الذي تحرك سريعًا في أزمات أقل فداحة، يقف اليوم مشلولًا ومترددًا، وكأنه يحسب المكاسب قبل الدماء.

هذا الصمت ليس عجزًا، بل حسابات سياسية واقتصادية واضحة: دول غربية وإقليمية ترى في المليشيا، قوة مناسبة لموازنة النفوذ والسيطرة علي الذهب والموارد من خلال إحكام القبضة على السودان .

أطراف إقليمية تريد بقاء المليشيا كأداة نفوذ داخل بلادنا . ومؤسسات دولية باتت أسيرة للمساومات لا للقيم. لذلك النتيجة: تحوّل الصمت الدولي إلى مشاركة ضمنية في الجريمة. جرائم إبادة مكتملة الأركان.

التقارير الأخيرة الصادرة عن شبكة أطباء السودان تكشف قيام المليشيا بجمع مئات الجثث من الشوارع ودفنها في مقابر جماعية أو إحراقها. هذه الجرائم الممنهجة ، تُعدّ انتهاكًا مباشرًا: لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 وللمواد (6 و7 و8) من نظام روما الأساسي، وللمادة (17) من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف بشأن احترام جثامين الموتى.

أما على الصعيد الإنساني، فإن البيانات الصادرة عن منظمة الهجرة الدولية ومكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تُظهر أن الفاشر تعيش وضعًا إنسانيًا بالغ الخطورة: عشرات الآلاف نزحوا مشيًا على الأقدام وسط الحصار، ومقاتلو مليشيا الدعم السريع ينتشرون في الطرق لابتزاز المدنيين بإرغامهم علي دفع فدية مالية مقابل النجاة، إضافةً إلى حالات القتل، والاغتصاب وهي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بلا أي لبس قانوني.

الفاشر اليوم ليست قضية إغاثة، بل قضية وجود. فسقوط المدينة فتح الباب أمام مرحلة جديدة من تفكيك السودان وتسليم جغرافية للمليشيات والدول المتصارعة على الموارد. وإذا تمت استعادتها، فستكون نقطة ميلاد لوعي وطني جديد، يعيد تعريف الدولة والعدالة والسيادة الوطنية .

لماذا لا يصنّف الدعم السريع كمنظمة إرهابية؟ السؤال الذي يؤرق كل سوداني وكل ضمير حر: لماذا لا تُدرج مليشيا تمارس الإبادة على قوائم الإرهاب؟ الجواب مؤلم لكنه واضح: لأن بعض القوى تريد الإبقاء عليها كورقة سياسية للضغط و التفاوض. ولأن معايير العدالة الدولية تعاني ازدواجية . ولأن حياة السودانيين، كما يبدو في ميزان العالم لا قيمة لها.

بحسب #وجه_الحقيقة، فإنّ الفاشر تمثل اليوم اختبارًا للشرعية الدولية والالتزام بالقانون العالمي، فإما أن تستعيد مؤسسات القانون الدولي مكانتها في حماية المدنيين وفرض العدالة، أو يُسجّل فشلها علي أطلال مدينة تحكي فصولًا من نازية جديدة وهولوكوست مليشيا الدعم السريع.

التاريخ القانوني والأخلاقي يذكّرنا أنّ الصمت أمام الإبادة ليس حيادًا، بل مشاركة ضمنية في الجريمة. الفاشر اليوم تؤكد أن مصير القانون الدولي ومصداقية الضمير العالمي مرتبطان بمدى القدرة على وقف الانتهاكات ومعاقبة مرتكبيها.

دمتم بخير وعافية.
Shglawi55@gmail.com

إشتياق الكناني

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى